الاثنين، 9 مايو 2016

"عسلية" الثورة

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 9 مايو  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة "عسلية الثورة" - موقع زائد 18- 2016

        يتسم شارع البحر الأعظم ليس باحتضانه فحسب أعداد كثيفة من نازحي الصعيد المنسي الذين استقر بهم المقام في أول محطة لتدريبهم وتأهليهم للالتحاق بمصاف شعب مصر العظيم، (واللي بالمناسبة يعني أهل الصعيد بيقولوا على القاهرة والجيزة "مصر").
بل يتسم بقدرته على تجسيد تناقضات مصر، فيكفي أن تترجل من سيارتك لتمارس رياضة المشي، لتجد نفسك تائها بين عدد العمارات ذات المداخل كثيرة البهرجة المؤذية للعين والتي تعيد للأذهان طقم الصالون المدهب مكللة بعبارات جميلة من نوعية "ادخلوها بسلام آمنين".
حين تحاول أن تتعافى من أثر دهشتك المؤقتة بالخروج من مطار "العمارة" المحلي وتخرج لتلتحم بالشعب حبيبي وشرياني، سيكون في استقبالك عدد من قطعان الأغنام والماعز التي تتجول بحرية تحسد عليها في الشارع الأعظم.
ما يثير الدهشة ليس تواجد الأغنام في الطريق العام حيث ركنة واحدة بالعربية وأنت سايب شباكك مفتوحا ممكن تلاقي راس معزة بتبصلك باستغراب: 

إنت بتعمل إيه في عالمها يا كائن يا بشري،

يا متوحش يا مختبيء في علبتك الصفيح؟! 

اطلعلي بره!


ما يثير الدهشة هو القدرة على التعايش من المحيطين في درجة عالية من الاتساق النفسي والتصالح مع كل شيء، ولربما تلك آفة ليس هذا الشارع فحسب، وإنما هذه البقعة الموبوءة المسماة مجازا الوطن.

قد تأخذك الدهشة فتجد سيدة في منتصف الخمسينيات اختارت الزي الرسمي حيث العباءة السوداء.. تلتزم بما يفرضه عليها قانون الشارع بارتداء حجاب يغطي مفاتنها، وتنثر عليه عددا لا بأس به من  كائنات مجهولة الهوية، لكنها مشعة وبتنور في الضلمة في محاولة تستحق التحية للاجتهاد للوصول بأزمة الهوية الإسلامية لـ”لباس” يليق بالمعاصرة والحداثة، فتجدها تسحب كلب "لولو" وبتتمشي بيه بكل طمأنينة، فينتهي بك الحال في مشهد ولا أروع عن تناغم جميع عناصر الطبيعة من كلاب أليفة ومعيز وأغنام تتقافز بين السيارات وبنايات شاهقة تتراكم لتصنع قبحاً أسمنتياً لا خلاص منه.
سأسمع صوتاً وطنياً مألوفا: 

"ما تعيشوا عيشة أهاليكوا، ما دي بلدكو اعرفوها بقى وبلاش تقرفونا بنظرتكم ليها زي السياح اللي بتنبهر لما بتلاقي حمار معانا في الإشارة" 

(الحمار لا يقصد به أي مواطن صميم واقف معانا على الدائري وقرر في لحظة تجلي إنه يجرب كلاكسه مع أن الإشارة واقفة، المقصود بالطبع الحمار اللي قدره التعيس خلاه يجر عربية كارو في وطننا الجميل جمال مالوش مثال، لربما المقصود به الكائن الـ"حمار" القادر على الاتساق بكل طمأنينة مع كل ما لا يمكن التصالح معه.


وبناء عليه،  فقد قررت أن "اتسق" أنا كمان هي يعني جت عليا. أكمل جولتي الليلية في شوارع ودهاليز البحر الأعظم، أقف أمام "مقلة" يبدو من جلباب صاحبها ذي الفتحة السبعاوية من على الصدر أنه نموذج صعيدي واضح، وأحن إلى "عسلية أمي" (معلشي يا درويش ترف مخل). العسلية ذلك الاختراع المصري الأصيل مهضوم الجناح، فهو نوع من الحلوي ليس بنغاشة البسبووسة أو الكنافة و ليس ببرستيج التورتة أو الجاتوة وأنت لافح العلبة من عند الحلواني الشهير ورايح تخطب (تخيل قررت في يوم تخش على بيت العروسة في أول لقاء تعارف بدستة عسلية، بلاش أحسن وافتكر إني قولتلك).
اعلن انتمائي الأبدي للعسلية كحلوى مصرية تصنفها أمي في بند “رمرمة  الشارع” والتي لجأت إليها كثيرا لإعلان محاولات تمردي البكر على سلطة والدتي في تحديد أوجه إنفاق مصروفي.
أسعى لتثبيت كادر كاميرا عقلي على لحظة عثوري على "هويتي" وانتمائي أخيرا.. اتقدم لرجل الـ"مقلة" طالبة علبة بحالها: يمد يده قائلا: "اتفضلي يا مدام".. اتجاوز حواراً داخليا ملح في مناطحته: "مدام مين؟!"، واتلقف بيدي علبة العسلية لأفاجأ أنها الصورة أدناه:

أضع افتراضا عقليا مبهرا، اترجمه بقولي للرجل: "الله.. هو حضرتك للدرجة دي بتحب الثورة؟"، فيباغتني قائلاً: "ثورة إيه يا حجة؟ مشي حالك؟"
اتجاوز للمرة الثانية رغبة لساني في التلطيش له: "بقى يا راجل من مدام لحجة، كده مفيش تمييز خالص"، لكني لا اتجاوز حكمته الأخيرة "مشي حالك".
لا زلت اتحسس طريقي في اكتشاف الـ"مصر" اللي بيحكوا عنها واللي مابيحكوش، ولازلت اتأمل عن بعد قدرة تلك الـ"مصر" على ابتذال الكثير من الأفكار والمفاهيم وغربلتها وتقييفها لتناسب المزاج غير المفهوم والملقب بالمزاج "العام"، ولازلت اشهد يوميا جماهير غفيرة ارتكنت إلى عبارة صاحب المقلاة، وبقت "تمشي حالها" وبقت بتطور مهارتها في الاتساق مع كل شيء، والتضحية بكل شيء، فيجعلني اتساءل لنفسي قبل أي أحد آخر: "يعني إيه ثورة؟" وقبل أن أباغت نفسي بإجابة سطحية عن هذا التساؤل، تمر بخاطري عبارة الكاتب الراحل هاني درويش حين كتب:


"ثمة قيمة صافية في الوصول بملل المعارك الخائبة إلى حد السكين، حيث على الحواف نتأمل صورتنا المشوشة وصور الآخرين من حولنا بعدسة خالية ونقية للحظة نادرة، فيصبح كل ما لدينا هو الصمت العاجز أمام كل هؤلاء الأبناء المخلصون للزمن العشوائي"- إني اتقادم.

الثلاثاء، 8 مارس 2016

إشكالية الاحتفال باليوم العالمي للمرأة- قراءة ساخرة#1

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 8 مارس  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة- إشكالية الاحتفال بيوم المرأة العالمي- موقع زائد 18- 2016

"إنتي الوليّة"!


