الخميس، 14 نوفمبر 2019

حين غادرت منزل العائلة

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 249- نوفمبر 2019

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الكاتب والشاعر زياد عبد الله

****

حين غادرتُ منزل العائلة



حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

هرولت في طرقات مدينة لم اختبرها

وتوجب على وجهي أن يبدو جاداً

وأنا أحادث سائق العربة

وأقلّب حبات الطماطم أمام البائع بينما يتعثر كلانا في مخزنه القديم من الكلمات.

***

حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

كان لي غرفة باردة

أخذت منها كتبي القليلة لتعبر بين قارتين

وحسبت بأن بمقدوري الاختباء بين دفتى كتاب- كعادتي في الصغر

لكن ثمة عمل

ومنزل

 وباعة

وعربة

ووجوه تتعلق بأذيال ثوبي كلما خطوت متسائلة:

كيف يمكننا إنقاذ العالم؟

***

 حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

حرصت على ابتياع ثيابٍ كثيرةٍ صفراء اللون

وما شهدت خزانتي حضور هذا اللون الطاغي من قبل.

بعد سنوات

تعثرت بعشٍ قديم لطائر فقد جناحيه

وتوارى منذ زمنٍ خلف الألوان الفاقعة

كل شيء خارج اللون

يجعله يرتبك

فينكمش متكورًا على خصره.

بعد سنوات

سمح لي أن اقترب

وأن يخرج عن منقاره

صوت خائف

يخبرني أنه لم يحب قط ألواني الفاقعة.

***

حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

بتُّ أنضج في اليوم الواحد ألف مرة

لم يكن لدى مرآة في غرفتي

إذ خشيت أن أنظر إليها

فأفتقد وجهي القديم.

حين غادرت منزل العائلة

أصبح لدي

عمل

ومنزل

وعربة

وصداقات مع الباعة

وخطة محكمة لإنقاذ العالم

وتذكرة عودة للبيت القديم

ومرآة في مدخله بحجم الجسد

تمنحك إذنًا بالعبور نحو ما كنت عليه ذات يوم

غير أن أمي أعادت طلاء البيت مرات متتالية

واختارت بعناية كل قطعة لتبدو جديدة بالكلية.

صار البيت

باللون الأصفر

كغرفتي الباردة

في بناية بعيدة لم أعد أسكنها.

***

حين غادرت منزل عائلتي للمرة الأولى

تعلمت كيف أحمل بيتًا من غرفة واحدة في قفصي الصدري

وكلما أعلنت الطائرة ملامسة الأرض

كنت أتأكد من إشعال المدفأة

لئلا تتجمد أوصال طائرٍ منمكش

في إحدى زوايا غرفة باردة.

***

في كل مرة أغادر منزل العائلة

أعكف على خياطة جناحين من صوف محكم

لألصقهما على جانبي طائري

أرقبه شيئًا فشيئًا وهو يخطو متعثرًا نحو حافة العالم

أستقبله بكل ودٍ حين رجوعه منكس الرأس

أمنحه متسعًا في بيت يحبه بلا قيد

أعيد على مسامعه حكايا قديمة لعصفور آخر طار محلقاً ليبحث عن الصوت

ثم أصمت طويلًا

وأنتظر

لا أفعل أي شيء

أحبه

أصمت

أنتظر

في كل مرة ينظر إلى عيني مرتبكًا، ماذا سأفعل حين أصل للحافة؟

أكرر على مسامعه

أحبك

فلنكتشف ذلك معًا

ثم لا أفعل شيئاً

أصمت

طويلًا

وأنتظر.

***

في كل مرة نغادر سويًا منزل العائلة

يتشبث أحدنا بكتف الآخر

كجناح تمّ تخليقه للتوً

لا نعرف على وجه الدقة

ماذا يفعل كلانا في عالمً قد يبتلعنا بالكلية

غير أن انعكاس صبر المحبين في عين الآخر

يمنحننا إمكانية أن يخطو كلانا

خطوةً واحدةً صغيرةً

خارج اللون

والبيت القديم

وبناية بها غرف كثيرة باردة

وذاكرة ممتلئة بصور ممزقة.

