الاثنين، 15 أكتوبر 2018

كان طفلًا

  قصيدة منشورة بمجلة أوكسجين عدد 236

مجلة أوكسجين هى مجلة نصف شهرية ثقافية برعاية الشاعر والروائي السوري زياد عبد الله


كان طفلاً في الأربعين خلفت له الحياة تجويفاً أبدياً

وضع الأطباء أحباله الصوتية في كف يده

وحفروا بمناشيرهم تجويفاً في منتصف عنقه

لم يعرف بيديه العاريتين كيف يردم حفرة

استيقظ ذات ليلة

كوّر أطرافه الأربعة

انسل داخلها

لربما صادفه أشرار قابعين هناك سلبوه طعامه وصوته

لربما ارتكن إليها كهفاً آمناً يكفيه نبذ العابرين

لقد ابتعله تجويف عنقه عشرون عاماً أو أكثر.

استيقظت اليوم باكرأ لأسرق سلماً لأصعد إلي عنقه

حين وصلت إلي مبلغ تجويف رقبته

نظرت طويلاً

غمرتني العتمة

هممت بالنداء عليه

لم تتحرك شفتاي

صوتي سقط وأنا أتسلق سلماً لعنق أبي

مددت أطراف أصابعي علني أجده في تجويفه

أصابع كفي يدي صغيرة جدا

وهو يعلم ذلك

أصابعي لا تصل إليه حيث يرقد في عتمته

ليتني استطيع أن استحضر أليس من عالم عجائبها

فتمنحني مشروباً سحريا لتستطيل أصابعي

علًني أصل إليه

أو لربما ستمنحني يداً أخرى تمتد لتربت علي جبينه

وتخبره أني آتية بعد قليل.

فلتخبروه أني أتيت

وأني مارست أولي السرقات

وأولي خيباتي

وطرقي الأبدي علي باب حزنه

وأني أتيت

وبحثت عنه

وعدت بلا صوت ((ه)).

***

كان طفلاً في الخمسين

كان يحلم أن يصنع ماكينة لصنع الآيس كريم

أتاني صوت سيدة تدعي أنها أحبته

لقد ترك لها وعاءاً معدنيا ضخماً و ملعقة خشبية

وحلماً مبتوراً يحول فيه الغيمات إلي غزل بنات

ثم يستخلص السكر من طياتها ليغزل منه حلمه القديم

أتاني صوته يخبرني أن أحمل الوعاء و الملعقة الخشبية

وأن أكمل ما بدأه

صيد الغيمات بلون الحليب

إضافة قطرات من سكر المحبة

التقليب لما يقرب من عشرين عاماً

الاختفاء حتى ينضج المزيج

في كل ليلة أنظر إلي وعاء معدني

وملعقة خشبية

وغيمات تفوح منها رائحة قطن دم متخثر

ولا أجده

أعيد الاتصال بصوت المرأة

لا تجيب

لا أحد يخبرني ماذا أفعل كل ليلة

بوعاء معدني

وملعقة خشبية

وغيمات يتساقط منها هو

لا أحد

أستجمع أطرافي الأربعة

وأتكور في الوعاء

أمارس لعبته الأبدية في الاختفاء.

***

 كان طفلاً في الستين يحلم أن يبني بيتاً

حمل ماء قلبه، أحباله الصوتية في راحة يده

ختم والده من أربعين عاماً من التيه والشتات

استجاب لنداء قلبه في أرض عارية كروحه

غرس قدميه فأنبتتا شجرة صنوبر كبيرة

تقبع على مدخل بيته

خلع عنه كل ما لايشبهه

لم يكن حداثياً، كان يكذب

لم يكن متحضراً، كان يعي أنه يكذب

لم يكن مناضلاً، كان عاجزاً عن أن يكذب.

لم يكن...كل ما ظن أنه هو

أربعون عاماً من التيه

أربعون عاماً يرتدي وجوهاً لا تشبهه.

حفر مقبرة في الباحة الخلفية

أقام حفلاً يليق بالجلد المتساقط عنه

ردم بعظامه المقبرة

في الصباح تحولت لأشجار مانجو تطرح ثمارً لم يتذوقها أحد.

كان طفلاً في الستين يحلم أن يبني بيتاً

يسير فيه عارياً ووحيداً.