        تعد جملة "إنتِ الولية" الإيفيه الأشهر للراحل عاطف السكري المتنكر في صورة يونس شلبي في المسرحية الأكثر جماهيرية “العيال كبرت”، واللي جهود ومغامرات أبطال المسرحية فيها انصبت حول الكشف عن هوية المرأة المجهولة. الانطلاق في البحث لم يكن مستدلا على صفات معينة، أو طرح مسبق سوى أن أى "أوبشن نسائي" يكون قادر على ملأ فراغ السؤال: "مين الولية؟؟".

الفنان "يونس شلبي"- إيفيه "إنتي الوليّة"- مسرحية "العيال كبرت"

     وعلي الرغم من أن لفظ “الولية” يحمل وصمًا شعبويا تختلف السياقات في تفسيره سلبا وإيجابا، إلا أن تركيبة الإيفيه "إنتِ الولية؟" يتم استخدامها شعبويا أيضاً في كثير من الأحيان، لما بنكون بندور على "امرأة بعينها"، بس مابنبقاش عارفين إحنا بندور على إيه تحديدا.

        يشهد الثامن من شهر مارس احتفالا عالميا بيوم المرأة العالمي، وتتبارى كافة المواقع الإعلامية ودوائر الدعم الإيجابي للمرأة في الاحتفاء بنماذج نسائية من وجهة نظرهم تستحق الاحتفاء، وعلى الرغم من المجهودات، حسنة النوايا جدا، لتقديم نماذج إيجابية للمرأة، إلا أن المتابع لما يتم طرحه من أسماء، بتجبرك إنك تتقمص شخصية عاطف السكري، وتسأل: "إنتي الولية؟"، ومين بنقدر نقول عليها/ هن أنها الأحق بزووم الكاميرا كنموذج يمكن الاحتذاء بيه وشحن زمزمية الأمل، وإن فيه تغيير حقيقي على الأرض تقوده امرأة في سياق معين وبمعطيات واقعها.

        ستتبارى كثير من الاستفتاءات في حشد أسماء نساء، لا أعتقد أنهن بحاجة لمزيد من الشهرة، أو لتسليط الضوء على قضاياهن. على سبيل المثال، في العام المنصرم تمّ ترشيح الكاتبة نوال السعداوي من قبل استفتاء عربي كناشطة حقوقية ملهمة للجمهور، فتجد نفسك متسائلاً: "هي ليه الدومينو قفلت على دكتورة نوال"، هل لا يوجد لدينا مناضلات وناشطات في حقوق الإنسان يدفعن نتيجة اختياراتهن ورؤيتهن لفعل الثورة ثمنا غاليا يتراوح ما بين الحبس والاعتقال؟ ولدينا نموذج إنساني حي في ماهينور المصري، أو نموذج فقدناه في الركب، في الشهيدة شيماء الصباغ؟!
أربع سنوات مرت على ثورة يناير، تلك التي أعطتنا قبلة للحياة لازلنا نتعكز عليها حتى اللحظة، ألا يوجد لدينا قصة/ قصص تُروى؟

        هل نبحث عن "ولية"، ولا ندرك من هي التي نبحث عنها؟ أم أننا بالفعل موجودات ونفتقر إلى عدسة الكاميرا التي تصنع مما ننسجه في تفاصيل حياة منهكة يومية نجاحا يستحق الاحتفاء به؟

من هي "الولية" التي تستحق الاحتفاء والاحتفال بها في يوم المرأة العالمي؟!
تدور حولي كادرات تتقاطع بطلاتها في إصرارهن على انتزاع حقوقهن الضئيلة في دائرة الحياة اليومية: حق اختيار ارتداء غطاء للرأس أو عدمه، ومعارك الكثيرات خلال الأعوام الماضية في إثبات هذا الحق، بل وانتزاعه إذا لزم الأمر، وتضحياتهن على طريق العقاب لأنهن خرجن على كتالوج المجتمع المتدلدلق بتدينه، قصص عن بنات يبحثن عن سكن مستقل عن الأسرة، وتعبيرهن عن احتياجهن لمساحة خاصة يمارسن فيها الفن أو الجنون -أو لنقل- ليمارسن فيها فعل الحياة ذاته.. أخريات يقررن ممارسة  فعل اختيار أن تتزوج أو لا، دون الانصياع لهتافات الجماهير إنها"تتستت وتقعد بقى في بيت اللوح.. قصدي بيت العَدَل".أمهات وزوجات وفتيات يقفن على الجانب الآخر من عدسة الكاميرا ، لكنهنّ يقاومن مرارة القهر والهزيمة بتغذية الحبل السري بينهن وبين أحبائهن بالانهماك بالكلية في تفاصيل الحياة اليومية،  ويتحملن وحدهن بكل شجاعة أعباء أن تستمر أسرهن الصغيرة في غياب أحد أفرادها دون جريرة حقيقية. 


        الكثير من النساء اللاتي أخذن قرارا شجاعا بعدم استكمال علاقة زواج تدمر كرامتهن، في مقابل أن يبدأن حياة أخرى قد لا تلوح فيها أي فرص للوقوف على القدمين مرة أخرى، لكن اختيار الانعتاق كان حتميا للنفوس الحرة.
أولئك الباسلات اللاتي اتخذن قرار صفع الفاشية في ذروة تماهيها مع الجماهير المهللة بالقيم والأخلاق والفضيلة، وفضحن فعل السلطة العاهر بكشوف العذرية، والذي تعود ذكراه للتاسع عشر من نفس الشهر، وكأن الشهر ذاته يأبى أن يمضي دون أن يترك وصمة وبصمة لا تنمحي عن كيف ترى السلطة المرأة في صراع الثورة طيلة السنوات المنصرمة.

        أعطيت أمثلة في حدود معرفتي المتواضعة – لا للحصر- وما عشناه في حلم الثورة ولن يكتبه التاريخ عنا، لأن أصواتنا لم تُسمع بعد. لدينا قصص تروى، فقد منحتنا الثورة الأم شجاعة لممارسة الفعل الثوري واستنساخ ما آمنا به في حلم أكبر، ليصبح دوائر صغيرة تتسع، فتحرك المياه الآسنة. تلك الخطوات التي يراها البعض هامشية وغير مرتبطة بـ"نضال" أكبر، لهى جديرة بالتأمل والتناقل والتوثيق، لأننا في صدد نفخ روح الخلق في منظومة قيم تتفق وما نراه نحن، ونبحث عن "ولية" تشبهنا نحن، بمعطيات واقعنا المعقد، ونراها تشتبك معنا في معاركنا الهامشية اليومية.

        نحن بصدد إعادة تفكيك قطع البازل وتركيبها بما يمنحنا ما سلب منا، وما تم إخصاؤنا بعمد لنصبح كائنات مشوهة استغرقت عمرا وحياة ً  كاملة لتدرك ذلك.
نحن بصدد أن نحدث ثورة، سيكون لنا صوت يُسمع، والعديد من القصص لتروى لمن سيأتي بعدنا، ليدرك هشاشة السلاسل الحديد التي يكبلنا بها مجتمع أضعف من أن يتم الخوف منه.
وفي الحياة، سأتخلص من السؤال الاستفهامي المطروح على لسان عاطف السكري، وسأخبر جميع الشجاعات الجميلات الباحثات التائقات لمعنى الحرية فعلا وممارسة:

 أنتن "الولية"

متدوروش على نموذج كامل الأوصاف في النضال وفي الحياة.. احتفلن بما صنعتن.. وكنّ على ثقة أن لديكن قصصا عن الحياة تروى وأكثر، حتى وإن لم تمنحكن الحياة فرصة لتكن اختيارا في استفتاء، فأنتن قادرات على فعل المقاومة، بل على فعل الحياة ذاتها، وليس فقط التظاهر بأننا "نحيا".