خطوةٌ واحدةٌ صغيرةٌ

لكى نؤمن في كل مرة من جديد

أن

خطوةً واحدة صغيرة

تكفي

وتفيض.

الاثنين، 14 أكتوبر 2019

صحن أزرق

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 248- أكتوبر 2019

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الروائي والشاعر زياد عبد الله

***

صحن أزرق



أتعارك كل يوم مع ثقبٍ يتسع في الذاكرة

أنبش بكفين صغيرتين عن علامات الموت السبع- هكذا أخبرتني أمي

كيف لم ألمح أياً من تلك العلامات،

كيف تفلَّت الأمر من يدي!!

***

تخبرني امرأة في السبعين تعبرني كأشعة زرقاء تخترق صورة مشوشة

ما جدوى المعرفة؟

ما جدوى أن تحمل حقيبتك الخاوية على كتفك؟

تمضي وحيدًا تمارس مراوغتك القديمة في أن ينبت في كل صخرة، لون أخضر.

ما جدوى الركض خلف صافرة قطار لتصل إلى رصيفٍ لا يتلهف لرؤيتك عليه أحد!

***

يتوسط الصحن الأزرق المائدة، ينظر إليك بمغفرة

يغفر لك محاولة ملئه بالفاكهة لئلا تشي به الوحدة.

يبتلع الغضب في ثنايا شروخه اللامرئية لئلا تؤلمك حوافه المدببة

يقترب من باب غرفتك

يستمع إلى نحيبك كل ليلة،

بينما تتجمد أطرافك، ولا حذاء في الزاوية.

يمنحك الصحن الأزرق متسعًا لتفرغ ماء قلبك كله،

يود لو يربت على كتفيك لمرةٍ واحدة

ويغزل حبلًا سريًا فيرضعك الوحشة

فيلملم أشلاؤه،

ويعود متكورًا

عند منتصف المائدة، كما ينبغي أن تبدو الأشياء المنمقة.

***

صبيحة كل يوم، يتوسط الصحن الأزرق المائدة- يودعك بابتسامة حانية

يُفلت يدك

لكى تعاود كرّتك اليومية

أن تنبش عن علامات الموت السبع

تحمل حقيبتك الخاوية على كتفك

تركض مطاردًا – ما لاتود حقاً الإمساك به

تتوقف بين الفينة والأخرى لكى تستبدل قدميك -إذا ما اعتراهما التعب- بغيمتين

تركض بلا التفات لشيء يمضغك على مهل وهو قابع في جوفك

ينتظرك في كل ليلة، أن تدس المفتاح في باب لا يطرقه العابرون.

يود لو يخبرك أن الموت تسلل إلى بيت ٍجدرانه باردة

نسج على غفلة منك خيوطاً رقيقة باللون الأسود

التهمت ما تبقى من صورة قديمة.

***

الصحن الأزرق يتوسط المائدة، كما يجدر بكل الأشياء المنمقة أن تبدو

وقد بات شاهد مقبرة

ليعلن موتاً مؤجلاً

وأن الحزن يتساقط منك تساقط "الجلد" من شاةٍ ذُبحت

لا يضيرها الألم المكدس أسفل المنضدة

فالموت زحف شيئًا فشيئًا

ومنحك علامته السبع كاملة

غير أن أطرافك معلقة على صليب دُقَّ وسط صدرك،

تتخدر ببطء

عبرتك العلامات

دونما انتباه

عبرت الحياة دونما توقف ركضًا في الاتجاه المعاكس

بينما لم يتمهل الموت، سار كدائرة تتكسر في نهر يتدفق حولك

يلمس كل ما تقترب إليه يدك

صرت تطارد سرابًا يحتل زوايا الرؤية الأربع

ريثما توشك الحياة أن تنبت،

تصفعك لعنتك القديمة

فتعيدك حيث تركت يوسف في غياهب البئر

لا يد تمتد إليك

لا صوت يخبرك بالحكمة المؤجلة

لا عينيان حانيتان تنظران إليك

لربما تتلقى تعزية مؤقتة أن ألمك مرئي

لا كلمة تلثم ما يقطر منك،

فتغمض عينيك مطمئنًا أن هناك من سيعيد الحكايا بصوت رحيم

تركض وحيدًا كمن يقبض على الريح بين راحتيه

وما ظننت أن لا طاقة لك به

قد حدث.


