الأحد، 14 يونيو 2020

ما الذي يمكن أن تفعله "العزلة" بعقلك؟ سبعون يومًا، عشرة فخاخ!

 ما الذي يمكن أن تفعله «العزلة» بعقلك؟

سبعون يومًا- عشرة فخاخ!

مقالة منشورة في مجلة "فنون" للثقافة والآداب- مصر.

عدد 28- يونية 2020


في 11 أبريل الماضي، أعلن الروائي المغربي الطاهر بن جلون شفاؤه من مرض الكورونا. لم يشارك بخبر إصابته في المقام الأول أسرته أو وسائل الإعلام، اكتفى بأن ارتضى لنفسه فور علمه بإصابته بالحجر الاختياري في منزله لمدة أسبوعين، وفور تعافيه خرج  معلنًا خبر شفاؤه، وليس ذلك فحسب بل حمل بين يديه ما أسماه «رسالة إلى الصديق البعيد» باللغة الفرنسية والتي تؤرخ لتجربة العزلة والمرض وكيف -على حد قوله- «صارع المرض بالمخيلة»:

"عزلتُ نفسي في البيت، لم أخرج بتاتاً، لم أر أحداً، ورحت أنتظر. اتصلت بأصدقائنا المشتركين لأعلمهم بأن العيد، كل الأعياد أجّلت. عشت أوقاتاً من العزلة الشديدة، وخلالها حاولت جاهداً ألا أرى صورتي في المستقبل. لكنني تمكنت عبر المثابرة، من أن أتعلق بالفرح، بفكرة السعادة، بالأوقات الرائعة التي حملتنا نحو صداقة جميلة»[1].

لم أصب بالكورونا- أو لأكن أكثر دقة- لا أعرف أنا فقط أتعايش كما يفعل الجميع محتفظين  برصيد إضافي من الجهل المُتعمد بكل ما يمكنه أن يخلخل الحياة التي عرفناها يومًا. تحملني المخيلة -أيضًا- لالتقاط طرف الخيط من الطاهر بن جلون أراه يقف على الضفة الأخرى يخبرني و«الصديق البعيد» ما الذي تعنيه العزلة وفقدان الحياة التي عرفناها من قبل، والرغبة في تخليق الأمل من العدم. الآن بعد مرور ما يزيد عن سبعين يومًا من العزلة الاختيارية التي بدأتها في 15 مارس، يمكنني أن أروي «فخاخ العزلة» ويوميات مراوغتها. لا صديق متخيل لي -كالطاهر- ستصله رسائلي، ويكتب لي بالمثل، غير أن العزلة وضعتني وجهًا لوجه في مواجهة مخاوفي، أقساها وأقصاها واختبار الفقد بمنحدراته المختلفة، ألم تفعل بنا جميعًا ذلك!

 


فخ 1: كل هذا لم يحدث!!

يخبرنا علم النفس أن المرء حين يتعرض إلى ما يفوق قدرة جهازه النفسي على الاستيعاب يمر بمراحل يطلقون عليها متتالية الحزن، تبدأ بالإنكار الشديد لما حدث حيث يتحول العقل بكل ما يملكه من ميكانيزمات وحيل إلى العمل بطاقة عشرين مصنعًا لكى يمنحك عددًا لا نهائيًا من السرديات التي تدور جميعها حول حبكة واحدة «أن ما حدث لم يحدث»، أو ما يسمى بالإنكار بالكلية لكل ما حدث. الآن بعد مرور ما يزيد عن سبعين يومًا على عزلتي الاختيارية، أستطيع مشاركة بعض مما حدث بداخل سرداقات عقلي، ممرات روحي التي تكشفت في العزلة، أضعها دون أن أصفها، أسكبها فوق الورق لأصنع ممرًا نحو تكريم كل محاولة للبقاء حتى وإن اتسمت بأذيال المراوغة، غير أنها أبقتني هنا لبعض الوقت.

