الاثنين، 24 أكتوبر 2016

"مجنون" الرصيف!- قصة

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 24 أكتوبر  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة "مجنون الرصيف"- مجتمع، ناس- موقع زائد 18 


السادسة والربع صباحاً بتوقيت المدينة المنهكة، يصطف المسافرون على رصيف محطة القطار كذرات غبار عشوائية لفظها الكون، تتجمع في نقاط مكثفة تعلوها قهقهات الأصدقاء أو صراخ الأسر لأبنائها بالابتعاد عن حافة السور "أحسن القطر يلهفك" أو سيمفونيات الصمت والهروب التي يجيدها المسافر وحيداً ملتحفاً سماعات الأذن وتحديق لا نهائي في الفراغ.
بحسب ما أخبرهم صوت موظف السكة الحديد المتحشرج المفصح عن سأمه من دوره الباهت، فعليهم الاحتشاد على رصيف 11، فالقطار على وشك دخول المحطة.
تتكدس ذرات الغبار والبشر على الرصيف في انتظار أن يلوح الضوء القادم من مقدمة قطار يحملهم إلى أرض الهروب الكبير.
تبدو دائماً الناحية الأخرى من الرصيف فارغة، تذكرنا بتلك المقولة "حيث العشب الأخضر على الناحية المقابلة أكثر اخضراراً"، لكنه لم يكن كذلك.
صرخاته تقطع الصمت المقدس الذي يليق بنسمات الصباح الأولى، يتوقع القابعون في انتظار قطارهم على الناحية الأخرى أنه يتحدث إلى أحد ما، يتلفتون يمينا و يساراً ثم لايلبثون أن يدركوا أنه أحد مجاذيب المدينة المنهكة، يفوت عليهم فرصة الترحيب به في عالم المجانين العقلاء ويعلن حضوراً قوياً "جتكو ستين نيلة.. جتكو ستين نيلة عليكو".. ويختتمها بالنداء علينا كقطع "جيف" متحركة.


ملابسه الرثة، قدماه المبتورتين تشيان بما تفرضه عليه المدينة التعيسة من دور في سيناريو متهالك، لكنه لا يمارس فعل استجداء العطف أو استدرار الأموال من عابرين يتلمسون سنداً واهياً ظانين أن جنيهاتهم القليلة لربما ستكون تذكرة عبورهم إلى "جنة".
يزحف زحفاً في نطاق ضيق لا يتخطى الخمسين سنتيمتراً بقدر ما يتيح له الفراغ السحيق مكان قدميه بالحركة. يستخدم طبقتين في صوته، فيبدو وكأنه ارتضى أن يقوم بدوري البطولة في فيلم يراه بمفرده.
يروى حكايته، يخاطب طيفاً أنثوياً قائلاً: 

"أنا قولتلك أنا مش بتاع جواز"!

يترك جمهور الرصيف يخمن من تقف أمامه، ما دار بينهما من مسببات للحوار ليدفعه للإعلان عما هو بادٍ للعيان، يصمت قليلاً، فنظن أن "عقله" قد استرد عافيته يباغتنا بتصاعد متسارع حيث يحمل عضوه الذكرى -أو هكذا يخيل لنا- بين كفيه، ويستكمل صارخاً: 

"أنا مش بتاع جواز يا مرة.. 

عايزة تتجوزيني علشان إيه.. إ

ديني سبب واحد يخليكي تتجوزيني!"

.. يتحرك مثل بندول الساعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. من صراخ هستيري كمن دهسته الحياة للتو.. وبين صوت هاديء رزين يتحدث قائلاً: "يا ريتني ما سبت محل التصوير، يا ريتني ما كنت قابلتك أصلاً".