الخميس، 3 أكتوبر 2019

المخرج "محمد خان"- سلامٌ على من عبروا بخفة

 مقالة منشورة في مجلة فنون بتاريخ 3 أكتوبر 2019

مجلة "فنون"- هى مجلة مصرية تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتعد من أكثر المجلا رواجًا واستقطابًا لكتّاب مميزين في مصر والعالم العربي.

ظهرت المقال ضمن مقالات العدد (19)تحت عنوان "غرفة تخص المرأة وحدها"، احتفالاً بالإبداع النسوي المصري في كافة فروع الفن.


صورة غلاف مجلة "فنون"- الإبداع النسوي: غرفة تخص المرأة وحدها

سلامٌ على من عبروا ب"خفة" بعد أن "حكوا عنّا"ما لم نخبر أحد قط
قراءة نقدية في فيلم "في شقة مصر الجديدة"
أفيش فيلم- في شقة مصر الجديدة 2007


حين قدم "خان" كادر "تهاني" و هى تقف وحيدة علي رصيف المحطة و بجانبها يافطة كبيرة "القاهرة" تبدو و كأنها توشك أن تبتلعها، كان يطرق طرقاً خفيفاً علي حكايا تشبهنا.... نحن الفتيات القادمات من أشلاء مصر المنسية الباحثات عن صوت ليلى مراد فالتهمتنا القاهرة بموسيقاها الصاخبة للمهرجانات، ابتلعتنا بتهشيم أحلامنا الهشة في معركة غير متكافئة لتكسير عظام لا زالت تبحث عن متكأ في عالم يتحدث عنهن دون أن يتكلف العناء أن يراهن بالفعل.

مشهد للفنانة غادة عادل على محطة القطار- فيلم في شقة مصر الجديدة


    نحن القادمات من عوالمنا المغلقة نمارس فعل الانتظار المتأفف علي أرصفة الحياة، نعود إلى القاهرة التي تصفعنا ب"أول" قلم في وسطها الشهير فندرك مدى صعلوكيتنا و يتفتح وعينا الغض علي الشرو الأذي الذي يمارس بأريحية و بالمجان في العالم...ونئن في صمتٍ لأننا نعرف أننا لانستطيع أن نعود إلى مدينتنا فنروي خيباتنا، ولا نعرف السبيل إلى النجاة في شبكتها العنكبوتية سوى ممارسة مهارة الطفو أكبر قدر ممكن.

نعود إليها- إلى القاهرة- لالنفصح عن سادية أرواحنا والرغبة في تعذيب ذواتنا، بل لأننا صرنا جزءاً من لعنتها كما صورها لنا "خان". صرنا جزء من صخبها، ألمها، خذلانها، دوائرها البشرية المسكونة بهياكل عظيمة لاتمل الدوران في الفراغ والصخب في آنٍ واحد، بل و عفاريتها أيضاً، شققها المسكونة بأرواح قادرة علي الغناء في عتمة الليل، فتوقظ شياطين الروح التواقة إلى معرفة ما وراء الحكايا.

نعود إليها مكرهين تارة، محبين تارة أخرى. نحن فقط نعود فهى جزء من لعنتنا، هى جزء منّا حتى و إن تحولت ليافطةٍ كبيرة تلتهمنا في كلّ مرة. نتخلف فيها عن قطار نتمزق بين محطاته بين ما يتوجب علينا العودة إليه و بين ما نود أن نهرب منه لنكتشف ذواتنا. نعود ونحمل ذات بوصلة الروح التي تستعد في كلّ عودة لأن ترتج عقاربها تيهًا وكشفًا.


