الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

«مخدومين»: مربعات الحصار والتورط!

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم- ثقافة/ سينما عربية

تاريخ النشر: 10 أكتوبر 2017

موقع "مدى مصر"، أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية بالعالم العربي

الموقع، قد يكون محجوبًا في بعض البلدان، يًنصح باستخدام متصفح "ثور"

******

«مخدومين»: مربعات الحصار والتورط!


في فيلمه السابع «مخدومين»، يستكمل  المخرج اللبناني ماهر أبي سمرا ما بدأه في أفلامه السابقة من الكشف عن المعاني المتعددة للحصار، مطوّعًا أدواته ليعبر بالمُشاهد من قضية خاصة إلى مشهد مدينة بأكملها، مُكثفًا مهارته في حيزٍ ضيق ليصل بمشاهدي فيلمه، ليس فقط لإدراك معني الحصار، بل التورط الكامل فيه.

لدى ماهر أبي سمرا شغفٌ خاص بفهم معنى الحصار وتفكيكه، فيما يتعامد مع اختياره للمكان كمتغير فاعل في سبر أغوار ذلك الشغف.

في الندوة المصاحبة لعرض فيلم «مخدومين» بمهرجان «أيام القاهرة السينمائية»، قال:«عادة أختار مكانًا وأمكث به، أتعارك معه وأحبه ثم أجعل الكاميرا جزءًا حميميًا من الحدث، بما يفوق ربما السرد الروائي ذاته.»

هذا ما فعله في فيلمه «دوار شاتيلا»، والذي دار في المخيم الفلسطيني المقام عام 1949 بطول كيلومتر واحد وعرض 600 مترًا؛ حيث تجولت الكاميرا في مساحة 150 مترًا منه لترصد يوميات القاطنين هناك، كأنها أحد سكان المخيم ذاته.  وفي فيلم «نساء من حزب الله»، قدّم المخرج قصة سيدتين يحاصرهما انتماؤهما الحزبي، ومن خلال فيلمه «كنا شيوعيين»، قدّم الرغبة في الانعتاق من الانحصار في أسر أيديولوجيا بعينها.

أما فيلمه «مخدومين» فيبدو أن فكرته نشأت عن مصادفة في أحد المقاهي جمعت المخرج بزين، مدير أحد مكاتب استجلاب العاملات بالمنازل، مصادفة دفعت المخرج لتكشُّف معنى الحصار في تلك القضية المجتمعية الشائكة. ولأنه مولع بالمكان كفاعل درامي في حد ذاته، اختار أبي سمرا مكتب زين، لتمر عبره كافة أحداث الفيلم.

كيف تقودنا الكاميرا لمعنى الحصار؟

يروق للمخرج هندسة المكان باستخدام كاميرته، التي تُقسم الكادرات لماكيتات بحسب مقاييس رسم صارمة، ما يحوّل الكاميرا في النهاية لما يشبه المهندس المعماري، ويتجلى هذا في كثير من كادرات الفيلم المحبوسة داخل مستطيلات.

من مشهد البداية، نجد الكادر الافتتاحي مربعًا ثابتًا وبداخله صور متتالية لسيدات منزل، وعلى الجانب تقف العاملات المنزليات.



بعدها تُعرض الشخصية الرئيسية، زين، مدير مكتب استجلاب العاملات، في كادرات مربعة الشكل يبدو هو بداخلها محاصرًا، سواء من قِبَل النافذة المربعة من خلفه، أو شاشة التلفاز التي يطيل النظر إليها. كاميرا المخرج أوقعت زين، ودون أن يدري، في فخ أن يصبح هو ذاته «محاصرًا»، بلا مجال للهرب إن أراد.

تنتقل بنا الكاميرا لنسمع أصوات المشاركين في الفيلم من خارج المكتب، وذلك من خلال نوافذ منازلهم المربعة هي الأخرى.

في نهاية الفيلم، وعبر كادرات متتالية، تصل الكاميرا لذروة توظيف فكرة «المربع»، حيث تبدو الكادرات كأنها نيجاتيف فيلم يتم كرُّه على يد شخص غير مرئي في معمل للتحميض. نرى صورة لبيروت على هيئة أطر أسمنتية عملاقة تتقازم حتى تبدو أشبه بعلب كبريت تحمل لوحات إعلانية مربعة فوق أسطحها، فيما يربط بين توحش رأس المال وقانون العقارات الذي يجرّم وجود نوافذ بغرفة الخادمة.



ينتهي هذا الجزء من الفيلم إلى أطر أضيق تُسكَّن فيها أضعف حلقة في دائرة القهر؛ نساء فقيرات لا يملكن وسيلة للبقاء سوى القفز من النافذة.