        وبعد الرغي ده كله، لو حد سألني: طيب مين "الولية"؟ هييجي في دماغي الست اللي شفتها في موقف المنيب للميكروباصات، حيث يتم تحميل وشحن وتعليب وطرد فقراء الصعيد، ليتوجهوا عائدين إلى قراهم المنسية، محملين برزق جديد، والكثير من الخيبة.. تلك السيدة التي وصفها أحد ركاب الميكروباص بأنها: "المرة اللي واكلة كلاوي النمل".. سيدة في منتصف الثلاثينيات ترتدي إحدى تلك العباءات ذات عدد اتنين غرزة من على الوسط، وطرحة سوداء مليئة بكل ما يمكن من شأنه أن يلمع في النهار والليل، ذات وجه بنسميه في الصعيد مدور وليه طلة قدر الحليب الطازة .. أما لماذا يطلقون عليها "المرة اللي واكلة كلاوي النمل"، فللحديث بقية ، أول ما الميكروباص يوصل.




الثلاثاء، 23 فبراير 2016

محاكمة الخيال الأدبي

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 23فبراير  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.



مقالة محاكمة الخيال الأدبي- موقع زائد 18 2016

        

بالأمس طُلب مني ترجمة عبارة "خدش الحياء العام" إلى اللغة الإنجليزية، لم أجد صعوبة في إيجاد كلمات لتستيفها في جملة متناسقة في فقرة تتراص بجوار مثيلاتها لتصوير مشهد محاكمة الخيال الحالي، لكني فشلت فشلا ذريعا في إكساب تلك الثلاث كلمات أية دلالة واضحة ذات جدوى.
قد يشير البعض إلى تراثنا الشعبي غناءً وروايات، بل وتراث ديني أيضاً يحمل ويفيض ليس فقط بما يخدش الحياء العام، بل يغتصبه جهارا نهارا، وقد يذهب البعض في طرح تساؤل مشروع للغاية: "يعني إيه الحياء العام؟"، وهل ده مرتبط يعني بالصورة المقولبة التي تم تصديرها عن الوطن، أنه هو عبارة عن "مصر ياما يا بهية يا أم طرحة وجلابية"، والست اللي اسمها مصر دي قاعدة على قارعة الطريق لو خُدش حياؤها بترقع بالصوت الحياني، مع إن نفس ذات الـ"مصر" النمطية الفلاحة بتتحزم وبترقص وبتردد أغنية الأفراح الأولى في الريف "وسطي بيوجعني من رقص إمبارح".

هتقبضوا عليهم هم كمان؟! 

هتحاكموهم؟! 

هتمشوا تقفشوا في الناس واللي جوه السجن هيبقى أكتر من اللي بره؟!

قد يذهب البعض الآخر لحد السكين، فحين نستيقظ من النوم، وحتى نعود إليه نمر بمراحل تعليب وتهذيب وتشذيب لنصبح مواطنين صالحين للاستخدام الدولتي، بالرغم من أن كل ما يدور حولنا بدءا من سائق الميكروباص الخلوق، أو موظف التأمينات الذي يفيض سماحة وفضيلة، مرورا بأفراد من الشعب حبيبي وشرياني، يتكشف لنا معدنه الأصيل في لحظات الالتحام الكبرى في محطة مترو العتبة، فنعلم جيدا أنه يتم اغتصابنا يوميا، ولا نعلق ولا نكتب.

نحن فقط نلتحم ونمر ونعبر متناسين أن هذا حدث وأن الانتهاك اللفظي أو الجسدي، نهاية بانتهاك حقك في الوجود أصلا، أصبح بديهية رقم واحد في أبجديات الحياة اليومية هنا في تلك القطعة التي نعجز عن توصيفها سوى أنها قطعة جغرافية رزلة والله.
إلى الجماهير الجميلة التي تنعق علينا ليلاً ونهاراً "الأخلاااااااء"!


نهيب بكم أن تتقدموا إلى صفوف التساؤل المشروع جدا: 

"كيف نصبح مواطنين صالحين للاستخدام الدولتي؟  

لو فيها تقالة ورزالة برضه، 

ممكن نطلب من حد يشاورلنا بكتالوج عن المفردات اللي مش بتخدش الحياء، أصلنا عايشين  وقررنا نبقى صالحين، وياريت تكون الطبعة سريعة ومحددة ويتم بيعها في منافذ بيع الكتب، أو الأفضل أن يتم تدشينها ضمن منهج الأخلاق في وزارة التربية والتعليم، ولتكن مثلا على غرار الأستاذ العظيم "قل ولا تقل"، فلتكن "اكتب ولا تكتب"، وألف شكر لكل المجهودات التي لا توفر جهدا ولاسجنا في تهذيب وتشذيب وصنفرة دماغ المواطنين، علشان ينافسوا في المسابقة العالمية بين الكواكب عن مين أكتر مواطن "مؤدب" وخلوق، وإن شاء الله مصر هتتصدر العالم وهتكيد الأعادي اللي مش مؤدبين كفاية.

        بس قبل أن تتقدم قوات الجماهيربطلبها العادل والمشروع جدا من دولتهم الخلوقة في توفير "كتالوج الأخلاق لكل مواطن" مصحوبا بملحق مجاني به "مفردات لذيذة لا تخدش الحياء العام"، أرجو تنبيه مواطنينا الشرفاء إلى حقيقة بسيطة للغاية: "الدولة بتاعتكم شايفاكم هفأ".. 

آه والله، فالسلطة الحالية تعلنها واضحة: "إحنا مالناش كبير وكله لازم يتربى"، ويتبع ذلك بالجملة الشهيرة ….”أهو أنا كيفي كده".. السلطة الحالية بتقولكم: "أنا كيفي كده يا جماعة ومفيش داعي للمنطقة والزندقة".. اللي مش هييجي علي كيفنا إحنا هنربيه، وكله بالقانون.. كله موجود.

يتضح ذلك جليا في التضحية مبكرا بمن صفق لها وأيدها وهلل لقدوم الفاتح المظفر، وهو راكب حمار بالشقلوب "مرسي" ، فلدينا حكم صادر بالنكهة الناعوتية، على الرغم من أنها أيدت نفس ذات السلطة.

 شوف يا أخي سبحان الله، وحكم آخر بالنكهة الـ”إسلام بحيرية”، والذي ظن لوهلة أن ممثل السلطة حين يقف معلنا أمام الميكروفونات مغازلا الشعب الطيوب اللذوذ مجددا للخطاب الديني، إن ده معناه ياللا نجدد وننقي ونناقش ونجادل بالفعل.. حاشا للذات الدولتية!
السلطة الحالية بتبعت رسالة واضحة: إنت معانا ولا علينا.. مش هيفرق، المهم "كيفي"، وبالتالي نحب نفكركم إن مفيش كتالوج لـ"كيف” السلطة، والكل هيتم التضحية به عاجلا أم آجلاً.. 

الجميع سيتم التضحية به وتقديمه قربانا لـ”كيف” السلطة ومزاجها وقانونها وسلطاتها وبابا غنوجها.. العابرون في الشوارع هيكونوا هدفا مغريا لتستيف المحاضر واستكمال عدد "حصالة" اليوم.. 

العابرون في الشوارع اللي بيتكلموا واللي مش بيتكلموا.. 

اللي بيناضلوا واللي مش بيناضلوا.. 