إبرة، خيط، و رحم

الفنانة غادة عادل، والفنان خالد أبو النجا- مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

          يحدث أننا حين نستعد للرحيل في أولي طلعاتنا الكشفية لاكتشاف عالم أكبرمن 

عالمنا الضيق يهيء لنا أننا استعددنا تماما لما ينتظرنا. 

حين يسأل البطل البطلة ساخراً "إنتي شايلة إبرة و خيط في شنطتك من المنيا؟"، 

يفتح "خان" عيناً سحرية تنظر داخل ذواتنا نحن الفتيات اللاتي لكي نوحي لمن حولنا ألا

 يقفوا في طريق تخطينا لعتبة الخوف بادعاء أننا مستعدات وحاملات "عدّتنا" كاملة. ينظر إلينا من وراء عدسته السحرية و يضحك من فرط سذاجتنا، فنحن نستطيع أن نحمل بكرة خيطٍ وإبرة للمدينة الكبيرة في نفس ذات الوقت نتيه تماما عن تذكر الشاحن، الحبل السري الذي يربطنا بالحياة التي نهرب منها.

في جمل بسيطة متتابعة تنساب كتدفق نهر لا يجد صخرة واحدة تحول دون الكشف عن

"حكايا" لم نرويها لأحد، يقف "خان" و كأنه رأى و استمع للعديد من حكايانا

بل لعلّه عاش دهرًا في حقائب الرحيل التي نحملها علي أكتافنا، ربت برفق بينما تعلو 

وجهه ضحكة صافية علي سذاجتنا المروعة حيننظن أن لدينا ما نريده من "عِدّة" لمواجهة العالم.

 "أنا اتزغفت!": أن نقع في الحب باختلاف التوقيت المحلي لقاموس اللغة         

الفنانة غادل عادل، والفنان خالد أبو النجا في مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

    بلا أى اصطناع صنع "خان" مساحة آمنة بين البطل و البطلة مهدت لأن يجد الحب 

طريقه إليهما، فقفز بكل خفةٍ فوق أسطورة الحب منذ النظرة الأولى. اعتقنا "خان"

 بتفاصيله الدقيقة من قاموس اللغة أن ندور في قدسية أن الحب حين يأتي تجد قلبك وقد 

انخلع من مطرحه، ففي حدوتة الفيلم الحب يأتي ب"خفة" و بساطة- بساطة الحوار

الكاشف بين اختلاف اللهجات للبطل و البطلة و التي يتخذها البطل مثارًا للسخرية من تلك 

الفتاة الساذجة المزعجة القادمة من أقصى الجنوب لتلقي علي مسامعه "أنا اتزغفت" أو 

تؤكد له  أن هناك "بحرًا" في المنيا أو تنظر إليه نظرة السيدات العجائز العالمات ببواطن 

الأمور "أكيد غارت مني" لتتركه يضحك علي سذاجة الفكرة أنها قد تمثل خطرًا علي 

علاقته بأخرى!

لكن التعويذة انقلبت عليه فأحبها بالفعل بالرغم من سخريته المبطنة منها.

          عَبَرَ"خان" بخفة فوق أسطورة اللقاء الأول،و اعتقنا من قوالب الحب الرتيبة كنا 

ننساب مع أبطال حدوتته بعذوبة دون أن نسأل لماذا وكيف؟ 

كنا نرى الحب و نبتسم له و ندبدب بأرجلنا كأطفال صغار في النهاية حين لم تنتهي 

الحدوتة بنهاية حلوة مش ملتوتة حيث من المفترض أن يصارح البطل فيه البطلة إنه "

بيحبها من زمان" تركنا نستشعر الحب كما يحدث في الواقع، بلا مقدمات، بلانهاية 

واضحة، بلا توقعات. ذلك الحب الذي يجد طريقه للطرق علي نوافذ القلب إذا ما تيقن أنها 

مفتوحة بالفعل لاستقبال صك المحبة.