يتكثّف إحساس الحصار أكثر في مشهد التكالُب اللفظي على إحدى الفتيات العاملات التي تعلن عن رغبتها بالعودة لقريتها حيث يعيش والدها، فتنهال عليها، بينما لا نراها، كلمات كطلقات رصاص من صاحبة البيت وابن صاحبة البيت وزين، مدير المكتب، ومعهم رفيقة مأساتها التي تخونها بعدم ترجمتها الصحيحة لما تريده وبانضمامها للجبهة الأخرى.

لا تتم محاصرة الفتاة في المشهد السابق لفظياً فحسب، بل يتم تغييب حضورها بالكلية فلا تظهر على الشاشة. يبرَّر الغياب الجسدي للعاملات، من قبل سيدة في الفيلم بأن «الخادم أو الخادمة ياللي بيعرفوا يشتغلوا شغلهن هني اللي بيشتغلوا عالسكت، ما بنحس بحضورهن، بيصير وجودهن خفي». تؤكد أخرى على هذا المعنى بقولها: «لما تكون سود، من ثقافة تانية ولغة تانية، بيساعد يعني، هدا الشي بيخفف من حضورها.حتى يمكن، ما بعرف، لتحافظ على خصوصيتك ببيتك، يعني لازم شوي هيك تنفي أو تلغي وجودها».

لكن رغم الهندسة الشديدة للصورة في كادرات ماهر أبي سمرا، فإن الحوارات لم تكن على هذا القدر من التنميق، وإنما ترك الفيلم للمشاركين مساحات يتحدثون فيها كما يتراءى لهم، لتبدو اللغة أشبه بنشرة أخبار عشوائية، تفرض بدورها حصارًا آخر، معنويًا، حول المشاهد، كما كان الحال في فيلمه السابق «دوار شاتيلا».

الزمن كعامل أساسي في «مخدومين»

رغم انشغال الفيلم بمفهوم التأطير، إلا أنه لا يمنحنا إطارًا زمنيًا واضحًا؛ نحن محاصرون في مربعات ضيقة متتالية ندور في فراغها تزيد من قلقنا بسبب عدم وجود خط زمني محدد، نستدل به على مرور الأحداث. لكننا نشعر بوطأته الشديدة، في الفيلم بشكل عام، وفي مشهد شرح آليات استجلاب العاملات والتحليل التفصيلي لديناميكية عمل زين بشكل خاص، بسبب إطالة المخرج المتعمّدة لهذه المشهد، ليوظف فكرة الزمن لحصار المُشاهد.

بدا هذا المشهد طويلًا ومملًا وكأن المشاهد يجلس في محاضرة يخاطب فيها المحاضر سبورته، حيث، بدلًا من السبورة، خاطب زين نافذته المربعة، كما لو كان يشرح لجمهور غير مرئي من  الطلاب بأسلوب مدرسي عقيم.

رغم إحساس الملل، إلا أني أعتقد أن الإطالة هنا لَعبت دورًا إنسانيًا في تسليط الضوء علي جانب من شخصية زين، حيث نرى فيه مجرد شخص مخلص لعمله المطلوب في «سوق» يتوحش حوله، ويتصادف أنه مارسه بالفعل في سن صغيرة، فحوّل ما أجاده كحيلة للبقاء، إلى تجارة لا يعرف شيئًا سواها، ويجد المشاهد نفسه يتعاطف معه وينزع عنه صفة «الشر المطلق» أو أي وصم أخلاقي آخر.

 


لم يقع الفيلم في فخ تناول قضية العمالة المنزلية تحت مظلة فضائحية، ذلك الإغواء الذي يستدر تعاطفًا مؤقتًا لكنه لا يلبث أن يتبخّر بمجرد الخروج من قاعة العرض.

من ناحية أخرى، لا يستهدف الفيلم كذلك تحقيق انتصار يُشيطَن من خلاله المخدومون، بل على النقيض من ذلك يجعلهم الفيلم عالقين ومحاصرين أيضًا. رغم ما لديهم من امتيازات طبقية، إلا أن احتياجهم للعاملات بالمنزل يُعرّي بعدًا آخر من طبقتهم الهشة. يدفعنا الفيلم نحو مساءلة كيان أكبر، أيًا يكن، يمارس حصارًا ممنهجًا علي كافة الأطراف، كلٍ على حسب خارطة امتيازاته.