 في 17 مارس أى بعد مرور "يومين" على بدء رحلة العزلة، يبدو أن ممرات عقلي قادتني نحو الوقوف على مسافة آمنة أتأمل كل ما يحدث خارجي. لم أستطع أن أتجاوز ذعرًا يتدفق في عروق البشر وأشم رائحته يتسرب من أسفل باب منزلي المغلق بإحكام. لذتُ بالكتابة لأحمل طمأنينة لخوفٍ طبيعي بداخلي، خوف من شىء لا يستطيع أحد التكهن به أو توصيفه، شيء يشعرنا بتقزمنا الإنساني أمام ما يفوقنا من أهوال، شىء يعيدنا إلى نقطة ظننا أننا تجاوزناها بفعل الحضارة والعلم وإدعاء الفهم. كان هناك أيضًا خوف أن أصبح مثل «الآخرين»، أمضي مذعورة في الشارع أكدس البضائع، أتمترس في منزلي خلف عبوات اللبن والدقيق، أتوحش في صمت. كتبت النص التالي لأبدأ أولى خطوات «التباعد» عن وعي جمعي اتسم بالذعر والتوحش. 

مكث الناس في المنازل
أحضروا فرشاة الألوان،

وصفحات بيضاء بحجم بناية من تسع طوابق
حرصوا أن يغطوا كافة المساحة البيضاء
ثمة خوف أن تبقى الصفحة خاوية
لملموا أطراف الخوف الأربعة،

ثم تعلموا أن يُلبسوها لون فاقع يطلقون عليه «بهجة»!

 مكث الناس في المنازل،

خلف الجدران العالية
تسمع صوت الأقدام الراقصة فوق نهر الخوف
تربت بخفة على أكتاف طفلٍ،
يبكي مذعورًا من وحش يرقد بين دفتى العالم
يراوغ النوم
غير أن لا أحد هناك يتلو على مسامعه قصة من كتاب قديم
يتعلم المرة تلو الأخرى أن يرسم بطرف أصبعه بابًا في سقف الغرفة
يدلف منه كل ليلة لعالمٍ تحطه الأشجار من كل صوب
بينما تبتسم في وجهه
وتخبره أنه بخير
وأنه يمكنه أن يخلد للنوم الآن.

 مكث الناس في المنازل

يحشرون الطعام في أفواههم حشرًا
لكي يصمت الخوف الذي يكركر في معدتهم منذ البارحة
مكث الناس في المنازل
ثم التهمتهم الوحشة
رأوا انعكاس الظل على الحائط في غرفة معتمة
مدوا أصابعهم لإلقاء التحية
أصبحوا أصدقاء لظلالٍ لم يروها من قبل
تعلموا أن الظل لا يحمل خنجرًا
وأن الخوف المعبأ في دولايب المطبخ
سينتهي
ولربما آن الوقت لإطلاق سراحه
فالخوف أيضًا يشعر بالوحشة
ولربما الخوف أيضًا يشعر بالخوف !

مقتطف من نص "مكث الناس في المنازل"- كُتب بعد يومين من العزلة

*****

 


فخ 2: العالم بالخارج يحتاج ل "ضبط" و"سيطرة" !!

 

لم تمنحني الكتابة فقط مرفأ آمنًا للاختباء من ذعر يتكدس في الوجوه وفي نشرات الأخبار، بل منحتني موضعًا لقدم بينما يتسم كل شيء حولي بالسيولة وفقدان السيطرة. استدعيت صوت يتأرجح بين أمومة مفرطة ترغب في وضع الأشياء دومًا في نصابها ورغبة عارمة في إنقاذ العالم وتهدئة روعه، وبين باحثة ترفض أن تردد ما يتواتر من أنباء دون فرزها وتحليلها وأرشفتها.

 انهمكت بالكلية في الكتابة، تسابقت مع الوقت والخواء الذي بدأ في التسرب بداخلي، كنت أحشو فمه بالكلمات، أرصها رصًا لأسكت صوتًا يهمس برفق بداخلي، هل أشعر بالخوف؟ من ماذا؟

 فخ 3: ألعاب ومراوغة!