         

استلام صك المحبة

الفنانتين "عايدة رياض" و"غادل عادل" يرقصن على أنغام أغنية- مشهد من فلم في شقة مصر الجديدة

          نحن ننمو و ننضج في مجتمعاتنا النسائية، فأما المغلقة منها نهرب بعيدًا عنها حين 

تتحول لسياطٍ تجلدنا و توصمنا بنواقصهن وإسقاطتهنّ.نهرب إليها حين تصبح رحمًا آمنًا 

يُعيننا علي تلّقي الوحى فنستعد لما ينتظرنا خارجها. حين نخطو أولى خطواتنا في التمرد علي دائرة النساء الواصمات لانستطيع أن نفعل ذلك دون أن نستبدلها بدائرة نساء تائهات عابرات متمردات أخريات، نتشاطرمعهنّ مخاوفنا التافهة بدءًا من أن تنحشر ثنايا الملابس في مؤخراتنا فنبدو حمقاوات أو مدعاة للسخرية من الاخرين، مرورًا بميلنا الغريزي للتجول بملابسنا الداخلية التي لانتعمد بها الاثارة بقدر ما نمارس حرية مسلوبة في مساحاتنا الآمنة،ونهايةً بهوسنا المرضي من أن يتركنا من نحب، فنبكيه،و نبكي أنفسنا،ونستدعيه بمحاولات انتحار مصطنعة نعلن فيها بلوغ منتهي اليأس، تهشم الذات الكامل وترجوه للعودة، فتتحقق النبوءة و يعود، فنتشارك جميعنا "زغروطة" فرح كانت بالأمس صرخة نحيب و ألم. لانستطيع أن نفعل ذلك دونهنّ، النساء،  السند الفردي المُتخيل في أبلة تهاني التي تعدنا أن كتاب الحواديت لم تكن حدوتته ملتوتة إلي صاحبة السكن و الملاذ و الخبرة التي توصينا بمواصلة غناء لحن الحب، و"سيبي قلبك يبقي دليلك"وحبي دون أن تتقيدي بمحطات قطار الأزمنة.

كيف غزلت كل حكايانا و رويتنا هكذا يا "خان"؟

******

أن تقعي في الحب مع "مش عارف"

الفنان خالد أبو النجا- مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة 

          "يحيى" البطل عاش قصتين حب، أولاهما مع "داليا" التي تقدم نموذج الفتاة التي تؤمن بحريتها وحقها في علاقة مفتوحة مع شريك، لا تطالبه بمسئولة مباشرة سوى أنها تقرر في لحظة ما أن ترتقي بالعلاقة لما تريده حقاً "طفلاً". يفاجئها "يحيى" بارتباكه وحيرته و رسمه لدوائرٍ من الفراغ يبحث فيها عن ذاته دون أن يمنحها معنى واضح ماذا يريد بالفعل؟


الفنانتين مروة حسين وغادل عادل في مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

أما القصة الثانية عاشها مع "نجوى" و التي يبدو أنه أحبها بالفعل بالرغم من استحقار وجودها في حيز حياته في البدء،ولكنه يعود فيرتبك، يكتفي أن يصل بها لمرفأها الأمن و يتركها تمضي دون أن يستبقيها أو يحاول ذلك.

أتخيل كثيراً جزءاً ثانٍ للفيلم، سيبدو مملاً ورتيباً بشكل متعمد ليصف "يحيي" الذي يمارس فعل الحياة من خلال الارتباك و التوحد مع جملته الشهيرة في الفيلم "أنا مش عارف أنا عايز إيه!"


لم يكتف "خان" بنموذج "يحيي" اللي "مش عارف" لكنه من ناحية أخرى قدم لنا الحب 

بزاوية رجالي أخرى لكنه ليس من جيل أصغر. المحبين الوحيدين كانوا ناس فوق 

الخمسين عايشين ع الماضي، واحد عايش علي ذكري مراته اللي ماتت وواحد عايش علي 

ذكري حبيبة محبتهوش بس هو حبها لمدة 10 سنين و لما اتفارقوا بعتلها "فات المعاد

علي شريط كاسيت. فايقاع العنصر الرجالي في قصص الحب في الفيلم ايقاع "ممل" و 

كأنه عايز يقول لربما أن الرجل في حبه مرتبك لدرجة الملل. أو بالأخص حين يكون الرجل "مش عارف" أو حتى لما بيعرف يمارس سرعة خاصة به وحده قادرة أن تفقده فرصة الحب حين تسنح له تارة أخرى كما حدث مع "عيد ميلاد". لربما، لا شيء مؤكد، سوى أنه حدث.