***

 كان طفلاً في السبعين يحب الله كثيراً

جمع كل ما آمن به أهل الأرض في حقيبة سوداء

أسكنها أسفل وسادته

يستيقظ كل صباح ليتناول جرعته الإيمانية

يردد في صمت تعاويذ الصبر

يحرك ما تبقي من أطرافه بإيقاع منتظم

يطوف حولها باتجاه عقارب الساعة بلا ملل

أحب الله

وما أحب نفسه

أحب حقيبة الإيمان خاصته

حين منحوني الحقيبة ذات صباح

بحثت طويلاً

لم يكن يحب نفسه

وما أحب الحياة

كان يحب الله كثيراً

كان يحب الموت أكثر.

***

 في الخامسة والسبعين بتوقيت انتظار ما لايجيء

يستيقظ صبيحة كل يوم

ماداً ذراعيه في الهواء

ظهرت السيدة صاحبة الصوت

تخبرني أن أصنع من أصابعي جسراً علًني ألتقي معه.

أتأفف من وجودها بالأصل

أكاد أخبرها

أنه يمد يديه مستقبلاً أشخاصاً قادمين

فلتصمت للأبد

وجودها دوماً غير مُرحب به

أجرجر ساقيّ وأغادرهما

أتعثر بظله حين أهمّ بعبور الشارع

يسحقني صرير عربة مارقة

في تقرير الجثة النهائي

هناك كدمات زرقاء علي الجسد

وعاء معدني ضخم

ملعقة خشبية

حقيبة سوداء

وعبارة كتبها الطبيب

"مصابة بتجويف في العنق...

يبدو أنها فقدت أصابعها في محاولة الإمساك بشيء."

***

الصورة من مجموعة أعمال بعنوان "لوحات العلبة" للفنان والكاتب المصري محسن البلاسي


الجمعة، 5 أكتوبر 2018

سواران من ذهب- قصيدة

 قصيدة منشورة على موقع الكتابة الثقافي بتاريخ 5 أكتوبر 2018

موقع الكتابة الثقافي مُلتقي الكُتّاب العرب والمصريين.


صورة للشاعرة- ريهام عزيز الدين

سواران من ذهب

شاب تشي به سمرة الجنوب  يختلس النظر إلى هاتفه دوناً عن الطريق،

و حين يستبد به الشوق يدير الكاسيت بصوت قلبه المحترق “يهمك في إيه”.

العربة التي تحملنا جميعًا كصلبان خشبية سيتم إحراقها في المحطة التالية،

 تتأرجح بين يدي السائق وتعرجات الطريق،

ومسيح ضل الطريق إلى جذع النخلة علّه يجد ما فقد.

طفلةٌ فقدت دبها المفضل للتو وتبحث بين أرجل الجالسين عن ساقيّ والدها الطويلتين، تعود بخيبة

فتاة لها عينان بلون السبانخ تؤكد للصوت أنها في الطريق إليه، قد يتطلب ذلك ساعة او لربما عامين.

نمر علي صناديق زجاجية تقف بها نساء عاريات،

يخبرن المارة ان هناك تخفيضاً هائلاً علي ملابس الإحرام البيضاء،

بينما يتخشب بها أجساد رجال بلا رءوس بأعين تمّ اقتلاعها للتو.

تمتليء العربة، ثم ينسل الجميع كقطعة صوف يعاد نسجها و تنسيلها آلاف المرات

 دون أن تتحول إلى معطف يقي أحدهم برد قلبه!

في نهاية الطواف، أصل إلى بيت أمي

الطابق الأرضي تمّ تحويله إلى صندوق خشبي ذي قفل معدني صديء مكتوب عليه “يا رب”

أتعثر في ورقة بحجم اليد: تعلن البلدية اليوم عن حاجتها لتعبيد الطريق ليمر سادة جدد.

في كل مرة تأتي بلدية الحي ينسكب سائلاً أسود من فم وحش مهول يمضع مساراتنا المتعرجة ذات طفولة،

محاولات الهرب الأولى، ما تبقى من آثار أحذيتنا على طريق لن يتعرف أحدنا فيه على الآخر بعد اليوم.

تفوح من البيت رائحة كعك تمّ خبزه في صباح عمر طازج

تستقبلني أمي بنظرة معتادة من الغضب والمحبة

نقضي اليوم بأكمله نؤرخ تاريخ العجين

ألقي السلام متأخراً على ما علق مني ومن أخي على جدران البيت

في السادسة مساءا، تستقبل أمي القِبلة لتخبر الله بكل شيء

في السادسة وخمس دقائق، أتحول إلى سوارين من الذهب يستقران حول معصمها

يخبرها الصوت أن صلاتها قد استجيبت

بإمكانها منحي بالكلية لغيبٍ تجهله كلانا

كما يمكنها دوماً أن تستعير عمودي الفقري لتتكأ عليه.