         أخبر المحرر أني بصدد استكمال مقالاتي التي أوثق بها الجائحة، بمقالٍ جديد عن الكورونا والعزلة.  يشير إلىّ المحرر- كعادته- بمشاركة الفكرة في البداية وتوضيح مسارها لكى يتم البناء عليها. أخبره في رسالة صوتية عبر الواتس أب - تمتد لما يزيد عن الخمس دقائق- حول المعنى اللغوي لل"عزلة"، أكدس الفكرة وراء الأخرى في مظاهرة افتراضية تتقافز فيها الأفكار وتتزاحم الواحدة تلو الأخرى حول توصيف العزلة من منظور علم النفس، ثم ما تمّ تناوله عبر العالم حول الوحدة والعزلة، إلحاق بعض المراجع الخاصة بعلم النفس الإكلينيكي ثم علم نفس اضطراب ما بعد الصدمة، وأدلف سريعًا نحو علم الاجتماع أيضًا. ألتقط أنفاسي، ثم أباغته بفكرة جديدة، عن الفرق الجوهري بين "الوحشة"، "الوحدة"، و"العزلة"، أشير بأصبعي- بينما لا يراني- إلى صورٍ التقطها المصورين حول العالم أوثق بها معانٍ مختلفة للعزلة.. أخبره بأني بدأت بالفعل في التواصل مع صديق يعيش بالمملكة المتحدة، يروي تجربة العزلة/ العزل مع ابنه المصاب بالتوحد، تلك أحد اهتماماتي في التعليم التي أود استكشافها لاحقًا. أذيل المحادثة بخطابٍ حماسي وقفزة مباغتة نحو منح معنى نضالي للعزلة بقولي "وآه طبعًا العزلة هتخلينا نكتب عن السجن، وعن الحياة داخل السجون". أصمت ثوانٍ، أتذكر خلالها خبر وفاة فادي حبش في الأسبوع المنصرم، أشعر بالتضاؤل أمام نفسي، كيف يمكنني أن أكتب ذلك! كيف يمكن الاقتراب من تلك المنطقة شديدة الإيلام والعجز وقلة الحيلة! أتراجع سريعًا بقولي "بس أنا مش هقدر أكتب عن السجن". 

تنتهي الرسالة الصوتية - أو للدقة- البيان الذي ألقيته على مسامع المحرر! يأتيني صوته هادئًا بقوله: "هى الفكرة مش ممسوكة، بس خلينا نكتشفها، يلا بينا". أفرح كطفلة أخبرها أحدهم للتو أنها ذاهبة للملاهي، أخبره بنبرة حماسية تعلمتها من التجريب في المسرح "ايوااااا يلا بينااااا". تنتهي المحادثة الافتراضية. أشمر عن ساعدي استعد لكتابة ما تمّ الاتفاق عليه.

فخ# 4: منحدر!

ابدأ في مساري المعتاد في بناء المقالة، بانفجارٍ كوني في رأسي للأفكار، أصبها صبًا فوق الصفحات البيضاء، انتقل في سرعة إلى تأطير الأفكار بما جمعته من مراجع علمية. اطمئن أن المقالة تسير وفق ما هو مخطط لها تمامًا. يمر اليوم تلو الآخر، شىء يخبرني أني أحيد عن المسار. بالرغم من أن الأفكار تتقافز من هنا وهناك، يمكنني إلصاق الواحدة بجوار الأخرى ليبدو "ترقيعًا"، أو لأخبر نفسي بقليل من الإيجابية المتبقية في رصيدي "موزاييك"...! المقالة ستبدو مثل لوحة موزاييك. غير أني لازلتُ استمع لصوت يهمس بداخلي "إنتي متأكدة عايزة ترصي الرصة دي؟".

كل شىء يتوقف. يمر الوقت، "اللوحة" التي أخبرتُ نفسي بها لا تبدو أنها توشك على الاكتمال ولو قيد أنملة. ثمة شيء يتعاظم بداخله يراوغني ولا يمكنني الإمساك به. علمتُ حينئذ أني لا أستطيع أن أكتب عن "العزلة" لأني اختبرها. أقبع في الداخل لا أشاهدها كلوحةٍ مُعلقة على جدران متحف متخيل. محاولتي للالتفاف حولها بأن أصنع مسافة "أخبر بها عنها" دون أن أتكشفها بداخلي ستبدو بالفعل "ترقيعًا". يعلو الصوت مجلجلًا: "بلا موزاييك، بلا رومانسية فاضية، امشي ورايا".