اللي لسه مهتم، واللي زهد ومبقاش مهتم، بس مش عارف لسه ينتحر إزاي، فمضطر يبقى.. الكل هيتم التضحية به.. الكل هيتقابل جوه!
"أهو كيفي كده".. السلطة تعلنها واضحة، واللي مش عاجبه يورينا نفسه.. لحظة توحش السلطة وانفرادها الكامل بكل شيء وتغييبها الكامل لكي شيء -بما فيهم الناس اللي رفعوا نفس ذات السلطة على الأعناق ومنحوها شيكا على بياض- لحظة توحش قاتلة.. ترى كل شيء قزما لا يستحق عناء أن تنحني برأسها أو أذرعها الأمنية أو القانونية لتعبّره من الأساس.. تلك اللحظة الوحشية التي تصل إلى المنتهى، هي لحظة اليأس الكبرى التي تستوجب تضافرا من الجميع، ليس الكاتب والروائي "أحمد ناجي" فحسب، بل هي في حقيقة الأمر هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه لنا جميعا لنستطيع أن نمارس الحق الطبيعي والبديهي في الكلام.. في الحكي.. في الشتيمة لما بنتزنق على الدائري الساعة تلاتة الضهر، وإلا هنلاقينا بيتقبض علينا بتهمة "السباب العلني" في الطريق العام.

هي لحظة يأس بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولا ينقذنا منها سوي المقاومة من الجميع.

ليس لأن هناك شيئا أفضل، وليس لأن هناك ما كنا نردده لنمنح مشهدنا البائس معنى.. "علشان اللي بعدنا يعيش أفضل"، 

لأننا أصلا إحنا مش هنلحق نعيش، 

ومبقاش عندنا حاجة نسيبها للي بعدنا. هو خيار وحيد مهزوم للبقاء بأقل قدر ممكن من الحياة، المقاومة، على الأقل مانبقاش فعلا سبناهم يشوفونا أقزام.

على الأقل مانبقاش إحنا نفسنا صدقنا ده.

يُنشر هذا المحتوى في إطار حملة مشتركة بين مواقع  “زائد 18″، و“مدى مصر”، و“قل”،وزحمة“. للتضامن مع الروائي أحمد ناجي.

السبت، 6 فبراير 2016

يعني إيه عواجيز؟

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 9 فبراير  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة: يعني إيه عواجيز- موقع زائد 18- 2016


        في أوائل نشوة الانتصار الأولى لثورة يناير، دعتني إحدى الصديقات للمشاركة في وقفة احتجاجية لدعم إضراب الأطباء في ذلك الوقت. بالرغم من أني لا أمتهن الطب، إلا أني أذكر أن ما حدث وقتها هو إعادة تخليق مساحات رحبة بداخل كل منا مفادها أن كل شيء ممكن فقط إذا ما تمكنا من الإشارة بأصبع اليد إلى موضع الألم وأن الاشتباك في حلم التغيير يجب أن يتعدى ما تعرفه، إلى ما تؤمن به حقا، وأن ترسم دائرة أكبر من "شيل الهم" اللي طالنا كلنا بعد كده.


أذكر حينها أني كتبت علي ورقة إيه فور بالعرض "ارحلي يا دولة العواجيز"، تلك الجملة السحرية التي تختصر مفهومي عن الثورة وقتها، المناطحة في كل من تعدى الخمسين وتحميله وحده ما نعانيه من العجز والفشل والهزائم المتتالية. 

كنت أحمل ما أؤمن به، "ثورتي الصغيرة" وأستعد للتقدم بها في صفوف من لاأعرفهم ولم تجمعني بهم مفارق الحياة.
في الوقفة الاحتجاجية قبل التصعيد لعقد جمعية عمومية لاحقاً، أتذكر أن هناك شخصا مال على كتفي قائلاً "أنتي لازم تجيبي اليافطة بتاعتك دي وتحضري معانا الجمعية العمومية الجاية علشان العواجيز" وانطلق ضاحكا مخلفا وراءه جملة بلا أية علامة ترقيم. لم ألب دعوته في حضور الجمعية العمومية متعللة إنها هتبقى دكاترة في بعض، أنا بقى إيه اللي هيحشرني في وسطيهم، انخرطنا في دوائرنا الصغيرة والمختلفة للتوعية بأهمية الإضراب، واشتبكنا في مناقشات عن جدواه، وهل من حق الطبيب أن يصحو صبيحة يوم وأن يعلنها أنه لن يقدم رعاية طبية لمريض يحتاجها؟ كان لدينا من الأمل الوفير الذي يحدونا لأن نصطبر ونستمع ونعيد على الأذهان ما نؤمن به من حق وبيئة آمنة للعمل كحق أصيل بديهي.

منى مينا نقيب أطباء مصر 2016


        في مساء أحد الأيام التالية أرسل لي نفس الشخص الحساب الشخصي لدكتورة تسمى "منى مينا" مذيلة برسالة لطيفة "مش كنتي تيجي علشان تقابلي العواجيز". حين وقعت عيناي على دكتورة منى من وراء الشاشة لأول مرة، أنارت في ذهني الأخت سيمون إحدى الراهبات اللاتي كرسن حياتهن لتدريس الأطفال في مدرسة الآباء اليسوعيين بمدينتي النائية في الصعيد، فهي لديها نفس الشعر القصير الرمادي، ملامح الوجه الهادئة، القرط المستدير الذهبي، ولأنني كنت في أولى مراحلي لرفض قداسة البشر، أزحت صورتها كـ "قديسة" من ذهني وبدأت في التلصص عليها ومتابعة ما تقوم به فيما يتعلق بإضراب الأطباء. كنت أتلصص عليها لأستخدمها كوسادة أوجه لها لكمات غضبي المتراكم من كل ما يمثله جيلها في ذهني، و"فعل خذلان" متكامل الأركان خذل الثورة حين تمسك بالعمل من داخل أروقة نظام قامت الثورة بالأساس عليه، فإذا بي أفاجأ أن هناك ثورة "عواجيز" وأنا المعتدة بسنين عمري الأقل لم أفهمها حينئذ.

        في تقاطعات الحياة التالية، حين تهاوت الملحمة وسقطنا جميعا معها، حكت لي صديقة طبيبة قررت بشكل قاطع أن تبدأ في إجراءات الهجرة وانخرطت في بكاء مرير لأنها اليوم شعرت أنها مثل الجرذ الهارب من بالوعة الشارع حين حاصر مستشفاها التعليمي عدد من أهالي المرضى، لم يكن هناك مجال لتقصي حقيقة الأمر.. من المخطيء؟ أتراه الطبيب أم أهل المريض؟ ولم يكن هناك مجال للخوض في حديث جدلي لا طائل منه، ربما سينتهي إلى أننا سنصل إلى إلقاء اللوم كله على آدم اللي أكل التفاحة ونزلنا الأرض كما تتغنى إحدى المهرجانات الشهيرة حالياً.

        كانت لحظة هزيمة صفرية بامتياز، وكانت الصديقة تحمل خيبة مضاعفة من الإهانة والعجز.. ذكرت لي الصديقة أنها قبل البدء في خطوات الهجرة  قابلت دكتورة منى مينا، وها هي تعود لأضواء ذاكرتي تارة أخرى "منى مينا"، وأخبرتها أنها بصدد الهجرة. تقمصت شخصية دكتورة منى وقمت بالرد الفوري على صديقتي "وطبعا قالتلك لأ متسافريش وخليكي في البلد وابنيها"، لكن ما حدث والعهدة على رواية الصديقة، أنها أثنت على قرارها بجملة مقتضبة "سافري يا بنتي.. أنتوا تستاهلوا حياة أحسن من كده، سيبونا نحاول نلحقها".