يتركنا هكذا نحن جمهور الرصيف نحاول أن نملأ الفراغ المتسع من اعترافاته المتقطعة عن حياة لن نخبرها قط، قد يملأ البعض هذا الفراغ بمأساته الشخصية فتراه محدقاً في صورة تلوح في عينيه وحده، تمسك بتلابيب لحظة يكاد يحسد فيها "مجنون" الرصيف على جرأته للصراخ بأعلى صوت عما فقد ليس في جسده فحسب، بل فقد يتسع في روحه ويتغذى على ما تبقى من مسام عقله. والبعض يرى فيه تسلية لطيفة ليملأ فراغ الوقت فيتحول للتفاعل مع المشهد محتمياً بتواجده على الناحية الأخرى ويبدأ في إلقاء زجاجات المياه الفارغة على "مجنون" الرصيف الذي يتوحش بدوره، ويبادلهم بالسباب واللعنات.
رجل أمن يقظ يتفاعل مع المشهد عن بعد بالاقتراب من أحد الفتيات الحاملة عبء قلبها بمفردها.. يميل عليها فلا تفصله بين كتفه وكتفها قيد أنملة.. "دول كمالة عدد ربنا ياخدهم علشان البلد تنضف"، ثم يطلق قهقهة عالية تفضح رائحة فمه الكريهة وضرورة ملحة لمعالجة أسنانه التي ستشي حتماً برائحته مهما اختبأ.
يظن أنه أثار إعجابها وملأ فراغ  فقدٍ آخر يستتر به خلف زيه الميري.
المجاهرون بتذكيرنا بقبساتهم الملائكية النورانية يرددون بصوت عالٍ: "الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كصيرا من خلقه، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً"، ينهون جملتهم كخطيب جامع يتنحى عن منبره وينتظر جموع المؤمنين الغافلين أن يرددوا وراءه.. لا يدركون أن كل منا يحمل "بعضاً" منه.. وقد ننتهي يوماً إلى ما انتهى إليه.. فقط يفصلنا بضعة أمتار، وقضبان سكة حديد يحملنا بالتوازي إلى ما لانهاية، وقدر قليل من إيمان أننا لا زال لدينا شيئاً نقاوم من أجله.
ينهمك جمهور الرصيف في التحديق.. في الفرجة المجانية.. بينما ينظر إليهم بطل الفيلم الأوحد بين تردد واعٍ موجهاً سبابه إليهم "جتكو ستين نيلة.. جتكو ستين نيلة.. ناس سوّ"
يعلو صوت موظف استعلامات المحطة الكسول تارة أخرى مذكرأ بدخول القطار إلى الرصيف، تلوح من على البعد أضواء القطار التي تشق غياهب الجب.. ينهمك كلٌ في الخروج من فيلم الهذيان الصباحي بأقل خسارة ممكنة، يطمئن كل منهم على حقائبه، أسفار قلبه، وقناعه الذي يود ارتداءه حين يدلف القطار أو يترجل منه.
يهرول الجميع إلى باب عربات القطار الزرقاء المتهالكة يحملون من الخيبة والشتات زوجين، نصطف كجنود أمن مركزي بزي ملون يتم شحنهم في صناديق قمامة كبيرة باللون الأزرق لا ترى الضوء سوى من نوافذ يعتليها سلك شائك، كأنما يريدون أن ينفوا عنا تهمة الحياة فلا نتطلع إلى حياة خارج صناديقنا المحددة سالفاً.. كلٌ يبحث عن مربعه ومقعده ويستعد لأن يعلن رقمه بصوت عالٍ كمجند خدمة مستجد.. أصل إلى مقعدي.. استعد لرحلة البرزخ الطويلة.. أتصفح محرك البحث، تندفع سبابتي على غير إرادة مني في الضغط على أحد فيديوهات الصفحة الإخبارية، فأجد “مجنونا” من نوع آخر، يرغي ويزبد ويلوك الكلام في فمه ليستفرغه على جمهور الـ"ترسو" الذي لا يختلف كثيراً عن جمهور رصيف المحطة.. يؤرجح صوته بين أرملة أربعينية تستجدي معاشاً وبين معلم ينهر تلاميذه لعدم أدائهم "الواجب" كما ينبغي نحو…. الوطن.
أغمض عيناي.. يكفي جرعات هذيان مجانية لهذا اليوم.. استعد للاستسلام للنوم، علّ القطار يصل إلى وجهته سريعاً دون المرور بنوبات التعذيب المتعارف عليها في قطارات الصعيد، أو نصل لأقدارنا المحتومة في هذا الوطن، كمانشيت رئيسي لحادثة قطار يتبارى فيه "مجانين" آخرون ضرباً آخر للجنون، بينما ترن في صوت مجنون الرصيف وهو يودعنا قائلاً: "جتكو ستين نيلة"!