اليوم استسلمت لما يتحرك بداخلي، أن أشعر ب"العزلة"، اختبر هذا الشعور بحدته وقسوته لربما للمرة الأولى، التي تصبح فيها عزلتي جبرية. أستعيد إلى ذاكرتي "العزلة" كما وصفتها "هيلين كيلر" في مذكراتها يومًا بقولها:

فلأكتب إذن عن "شعوري" بالعزلة أو كما أود أن أسميها "وَحشَتي" وكيف تكشفت لي في يوميات العزلة.

فخ# 5: الهروب للداخل!

أخبرت نفسي أن العزلة فرصة ذهبية لقراءة كل تلك الكتب التي تطل برأسها معاتبة في "نيش خشبي" حملته معي منزلي بالقاهرة، لربما سأخبر قصته في مكان آخر. التقط رواية "الخوف من الموت" لإريكا يونغ، يمنحني الغوص في القراءة مسافة آمنة، ثم أتوقف عند قولها على لسان البطلة:

"هل نتمسك بآبائنا وأمهاتنا، ام أننا نتمسك بوضعنا ونحن أطفال منيعون ضد الموت؟ أعتقد أننا نتمسك بقوة تزداد باطراد بوضعنا ونحن أطفال. في المستشفى ترين أطفالًا آخرين- أطفالًا في الخمسين، والستين، والسبعين- يتشبثون بآبائهم وأمهاتهم الذين في الثمانين والتسعين، والمائة. هل هذا التشبث كله حب؟ أم أنه فقط حاجة إلى التوكيد على مناعتك الخاصة ضد العدوى من مولوخ- ملاك الموت الرهيب؟ لأننا جميعًا نؤمن سرًا بخلودنا الخاص. وبما أننا لا نستطيع أن نتخيل فقدان الوعى الفردي، فإننا نستطيع أن نتخيل الموت. كنت أحسب أنني أبحث عن الحب- ولكن ما كنت أسعى إليه حقًا هو تجسدٌ جديد. أردت أن أستعيد الزمن وأعود طفلة من جديد- وأنا أعرف كل ما أعرفه الآن"

منحتني عبارة "يونغ" ممرًا جديدًا أعبره نحو "ملء" أيام العزلة. تركتُ الرواية من يدي وأنا أقفز مهللة. لقد ظننت أن الأجواء المصاحبة للجائحة تثير بداخلي خوف ما من الموت.اعترف أني أخشى الموت حين يحدث ل"آخر"، أما موتي الشخصي فحرصت منذ سنوات على الاستعداد له بأشكال "مريحة" لكى أعبر نحو تحولي الأعظم- هكذا أؤمن.  إذن أنا لا أخشى الموت في العزلة، الأمر لا يتمحور حول الخوف، كل ما في الأمر أني بحاجة لأن أتجسد في حيوات متخيلة. 

إذن هذا هو الأمر. فلأفعلها إذن!

*****

 فخ# 6: الذاكرة تحيلني إلى مخاوف قديمة!

لازلت أحتمي بداخل الكتابة، أشرع في التقاط "شخصية" وددت كثيرًا الكتابة عنها، بدأت النص- قيد التطوير- في مارس 2017، اقتبس منه التالي:

" في مركز الصورة المعاصر، منذ عدة سنوات اعتدت على الذهاب ل"مركز الصورة المعاصر" للعمل والقراءة، في كل مرة بينما أقضي يومًا كاملًا كان هناك رجل يرتدي قميص أسود وبنطلون جينز بنفس اللون يجلس على كنبة الاستقبال. حين أدلف المكان ينظر لي نظرة سريعة، ألقي التحية فلا يلتفت إليها، حتى اعتدت ذلك. أتوجه إلى مكاني المفضل بجوار رف الكتب، بينما يجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى ويبدأ في التحدث لأشباح متخيلة. في البدء شعرت بالقلق، التفت إلى المرأة الجالسة بجواري، بدونا مرتبكتان. 