        كنت لا زلت اتأرجح في بندول الانتماء والوطن واختيارات الرحيل والبحث بلاجدوى عن سبب للبقاء، فجاء ردها باترا حاسماً، فهي ترى أننا جميعا "نستحق خيارا أفضل". استوقفني أنها بالرغم من تشجيعها لسفر الصديقة، إلا أنها لازالت تؤمن أن من لم يستطع الخروج، فلا مجال للمساومة على خيار الحياة الأفضل.استوقفني أنها اختارت أن تنحاز لمعسكر "الخسرانين" الذي تم وصم معسكر الثورة به لاحقاً.. المعسكر الذي يتجرع هزائمه ويعترف بها ويتطهر منها كما لم يفعل ممن دشنوا لتلك الهزيمة المروعة.


        ما جعلني التصق بها كقديسة هذه المرة، أنها صفعتني على وجهي بالحقيقة التي لابد من الاعتراف بها: هناك عواجيز مؤمنون أن هناك خيارا أفضل، وأننا جميعا نستحقه، وأن الثورة لم تكن مقتصرة على من يستطيع الهرولة في الشوارع فقط وقت الاشتباك، بقدر ما تعنيه لي الثورة الآن: القدرة  على المقاومة، الاختيار الواعي، المحاولة المتتالية إننا "نحاول نلحقها".

        ما اكتبه ليس تمجيداً في دكتورة منى وإن كانت تستحق وأكثر، لكن تمجيدا لما يحدث في نقابة الأطباء التي ستشهد حدثا مهما يوم الجمعة المقبل. لسنا بحاجة لأن نكون أطباء أو متضررين بشكل مباشر مما يحدث من انتهاكات جسيمة بحق الأطباء في مستشفى المطرية وغيرها من الانتهاكات التي يتم تمريرها بدون أدنى محاسبة. 

لسنا بحاجة لأن نخوض ذلك الجدل البيزنطي "الأطباء ماينفعش أصلا يعملوا إضراب"، لأننا بصدد اختيار واضح، أن الأمن على حياة الطبيب يجُب كل ما يليه من تبريرات واهية.


لسنا بصدد التذكير بممارسات القوة.

لسنا بصدد السقوط في بالوعة الأفواه التي تلقت أمرا شفاهيا ارتدته ما تيسر لها من بدل الرقص، وانهالت على آذاننا في غناء نشاز عن إهمال الأطباء في هذا التوقيت تحديدا، لكننا بحاجة لأن نعلنها واضحة صريحة مدوية #ادعم_إضراب_الأطباء.

قد نكون مجرد أفراد عابرين هامشيين على مشهد الحدث، لكننا لا زلنا قادرين علي رؤية "ثورة" تشبهنا هنا في هذا الكادر من الفيلم، ولدينا اختيار واع للانتصار لها، لسبب أبسط مما يتخيله الكثيرين "علشان نحاول نلحق البلد دي"، لو نقدر، 

وإلا هنبقى "عجزنا" فعلاً.

هما اللي بيرازوا فيا- حكايات عن البيزنس، التطور المهني!

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 6 فبراير  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة- هُمّا اللي بيرازوا فيّا- موقع زائد 18


كان ياما كان يا سادة يا كرام، وكل من له نبي من قلبه يبعت له السلام، واللي مالوش خليه قاعد برضه منورنا، مايضرش.

تقول الحدوتة إن كان فيه كتاكيت عايشين في كرتونة، أي أربع حيطان بيتحركوا جواها، واحد من الكتاكيت كانت مؤخرته أكبر من الكتاكيت التانيين، وكان بيعيق حركتهم في الرايحة والجاية جوه الكرتونة، فاجتمع الكتاكيت في ذات ليلة وقرروا إنهم يخلعوا أحد حيطان الكرتونة ويحطوها حاجز بينهم وبين الكتكوت أبو مؤخرة كبيرة، علشان يعرف يتحرك براحته، وفي نفس الوقت هما كمان يتحركوا براحتهم من غير ما يتكعبلوا في مؤخرته العظيمة.. بس وقعوا في قرار ملعبك.. يا ترى دلوقتي الكرتونة هتتقسم جزئين.. جزء يتحركوا فيه براحتهم وجزء تاني هينفوا فيه الكتكوت أبو مؤخرة كبيرة علشان مايقعش عليهم يفطسهم، المشكلة هنا كانت يا ترى أي جزء هم هيقعدوا فيه؟ هل الجزء اللي هيبقى متحوط بـ”أربع” حيطان، ولا الجزء التاني اللي هيبقى عبارة عن تلات حيطان وحتة مفتوحة على الهواء الطلق.

الكتاكيت في نفس ذات الليلة المشئومة، حسموا أمرهم، وقرروا إن يعني إيه نقعد من غير أربع حيطان؟ لا.. كده نستهوى، فاختاروا الجزء "الآمن"، وتلوا حيثيات الحكم والقرار بتاعهم على الكتكوت أبو مؤخرة مرهرطة اللي حس بغصة في نفسه، مش علشان مؤخرته اللي هتفضل منكدة عليه عيشته طول عمره، لكن علشان ماكنش عارف الجزء التاني المجهول بالنسبة له هيكون إيه.

تاني يوم ابتدا التنفيذ واشتغلت الكتاكيت بكل قدم وساق علشان يتخلصوا من المؤخرة الملظلظة اللي مكدرة عيشتهم.. الأيام الأولى شهدت فرحة غامرة ونشوة الانتصار وصوصوات متتالية من الكتاكيت في الركن المنتصر، ومن كتر فرحتهم ابتدوا يزعقوا في الكتكوت الكبير من ورا الحيطة ويتريقوا عليه.. الكتكوت أبو مؤخرة كبيرة ابتدت تتراكم عليه مخاوفه وينجرح الإيجو بتاعه، مش بس إن مؤخرته بتكبر وإنه مقدرش يداريها، لأ لأن كمان دلوقتي بقى في مكان من غير أربع حيطان ومكان الحيطة الرابعة بقي مخيف بالنسبة له لأنه مشافوش قبل كده، ولأن عقله كان مشغول طول الوقت بـ”اللية” ماكنش قادر إنه يشوف الفرصة اللي قدامه.

بمرور الأيام مؤخرة الكتكوت كانت بتكبر وكان خوفه بيكبر معاه، فكل ما كانت مؤخرته تؤرقه وخوفه يشوكه، كان بيرجع بضهره ويسند على الحيطة اللي بتفصل بينه وبين الكتاكيت على الناحية التانية.. لاحظ أن كل سندة بيعملها على الحيطة، بتتزق بفعل تقل المؤخرة، والأغرب أن كل زقة بتخلي الكتاكيت يسكتوا ويتوقفوا عن التريقة عليه وعلى مؤخرته.