****

 

ولادة!!

الفنانة غادل عادل تحمل وليدًا- مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

          يأخذك الفيلم لرحلة "نجوى" للقاهرة للبحث عن أبلة تهاني/ رمز الحب، أو لربما هي رحلتها الخاصة أن تكتشف وتختبر تعريفها للحب اللي صدقته من صوت ليلي مراد و هي بتقول أنا قلبي دليلي.
قلب نجوى كان دليلها في المشهد ده، لأنها بكت في لحظة تستوجب الفرح، البكا اللي بيليق بعظمة لحظة ولادة للحياة،هى مرتبتشي تعيشها، هي اتحطت جواها، وبقت جزء منها، فالحياة منحتها سرها المقدس...سر التحول الانساني الهش اللي بيكشفك قصاد روحك بلا أى مقاومة. إن الحياة ذاتها هي المعجزة، السر، الأيقونة، الطفل لما بيتولد بيبكي لأنه بياخد صك الحياة ومعجزتها، وهنا بيسلم الصك ده لتهاني فبتبكي و هي بتتلقف منه السر.

الحياة في لحظتها الهشة الموجعة اللي بتستجلب البكا ليكون أكثر صدقاً من الفرح ذاته، فتقترب عدسة الكاميرا مع عدسة روحك، وتتعرى بفعل هشاشة اللحظة، تتوحد، وتبكي.

          تهاني في مشهد البكا المُصاحب للدهشة، المرافق لمعجزة أنك بتشوف حياة بين إيديك وبتحس بقيمة كلّ الأشياء الصغيرة.البكا أنها لربما كانت حتة منها بتتمني أنها تكون أم، واللي الفيلم مقلناش برضه هي كانت عايزة تبقي أم، وأكيد ده يليق بفتاة في ال 30 لازم بعرف مجتمعها تتجوز أم لا؟و الحقيقة أن كويس ان الفيلم مقلناش علي جزئية الأمومة دي علشان يخلينا نكمل خيال أن رحم الست مش بيتهيأ لمنح الحياة إلا لما هي نفسها تتهيأ لفعل الحب و تلاقي تعويذتها الخاصة بيه.

و لربما علشان "خان" يفضل يدهشنا بمعرفته عن عالم الست في لحظتها الهشة وتأرجحها بين احتياجها انها تكون أم و في نفس الوقت عجزها أنها تحقق ده.

إزاي دخل في رحم "الست" و عري هشاشتها كده؟ لا يوجد سوى تفسير واحد!
أن حبه للحياة اللي أكبر من تصنيف راجل و ست كان كبير ومتصالح لدرجة أن الحياة نفسها ادته سرها، فبقت مية روحه لاقطة كل خفايا الست، الجسد اللي ميشبهوش من بره، لكنه متبحر في عمقه لدرجة مخيفة، و مريحة، و كاشفة.


***

نهاية التعويذة

 

مشهد النهاية في فيلم "أوقات حديثة"- شارلي شابلن

          يسطر "خان" في نهاية حدوتته إلقاء التعويذة علي المشاهدين ليستكمل مشهداً قدمه العظيم شارلي شابلن في فيلم "أوقات حديثة" حين نمضي في نهاية العالم بلا طعام، بلا عمل، بلا سندK حين يعبر الفرح بجانبنا دون أن نكون جزءاً منه،سنعبر فقط، حين يتكأ أحدنا على الآخر، حين لا نكف عن ترديد تعويذة الحب


مشهد النهاية من فيلم "في شقة مصر الجديدة


فسلام علي روحٍ أحبت الحياة فصاغت تعويذتها وروت عنّا حكايانا، فبادلتها الحياةوبادلناهم حُبًا مُضاعفًا.

سلام على من عبروا ب"خفة".

صورة أرشيفية للمخرج المصري محمد خان