كان يمكث هناك على أريكة الاستقبال بنفس الجلسة ساعات طويلة، لا يتوقف عن وضع الساق فوق الأخرى، ولا يتوقف عن الحديث لمن يراهم فقط، بنفس النبرة الجادة التي تخلو من أى ارتباك أو التفات لمن حوله.

يومًا تلو الآخر، زيارة وراء الآخرى، اعتدت وجوده في المكان، بل توقفت عن انتظار أن يتقدم نحوي ويتبادل معي أى حوار. كان يبدو أنه يعيش في عالمه بالكلية. كما توقفت أيضًا عن استراق النظر إليه من وراء شاشة اللاب توب، بينما أبدو منهمكة في النقر على الكي بورد. "

لم استكمل النص منذ تاريخ ولادته، اكتفيت بأرشفته في ملف عنونته "أشياء لا أفهمها بالقاهرة"، مثل: عبور الشارع بينما السيارات تأتي مسرعة، إطلاق الكلاكسات بدافع الملل، الإصرار على التبول في الطريق العام دون خجل، محاولات مراوغة التصاق مخاط أحدهم بوجهي بعد أن تبرع بمشاركتنا إياه في الطريق العام، وأناس يتحدثون مع أنفسهم ونرتطم بهم في الطريق العام.

يسألني صوت بداخلي، لماذا عدت الآن إلى هذا النص، لماذا قفزت في مخيلتي هذا الرجل بينما يجلس واضعًا ساق فوق الأخرى على كنبة الاستقبال؟

أجبت فورًا: أفتقده!!

هل حركت العزلة "جثته" المدفونة في مخيلتي

هل أصبح كلانا يتحدث- في عزلته- مع أشباح يأتون من بعيد!

الآن أرى!

*****

فخ# 7: ضجيج البقاء بداخل رأسي، بينما الوقت لا يمر!

         في مقابلة عقدتها "سوزان سونتاغ" كانت تخبر كيف تبدأ القصة بداخلها بقولها: "أستيقظ صباحًا أستمع إلى الصوت بداخلي، أستسلم له بالكلية وكل ما أقوم به هو أن أتبعه". في مراحل تشكل ذاتي الكاتبة، كنت أعود كثيرً إلى مقولة "سونتاغ" المرة تلو الأخرى، غير أن بمرور أيام العزلة، لم يعد هناك "صوتًا" وحيدًا يقودني لممرات متخيلة نحو قصة لم ترو بعد، بل يبدو أن الصوت قد توالد ليصبح في رأسي "قبيلة" من أصوات تصنع ضجيجًا لا ينقطع. لم تهدأ حتى ظهرت في النص التالي:

على كل الأشياء التي تحدث في عقلي – فقط- أن تتوقف!

زيارتي لك في الثانية صباحا كى أقبلك بين عينيك وأخبرك عن أهمية تناول البطاطا الساخنة،

تذكرة السفر إلى بلد وحيدة ثم إيقاظ حاسة التذوق المعطلة بالتهام أكبر قدر ممكن من التوابل،

التحول إلى عقلة إصبع ثم القفز إلى سرة من أحب لأرى العالم من هناك،

إخبار نبتة الفلفل الأخضر التي ماتت بالأمس أني أحببتها كثيراً، 

وأني أدين لها بمعرفة مواسم الرحيل، 

ما لم يخبرني به أبي- قبل أن يرحل هو.

إطلاق الرصاص على فم أحدهم يلوك الكلمات مئات المرات، 

يسيل من شفتيه لعاب أبيض بلا معنى- يدعو للضحك!

الذهاب فورا إلى حائط قام أحدهم بتعليق صورة تبتسم، 

إزاحة الصورة، 

اخبار الحائط أن الصورة فقدت القدرة على الابتسام ،

أعقد صداقات متتالية مع عنكبوت أربيه في الخفاء.

محاولة استعادة ضفيرة باللون البني يتخللها خصلات ذهبية، 

الاستماع برفق إلى مسام جلدي المحترقة،  

الندبات التي تنبت لهباً كل ليلة يمكن تحويلها إلى لون برتقالي 

وتركه يمرح على صفحة بيضاء لكتاب التلوين الجديد.