في الأول كان بيزق الحيطة خايف، لكن بعد ما قرر إنه خلاص هيعيش جوه الكرتونة دي للأبد، قرر إنه يمارس لعبة "ياللا نزق الحيطة كمان وكمان وكمان"، مرة و را التانية الصمت بتاع الكتاكيت اللي ورا الحيطة ابتدا يكتر بس الزعيق المرة دي ماكنش عليه، والأدهى إنهم نسيوا موضوع مؤخرته وإنها سبب أزمتهم، وابتدوا يزعقوا في بعض، وهنا اكتشف متعته الجديدة اللي خلته يتعافى من عقدة مؤخرته الأزلية، متعة الفرجة على الكتاكيت وهم بيتزنقوا أكتر و بيخانقوا في بعض أكتر، ونسيوا أو تناسوا موضوع الكتكوت التاني على الناحية التانية، بس كانوا دايما بيسمعوا صوت ضحكه، وماكنوش عارفين هو بيضحك على إيه.. لما ضاقت عليهم المساحة بشكل مستحيل إنهم يقدروا يتعايشوا، ولما ابتدى صوت الكتكوت صاحب المؤخرة يعلا من الضحك، فكروا إنه ربما يكون لقي “براح” وحياة أحسن الناحية التانية، ويمكن أخطأوا في قرارهم بنفيه من الأول، وأصلا بقت الحياة في ضيق جزمة مقاس 12.

في اليوم اللي بعده استقر الحال بالكتاكيت إنهم ابتدوا ينقروا في الحيطة اللي بتفصلهم عن الكتكوت الملظلظ.. كان كل ما يسمع صوت نقرهم على الحيطة يخاف أكتر من رجوعهم، ويفتكر معايرتهم له بمؤخرته، فيستخدمها علشان يزق الحيطة عليهم، فالكتاكيت تتزنق أكتر ومساحتهم تقل بزيادة، فيزودوا بالنقر في الحيطة لغاية ما في يوم حصلت المفاجأة!

وهم بينقروا لقوا حاجة طرية ماتشبهش الحيطة اللي كانوا بينقروا فيها طول الأيام اللي فاتت، لكن ده إداهم أمل كتاكيتي إن خلاص هانت وهيشوفوا الناحية التانية فيها إيه.. الحقيقة إنهم كانوا بينقروا في طيز الكتكوت الغبي (آه بقى أنا تعبت غني اقول مؤخرته.. دي حاجة بيض والله) ولما اكتشفوا إنها طيز الأفندي وإنه هو اللي كان بيزق عليهم الحيطة طول الوقت، ماقدروش يعطفوا عليه ولقوا نفسهم بيكملوا تنقير في الكتكوت الغبي، وكل ما بتراودهم مشاعر الكتاكيت في التعاطف أو الشفقة، كانوا بيفتكروا الأيام السودة اللي عيشهالهم وكان بيزق عليهم الحيطة وبيقعد يضحك على الناحية التانية، فكملوا تنقير فيه لغاية ما خلصوا عليه تماما، وأكلوه بسنانهم، بس سابوا منقاره علشان يكون عبرة لأي كتكوت عنده مؤخرة كبيرة هيجي يتغابى عليهم في يوم من الأيام.. الكتاكيت مش بس هدوا الحيطة واتخلصوا من غباء الكتكوت، لكنهم كمان اكتشفوا أن الكرتونة اتفتحت على عالم أكبر من اللي عرفوه قبل كده، وابتدوا يجروا في كل الاتجاهات.
توتة توتة، خلصت الحدوتة.

******
الحدوتة  دي كانت اتحكت لي من زميل في شغل قديم، وكنا بنستخدمها لما بنحب نعمل تمرد كده محندق على ما قوسم علشان نحسن ظروف العمل اللاإنسانية في البلد البعيد.. عملنا جروب سري على الواتس آب سميناه "كتاكيتو بُني"، مش تكريما بس لزينات صدقي، لكن كمان علشان نفكر روحنا إن "الكتاكيت قادمون" وإننا هنفضل ننقر في مؤخرة الإدارة لغاية ما نلاقي مخرج، علي الرغم من أن كل محاولاتنا كانت كوميدية وبنحاول بيها نمتص طاقة الغضب اللي جوانا، لكننا فضلنا في "التنقير" لغاية ما لأول مرة الإدراة ابتدت تعمل مراجعات حقيقية وتم تسريح عدد لا بأس بيه مننا.. كان بودي و الله الحياة تبقى شبيهة بالحواديت، بس معلش.. أهلا بيكم في سيت كوم "الحياة صعبة يا ولدي"، وعلي الرغم من أن كل حد فينا في بلد دلوقتي، لكن الجروب كان أول محاولة متعددة الجنسيات للنقر في مؤخرة كل وضع ظالم.


على عكس الحواديت، كان بودي والله إننا نزرع الأمل والخير يجيب الشر من لغلوغه ويطرحه أرضا ويقعد عليه يبططه، لكن يبدو إن جيلنا العظيم التعيس اللي بيتقبض على أحد أفراده علشان خفة دمه، مبقاش قدامه غير خيار واحد، وهو الخيار الكتاكيتي.. نفضل ننقر، ونزن ونترازل ونرازي في الكتكوت أبو لية، اللي هيقع علينا يفطسنا كلنا.. مش علشان لا سمح الله شايفين النور في نهاية النفق، أبسلوتلي علشان مبقاش فيه خيار غير كده، والمساحة بتضيق وعددنا بيختفي في ظروف غامضة.

مبقاش عندنا اختيار غير المرازية، حتى لو في يوم كتاكيت في كتفنا اختاروا اختيارات آمنة مش هيلاقوا قصادهم غير المرازية، ويحضرنا مشهد روبي البديع في مسلسل "سجن النسا" وعنيها بتعكس كل تراكمات الغضب اللي اتحاشت جواها طول الوقت لغاية ما فجأة هتنفجر وتزعق فيهم كلهم بلا استثناء "همّا اللي بيرازوا فيا".
هنفضل ننقر ونرازي وغالبا البقاء هيكون للي نفسه أطول في المرازية، زي ما قال آينشتاين في قعدة رواق على قهوة كرمش بضواحي الجيزة، وأيده


نيوتن
في زيارته الخاطفة بعد كده في قانونه الشهير المدفون تحت كرسي في نفس القهوة: "إن كل مرازية يقابلها مرازية مضادة لها في الاتجاه وبنفس القوة والغضب".
مش هنبطل نرازي في اللي بيرازوا فينا.
و توتة توتة مابتخلصش الحدوتة.

الاثنين، 25 يناير 2016

إحنا ليه مش بنمشي جنب الحيط؟!

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 25 يناير  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة- ليه مش بنمشي جنب الحيط؟- موقع زائد 18


لما شفت الهاشتاج عن المشاركة في ثورة يناير، وشوفت القصص اللي اتكتبت، وباراهن إن فيه غيرها أكتر لسه متشال، وفي يوم راح يطلع من شكمجية الحواديت ويتوثق كما يليق بـ”عبور” حقيقي يليق بجيل كامل تمّ تجهيله وتهميشه وتقزيمه لكنه انتصر، رغم الهزيمة المؤقتة، وتخطي  كل محاولات الإنهاك والتركيع، بس للأسف لم يحظ بفيلم ملحمي يحتفظ فيه البطل برصاصة ويفضل يذلنا بيها طول عمرنا.
تابعت الهاشتاج بفضول وترقب، وأنا بقول لروحي: "هتروح فين يا صعلوك وسط الملوك".. الحقيقة إني ماكنتش موجودة في مصر وقت الثورة تحديدا، ومشاركتي كما سأرويها كانت هزلية وهزيلة لو هتتقارن بالأبطال المنسيين في ملحمة يناير.
لكن جملة  الهاشتاج نفسها "أنا شاركت في يناير"، وقت قراءتها لازم تلاقي فلاش باك نوّر في دماغك، وتسرح في خمس سنين فاتوا.. ركبت فيهم الحلزونة في أفكارك واتشقلبت كام مرة و كام مرة عافرت علشان ترجع تتوازن وتنتصر للي اطمأن قلبك ليه.. ذكرى يناير مش هتكون زيارة موسمية لتدشين العادات المصرية الأصيلة في زيارة القرافة وقراءة ما تيسر من مانيفستو الخائفين على روح الثورة، لكن هتكون اللحظة اللي بنقف فيها ونسأل: يعني إحنا دلوقتي فين؟!