الرائحة التي تشي بطفل خائف يجلس في نهاية الصف، 

أفهمها الآن جيداً 

وأحنو عليه جيداً 

وأغفر له بكل ماء قلبي 

أمنحه السماح للعبور نحو بكاء محبة ما باتت ممكنة.

على كل الأشياء التي تحدث في عقلي أن تتوقف

لأنها لم تحدث.

مقتطف من نص لي: "على كل الأشياء التي تحدث في عقلي"- 15 أبريل

*****

فخ# 8: الوصول ل"حافة" الخوف من الجنون !

أمنح لنفسي الإذن بالتوقف عن "ملء" الوقت بال"فعل" وأنه لا بأس على الإطلاق ألا أفعل شيئًا، حتى وإن كانت الكتابة التي أحب. لا زال بداخلي تدفقًا ساخنًا من غضب يتأجج كلما تجولت في منزلي ولا أرى غير عالمي. بينما أحاول أن أطهو وجبة، يأتيني الصوت مرة أخرى يخبرني أن أبحث عن لوحة "زيوس يأكل ابنه". الصوت يعلم أني أبحث عن تجسيد للغضب الذي يمور بداخلي.قادتني أصابعي - والصوت- نحو اللوحة المذكورة. كنت قد قمت بدراستها من قبل في سياق آخر، غير أني وجدت نفسي ك"أليس" تدلف إلى عالم "غويا" وبالأخص "لوحاته السوداء". أرسل رسالة نصية إلى صديق بسوريا مهتم بالفن وتاريخه، نستكمل نقاشًا توقف منذ سنوات لا نتطرق لشىء عن الحرب او الكورونا أو الحياة، كنا نتبادل الحديث عن "غويا" وعزلته، أو بمعنى أدق كان كلانا يختبىء خلف الحديث التحليلي عن لوحاته. كلانا شعر بالخوف، ليس خوفًا من الموت، بقدر ما هو خوف من العزلة، الوحشة، الجنون!

أعلم تلك الحافة جيدًا، أنهيت المحادثة وبداخلي نية مبيتة على فعل حركة استباقية للتحليق فوق تلك الحافة. كان لدى حيلة طفولية- أحبها جدا- أن أقرأ عن كل ما أخشاه. الطفلة بداخلي تراوغ الخوف بان تحمل بيديها الصغيرتين كتابًا. اخبرت صديقي- في رسالة نصية-  والطفلة والصوت أني في الصباح سأعكف على قراءة كتاب إيريك فروم "تشريح النزعة التدميرية"، سننقذ "غويا" ونحن وآخرين من وحشتهم ووحوشهم.

******



فخ# 9: حداد "الأربعين" يومًا!

يبدو أنني فقدت القدرة بالكلية على استحداث ما يُمكنني من المقاومة، لا أدري ما الذي أقاومه، هل الخواء أم الخوف أم العتمة من لا يقين يحتل كافة مسام جلدي. أكتب في النص التالي، عالمي بعد مرور أربعين يومًا من العزلة. يأتي الرقم ذو دلالة جنائزية، فها أنا أقف لتلقي العزاء والرغبة في الحداد بالكلية دون مراوغة أو التفاف، الحزن من فقد "الحياة التي عهدتها من قبل" أو لربما ما حركه مثل هذا الفقد من حزن لم يتم السماح له من قبل بأن يتنفس أو يتحرر قيد أنملة.

ثمة تحذير مكتوب على التذكرة
مساند مقاعد المشاهدة مزودة بمجسَّات رقيقة حادة الحواف
خلايا جلدك المحترق للمرة الثالثة،
سيتم قرضها بأسنان فأر يعبث بأثاث منسي لبيتٍ قديم.

 يوشك العرض أن يبدأ،

لكن كتيب العرض لا يذكر على وجه الدقة

كيف نبحث عمّا فُقد؟

الشاشة معتمة

ستبقى أربعين دقيقة كاملة

في محاولة أخيرة لأن تدفع خارجًا،

كإمرأة في مخاضها لا ترى رأس وليدها،

يتسرب سائل ككتيبة نمل مدربة

في أطرافك الممسمرة على صليبٍ خشبي.

مقتطف من نص لي: "تذكرة سينما"- تم نشره في مجلة أوكسجين الأدبية- تاريخ 25 أبريل

***

فخ# 10: القفز للخارج مرة أخرى، محاولة الإمساك بخيط يتقطع للحياة!

أقرر القفز في حذائي والسير لأطول مسافة ممكنة لا يمكن البقاء في متحفي المتخيل. أقرر السير قبل ساعات من الإفطار كان يبدو أن هناك "آخرين"، راقت لي الفكرة وأنا التي – في زمن آخر- أحرص على الهروب من كل تجمع بشري، غير أن سيرنا في خطوط تشبه قبيلة نمل، غادرت ملاذها لفترة لكى تبحث عن فتات الطعام. كنت أبحث عن "الوجه". خطوت الخطوة تلو الأخرى، تدفقت الدماء بداخلي، شعرت أن شيئًا يعود إلىّ من جديد، زادت الدماء حتى وصلت إلى خط مميز بجانب خدي الأيمن- بفعل الابتسام. أجبرتُ نفسي على الابتسام للغرباء، الأول ارتبك، كان رجلًا في نهاية الخمسين يرتدي قفازًا وكمامة، فاجأته ابتسامتي، استوقفني وهو يسألني "انتي من نادي الجزيرة صح؟ احنا اتقابلنا هناك؟" أوشكت على الكركرة بصوت مرتفع، أفتقد تلك الحيل الذكورية في "شقط" النساء ، لطالما تململت منها وغضبت من تكرارها، اليوم تصالحت معها بالقدر الكاف لأجعلها تمر فلا تلتصق بجلدي.

 أما الابتسامة المجانية الثانية، الثانية منحتها لفتاة ترتدي زيًا رياضيًا تركز النظر على نقطة في الهواء، ابتسمت، بادلتني الابتسامة، شىء يعود لي، يتدفق بداخلي ذاكرة قديمة عن حيلتي في توزيع الابتسامات على النساء تعلمتها منذ بضعة سنوات حين تقاطعت مع فتاة ترتدي فستانًا فوق الركبة بشارع محمد محمود، كانت مرتبكة وخائفة، أعلم جيدًا توترها ووقوفها في انتظار أن تحشر نفسها حشرًا في العربة لتختفي، بادلتها ابتسامة، عدت للمنزل ذلك اليوم بروح المنتصر وأرشفتُ في ذاكرتي: ابتسامة الطمأنينة!

في اليوم التالي اضطررت للذهاب للبنك، ارتديت الكمامة ونضارة شمسية كبيرة، بدوت مثل لص يوشك على القيام بعملية اقتحام بامتياز، جلست بانتظار الدور، كنت أرقب الجميع من خلف نظارتي الشمسية، حركات يد الرجل الثلاثيني الذي يجلس محاولًا شرح شيئًا ما للموظفة خلف المكتب، ارتفاع يده ثم فرد الكفين، تخيلته مايسترو في أوبرا، تجاوزت فكرة أن لا حفلات حية من الأوبرا بعد اليوم. الرجل السبعيني الذي يتكور في مقعده غير أن صوته يعلو بين الحين والآخر لينظم الجميع في طابور ويعيد علينا المرة تلو الأخرى "ما تقفوا في طابور، انا قاعد وعارف مين جه ومين مشي" قبل أن ينفجر في موظفة الشباك صائحًا بعزم ما فيه "مش معقول كده، مش عارفة تشتغلي اقعدي في البيت"، رغبت بشدة في الضحك الهستيري، وددت لو اقتربت منه لأخبره أننا في 2020 وأننا "كلنا يا حج قاعدين في البيت بالصلاة ع النبي، روووق كده" غير أني توقفت.

كان الاتصال الإنساني العابر يمنحني بعضًا من حياة يومية كنت أتعارك معها من قبل. منذ بدأت الجائحة وهم يكررون على مسامعنا في حال الإصابة، سنفقد حاستي الشم والتذوق. ما يزيد عن سبعين يومًا وأنا أجزم أني أفقد شيئًا آخر.