في لحظة يناير الأولى، كانت مشاركتنا، وعدد من الأصدقاء، عبارة عن فيديوهات بنركب فيها إيفيهات أفلام مصرية مشهورة على خطابات مبارك، واللي انتشرت بشكل أوسع وبخيال أصيع فيما بعد باسم السف والألش على السوشيال ميديا.
كان نفسي أقول إننا كنا بنعمل ده بوعي، أو علشان عندنا تاريخ نضالي عظيم، فاختيارنا للسف والقلش هو نوع مبتكر من النضال والكفاح وشوية حاجات فوق بعض، لكن الحقيقة أن الطريقة دي لو اعتبرناها يعني مقاومة، كانت الطريقة اللي تشبهنا وقتها.. مجرد صعاليك عابرين اختاروا إنهم مش عايزين ينتموا للبلد دي، ونفذوا قرارهم بالفعل جغرافيا، وابتدوا يتعاملوا مع كل ما يتعلق بيها أو بناسها بمزيد من التسخيف والتضحيك، وكأننا ماكناش لاقيين غير القشرة دي اللي تربطنا بيها.
في فترة صناعة الفيديوهات، كنا محاطين بجرعات مكثفة من أهالينا "امشوا جنب الحيط"، واللي بالمناسبة أهالينا ذاتهم مشيوا جنب الحيط طول الخمس سنين، لغاية ما ما شاء الله باختياراتهم، لبسونا في الحيطة نفسها.. ده إن وجدت يعني.
لحظة يناير اللي شارك فيها وعاشها وآمن بيها، هيعرف إن حلاوتها إنك اكتشفت إن فعليا ماكنش فيه حيطة علشان نتدراى جنبها أو نخبي عجزنا وقلة حيلتنا وغضبنا من وضع ماكناش محتاج تحليل سياسي مخضرم، أو بعد اقتصادي حلزوني علشان نقول: “ميصحش كده بأثر رجعي”.. ماكنش فيه حيطة من الأساس، وده كان الاكتشاف الأهم ليناير.. لما الناس اللي كانت –حرفياً- مش عارفة بعض، مشيت خطوة فوق خوفها، وخلعت حيطتها الوهمية من لغلوغها، ونزلت بيها علشان تشارك في ثورة يناير، ولقت نفسها بتضم على بعض في ميدان واحد، علشان تنادي بعلو صوتها: “ارحل”.
لو جرينا الخط دلوقتي من لحظة السف على النظام متمثلا في رفع الجزمة في وش مبارك العكر، ومطالبته بالرحيل، اعتقد إننا في لحظة ذهبية تانية للسف على نفس النظام باختلاف البدلة، مع الحفاظ على صبغة الشعر كاختيار واع للمقاومة والنضال بقى (لو يعني من نفسي هاستخدم المصطلح)، لكن المرة دي مش هيكون بالاحتشاد في الميادين، ولا هيكون برفع فرد الجزم القديمة، ولا هيكون بالحزق بشعارات اكتشفنا بعد كده إن واحد من أخطائنا الواجب الاعتراف بها إننا كنا بنحزق بيها، بس كل واحد كان مركب فردة جزمة في دماغه، وبيفسرها بطريقته، وعلى حسب قاموس معسكره اللي عايز ينتصر ليه.

ويمكن ده أهم ما في يناير 2011 "إحنا ماكناش عارفين بعض.. بس ضمينا على بعض، وبعد ما عرفنا بعض، مابقناش طايقين بعض"، وغالبا هيفضل ده البندول اللي بيتأرجح بين خانات المكسب والخسارة، لأننا لسه مطورناش نظام يشبه ثورة هتسمح لأفرادها أنهم يسدوا كل فجوات الجهل ويحازوا الصفوف ويتعايشوا، بل الأنكى أفرادها اختاروا أوعر الطرق للوصول لده بعد تكويم فواتير من خسائر فادحة.

الوضوح اللي معظمنا مر بيه في لحظة يناير الأولى 2011 وفي كل مرحلة من ساعتها، وفي كل معركة اشتبكنا فيها وتم التضييق علينا في اختيارين، ولا واحد منهم يشبه الثورة أو معسكرات لا تشبه الأقلية، اللي ارتضينا إننا نعمل ليها لجوء إنساني أبدي، هو ذاته الوضوح اللي بيعيد نفسه دلوقتي، فكل الورق دلوقتي على الترابيزة أو كما قال حسبو: "كل شيجين أنكشفن وبان"، و ده ما يجب استثماره والبناء عليه لو أمكن.. الوضوح ده مش هيستوجب بس إننا نطمن إن بالرغم من مسار الهزيمة أو سيناريو السقوط المحتمل، لكنه هيفرض علينا الحفاظ على ما تبقى من إيمان بالثورة وحمايته، حتى لو كان بالانسحاب الجزئي وإخلاء الملعب لعواجيز الدولة المسعورة، وهم نازلين يسخنوا بشورتات دبلان، يشوطوا في الناس وناسيين إن مفيش كورة أصلا.

الوضوح ده برضه هيخلينا واثقين إن الفعل الثوري في يناير، اللي ماتفهمش لغاية اللحظة دي.. إزاي اتحول لزخم ثوري، مش هيعيد نفسه تاني في يناير 2016 (يااااه.. هو مرت علينا السنين دي كلها)، يمكن لأن السيناريو اتهرس خلاص وإحنا شعب ملول بطبعه، ويمكن لأن الوعي اللي بيتشكل على مدار السنين بقى مدرك طبيعة اللحظة اللي واقفين فيها وطبيعة الرمال المتحركة اللي بنقاوم بيها السقوط المحتم للجميع.

على صعيد آخر (زي ما بيقولوا في نشرة التاسعة) النظام اللي تم التضحيك عليه ورفع الجزمة في وش رمزه في ميدان التحرير في يناير 2011، مش مختلف عن قرينه يا زواوي في 2016،  يناير، وتمّ تشخيص الحالة بتسيب في المفاصل مع علامات قوية على وجود هلاوس سمعية وبصرية تسببت في ضلالات فكرية مفادها أن النظام الحالي عايز الجماهير الغفيرة المؤيدة له تنزل, للمرة اللي بطلنا نعدها، تثبت ولاءها ومباركتها الشعبية له، وتحتفل وتقدم قصرية ورد تترزع على دماغ أذرعة القوة.


المشهدة الحالي بيفكرك بعبد الفتاح القصري لما قرر في لحظة تجلي إنه يفرق راسه ويقول كتاكيت، لكنه اتحول لمريض بالهلاوس، وابتدى يصدق روحه وبيطلب من الجماهير إنها تصدق هلاوسه وتشتريها وتنزل تحارب معاه في معركته ضد الولاحاجة، أو ماتنزلش مش عارفين يعني.. أهو رجل بره ورجل جوه.. بس المهم خليكوا موجودين على العتبة يمكن نعوزكم.

يمكن اللحظة الخيالية الرومانسية اللي اتعاشت في يناير 2011 كانت عظيمة وعصية على التفكيك، لدرجة إننا بنخاف نقف عندها لتفقد بريقها وقداستها عند المؤمنين بيها، واللي بيدفعوا تمن ده لغاية دلوقتي، لكن الخيال هو اللي هنحتاجه علشان نعيد تشكيل الكورة اللي هنشوط بيها، ومين عارف؟! يمكن الجون ييجي.. مش علشان الجون في حد ذاته، ومش علشان إغراء الانتصار لأنه هيفرض علينا تضحيات -يمكن فوق احتمالنا- لكن علشان على الأقل نشوف إن ما آمنا به يطلع له معنى في نهاية الفيلم، لما اخترنا ننحاز ونلعب مع الخسران زي ما قال فارس في فيلم “الحريف”.

حقيقي إحنا مش مش بنختار نخسر، لأننا مهووسين بتعذيب الذات أو مدمنين للتيه في صحاري وطن تفنن القائمون عليه في إفقاره وتركيعه لأبعد مدى، أو لأننا يعني غاويين نخبط دماغنا في الحيطة، لكن لأن لحظة يناير اللي النظام بغباوته وناسه ودراعاته وإعلامه لا هيقدر يفهمها ولا يستوعبها.. كانت لحظة إدراكنا إن في الأصل مفيش حيطة، وإن خوفنا  مالوش أساس، وإيماننا اللي بيتجدد أوقات بينقص وأوقات يزيد، لكنه على مدار الخمس سنوات، وروحها موجودة.

الجمعة، 1 يناير 2016

معاكش كراميلة؟

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 11 يناير  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة- معاكشي كراميلة؟- موقع زائد 18

"بالأمس بدأ برلمان مصر المرتقب منذ ثلاثة أشهر وسط أجواء احتفالية بمسيرة الديمقراطية في عهد الرئيس المنتخب من الشعب بأكمله"، هكذا ستطالعنا صحف المؤسسات القومية مهللة للحدث العظيم! القلة المندسة التي لا تزال معنية بالشأن العام كلعنة فرعونية لا تستطيع الفكاك منها، وإن حاولت، ترى أن أولى جلسات البرلمان هو بداية متسقة تماما لامتداد خط القبح الذي يختصر كل هزيمة مستحقة في مرحلة اللاثورة والولاحاجة، فتلك الانتخابات التي شهدت جولاتها العودة لكل ما ومن قامت عليه ثورة يناير، والتي استعان فيها المرشحين بذخيرة تملق آملين أن يجدوا لهم مقعدا في سفينة نورماندي قبل أن تهوي بنا جميعا نحو الخراب الكامل، معلنين بكل فجاجة عن انتمائاتهم السياسية التي ثار الناس يوما لهدمها، منتشرين في شوارع الوطن كخلايا سرطانية لا أمل في تحجيم توحشهها ولن يجدِ معها أي تدخل علاجي، منطلقين بفرق الزفة والمزمار البلدي في إعلان فوزهم المؤطر ضد كل قيمة إنسانية حقيقية للعدالة نستحقها جميعا.
يأتي البرلمان في جلسته الافتتاحية كأحد تماثيل القبح التي تنتشر في مداخل مدن جمهورية مصر للولا حاجة العربية، فقد شهدت مصر طيلة الأشهر الأخيرة محاولات كللت بالنجاح منقطع النظير لتأصيل القبح وبخاصة البصري منه، فنجد تمثالا لنفرتيتي بس بعد ما داس على وشها القطر رايح جاي، وأحد ميادين العاصمة قد تفتق ذهن رئاسة الحي بها على جعل زجاجة كاتشب رمزا للميدان، أو تمثال عروسة البحر التي تحولت في غفلة من عمرالزمن وتبادل الأدوار في الأسطورة لتلعب دور الأشكيف المخيف، نهاية بتمثال يقال إنه ينتمي للعصر اليوناني فيما نراه مجرد إعلان لرجل يرتدي لباسا داخليا معلنا عن شركة الملابس القطنية الأشهر في عمر دمّور الوطن.

ها هو الحدث "المرتقب" يقف على مدخل وطن بأكمله كتمثال يجمع في كل زاوية منه قبحا لا تكاد تخطأه العين، وكأن القائمين عليه تعمدوا أن يجمعوا كل هذا القبح في عمل فني واحد ليضعوا عنوانا يليق بإسدال الستار على مسرحية سيضحك فيها الكثيرون، لكننا حينما نغادرها سنبكي مرارة وحزنا على ما وصلنا إليه.. سننظر طويلا إلى أشباه الزومبي النافرة عروقهم أمام الميكروفونات يلوكون بألسنهم كل ما نؤمن به، ويصلون بالابتذال حد السكين، في كل مرة تطالعك وجوههم ستجد نفسك متقمصا القذافي في سؤاله الخالد: "من أنتم؟".. سيصيح البعض أن علينا أن نرضخ ونخضع لاختيارات "الشعب".. لا ندري أي شعب، وأين نحن من هذا الشعب؟ نحن الأرواح الهائمة الرافضة لكل عفن وقبح، وتعاني اغترابا متجذرا منذ سنوات تفتح وعيها، فهي عاجزة أن تجد لنفسها موضعا في طاحونة تهرس كل ما نؤمن به، ذلك الاغتراب الذي ظننا أننا تعافينا منه حين لضمنا في دائرة حلم أكبر، حيث كانت 25 يناير.. الانتماء الأوحد.. نحن المشاهدون بصمت ممرور خيبات متتالية وهزائم لا تنقطع وملل المعارك الخائبة كفيلة بأن تفقد كل منا عقله وبوصلة روحه السليمة في تمييز المواقف والأشياء والأشخاص.
سنزداد اغترابا وانسحابا وستضيق علينا مسام الجلد كملاذات آمنة، لكننا سنظل نرصد ما يحدث غير آملين في التغيير، لكن لربما لأننا سنكون هنا حين تحدث النهاية وسيسدل الستار أو لربما المسرح كله هيقع ويتطربق على دماغ أهالينا.. سنظل ها هنا نرصد ونوثق ونشير إلى خيباتكم وهزائمكم وقبحكم.. سنعاني كثيرا أو لربما سنصل بمعاناتنا حد التبلد، فلا نشعر بشيء وتلك السكين تقتطع من أرواحنا جزءا تلو الجزء.. قد يتجدد وقد يضمر بفعل اليأس المستحق لما نراه.. سنعاني ليس لأن لدينا بقايا أمل تنفر برأسها بين الحين والآخر، فالأمل في أرض الخراب أصبح ترفا لا يقدر عليه عقل يحاول جاهدا ألا يفقد قدرته على أن يبصر ويتمسك بما تمليه فطرته السليمة أو هكذا نظن.
سنعاني لأننا بالفعل كما قال الرئيس المتاخد “مرسي” الله لا يرجعه هو أو عشيرته.. إحنا على منحدر الصعود، بالفعل نحن على منحدر الصعود نحو الهاوية.. حيث السقوط سيصبح مدويا.. للجميع.
لكن قبل أن نسقط، فلنقتبس أحد أشهر الجمل الافتتاحية التي تعود بنا إلى زمن 1919 "معاكشي كراميلة؟"، ميعرفوش إنها اتلغت خلاص ودلوقتي مصر هتبقى أم الدنيا في مضغ وعجن وهرس الـ”أرواح” يا سعادة النائب الـ”محترم”.