****

ما الذي يمكن أن تفعله "العزلة" بالعقل البشري؟


يشير "آمي روكاتش  Ami Rokach اختصاصي الطب النفسي السريري، الذي خصص ما يقرب من أربعين عاما في فهم "الوحشة" ان هناك فرقً جوهريًا بين "الوحشة" والعزلة. Loneliness and solitude، أما الأولى فهى على حد قوله، خبرة شديدة الخصوصية تختلف من شخص لآخر، يختبر من خلالها الفرد مشاعر مؤلمة من الهجران والنبذ وفقدان الاتصال الإنساني، بينما العزلة التي يختارها الفرد لكى يتأمل من خلال قضاء بعض الوقت في الطبيعة أو الكتابة أو إطلاق سراح طاقته الإبداعية، فذلك شىء مختلف بالكلية. إن مثل هذا التمييز بين الشعورين هو ما دفعه إلى تقصي واستكشاف "الوحشة" طيلة أربعين عامًا من الدراسة والتحليل. مما دفعه للقول بأن هناك "وصمًا للوحشة" فغالبًا لا يميل الأفراد إلى الاعتراف بها، ففي حين يخبر الشخص المكتئب الآخرين أن يقوموا بالابتعاد عنه، الشخص "المستوحش" يتوق إلى وجود الآخرين حوله ليمنحوه ما فقده من شعور بالحميمية الإنسانية وإن وجوه مقبول ومرغوب به.بقدوم الجائحة، صارت "الوحشة" على قائمة الموضوعات الساخنة التي يتناولها مجال الصحة النفسية، فقد لوحظ أن البعض أصبح أكثر انفتاحًا في التعبير عن وحشتهم دون الشعور بالانتقاص من ذلك، لأنه أصبح من السهل الآن أن يلقوا باللوم على ما فرضته الجائحة من عزلة إجبارية تساوت فيها اختيارات الجميع[ii].

إن ما تسببه العزلة والتباعد الاجتماعي من آثار على العقل والجسد، تمّ رصدها من خلال دراسة عدة مجموعات ابتداء من رواد الفضاء الذي يمضون فترات طويلة في الفضاء الخارجي والمساجين والأطفال في العزل الطبي بسبب نقص المناعة الجسدية، باحثي القارة الجنوبية (أنتاركتيكا)، وكبار السن. تركز مثل تلك الدراسات على تتبع أنماط السلوك "الانعزالي" بين المجموعات المختلفة بغية الاستنارة بعدة طرق لتقليل ما تسببه العزلة من آثار مدمرة على العقل والجسد قد تصل في خطورتها إلى ما يمكن تشبيهه بخطر تدخين 15 سيجارة يومية[2].. يشير لورانس بالنيكاس Lawrence Palinkas، الباحث في جامعة جنوب كاليفورنيا، والمتخصص في دراسة أنماط التكيف النفسي في البيئات القصوى، إلى أن "الاكتئاب والقلق يضربان بقوة في فترات البيئات المنعزلة وبخاصة حين تمتد فترة العزلة دون وجود إعلان واضح بموعد انتهاؤها[3].

تضيف سامانثا بروكس Samantha Brooks الباحث بكلية "كينج" بلندن والمتخصصة في دراسة الأثر النفسي لل"عزلة" وقت الكورنا أن الأعراض المدمرة للعزلة يمكن أن تنخفض بشكل ملحوظ في حالة "توضيح" ما يحدث، وأنه كلما زادت ضبابية الحدث أو تعرض الناس إلى رسائل متناقضة غير ذات معنى، فإن ذلك يؤثر سلبًا على قدرتهم على التكيف في مثل تلك الظروف.

في بحث نشر في 26 فبراير، قام به ما يزيد عن 7 باحثين حول الآثار النفسية المترتبة على التباعد الاجتماعي كأحد إجراءات الوقاية التابعة لجائحة الكورونا، أشار البحث إلى احتمالية ظهور الأعراض التالي: الانزعاج- الأرق- اضطرابات ما بعد الصدمة- الغضب- الإنهاك النفسي- انخفاض المزاج- سرعة التأثر والتشوش الإدراكي. بالإضافة إلى ظهور شديد لانفعالات حادة للخوف، العصبية، الحزن، والشعور بالذنب [4].