يتجلى ذلك في مشهد ثابت وغاية في التكثيف، للوحة إعلانية تطل عليها نافذة مكتب زين، وتظهر فيها فتاة شقراء بمقاييس الجمال المصطنعة، وبحجم يماثل الحجم الطبيعي للإنسان. وفي نفس الكادر نرى زين واقفًا ومتصدرًا قلب الشاشة، وكأنه يستكمل سلالة العمالقة، في حين يظهر بجانب اللوحة الإعلانية ظلُ رجلٍ بلا ملامح، متكورًا علي ذاته وقابعًا في زاوية اللوحة، بالتزامن مع دخول عاملة سوداء بشرة لا يظهر منها سوى يدها. كل ذلك في نفس المستطيل الضيق لنفس المكان، فكأنهم جميعًا، ورغم اختلاف ماهياتهم ومواقعهم، تروس في دائرة التورط والحصار.

عن كاميرا ماهر أبي سمرا

في فيلم «مخدومين» يعيد ماهر ما سبق وقدمه في «دوار شاتيلا»، فنحن أمام كاميرا لا تتلصص أو تقتحم المكان عنوة، وإنما هي فرد يعبر الشارع رافعًا رأسه ومنصتًا لما يدور خلف النوافذ دون استراق النظر، ثم يجد نفسه بداخل أحد المنازل ليصبح صديقًا حقيقيًا للعائلة.

يتجلى مفهوم «أنسنة الكاميرا» لدى ماهر أبي سمرا في مشاهد تعبر فيها الكاميرا بخفة بين نوافذ مفتوحة على مصاريعها وأخرى مسدلة الستائر، أو شرفة كبيرة يلتف فيها أفراد العائلة حول تلفاز يتحاورون، لتصبح الكاميرا فردًا من العائلة دون إقحام أو تطفل.

لهذا، لا نشعر بارتباك أي من المشاركين الواقفين أمام الكاميرا، أو باصطناع أحدهم مثلًا في ردوده؛ هم فقط يواصلون عملهم غير مكترثين بالكاميرا، والتي تلعب مجددًا في المشهد دور الفرد الحميمي، وكأنها صانع القهوة الذي يعلم كل أسرار العمل، فلا يفشيها ولا يدين بالولاء والثقة إلا لرب عمله.

*هذا النص نتاج ورشة أدارها الناقد التونسي طاهر الشيخاوي، على هامش فعاليات مهرجان أيام القاهرة السينمائية (مايو 2017).

 

الاثنين، 15 مايو 2017

"ميّل يا غزيّل".. أولئك الذين اختاروا البقاء- سينما وثائقية

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18"* بتاريخ 15 مايو  2017.

عُرض الفيلم بسينما زاوية بمصر في الدورة الأولى لمهرجان أيام القاهرة السينمائي، والتي بدأت من 9 إلى 16 مايو 2017. تمّ عرض الفيلم ضمن الأفلام الوثائقية.

فيلم "ميّل يا غزيّل" تمّ إصداره في 2016 للمخرجة اللبنانية "إليان الراهب". رٌشح لعدد من الجوائز أهمها: لجنة تحكيم المهر الطويل، جائزة المهر الطويل لأفضل فيلم غير روائي، جائزة المهر الطويل لأفضل مخرجحصل الفيلم على جائزة  "جائزة لجنة تحكيم المهر الطويل" من مهرجان دبي السينمائي.


مقالة نقد سينمائي للفيلم اللبناني الوثائقي- "ميّل يا غزيّل"- موقع زائد 18


"ميّل يا غزيّل"- أولئك الذين اختاروا البقاء- سينما وثائقية

"خلصت الحرب؟
بعدها مطولة!"

تقدم المخرجة اللبنانية "إليان الراهب" في فيلمها الوثائقي "ميّل يا غزيّل" ما تراه عن واقع لبناني قد يبدو على السطح أنه تخلص من الحرب الأهلية الطاحنة، لكنها تتنبأ أن هناك "هبوطًا" متوقعًا يطرح نفسه في كل التحزبات الدينية المتطرفة التي تفرض نفسها على كثير من مشاهد الحياة اليومية.

مشهد من فيلم "ميّل يا غزيّل" يجمع بين البطل والبطلة

قصة
    تحملنا كاميرا "إليان" إلى "الشمبوق" واحدة من أعلى المناطق الجبلية في لبنان، تقع على مرتفعات عكارو التي تبعد عن سوريا عشر كيلومترات. يغلب على مشاهد الكاميرا لدى "إليان" توثيق للون الأخضر البكر الذي تتسم به تلك المنطقة الريفية الأقرب لروح لبنان الأصيل.

يحمل الفيلم اسم أحد أغاني الفلكور اللبناني الأصيل، أغنية "ميّل يا غزيّل"، حين تغنجت "نجاح سلام" بأحد عبارات النداء المحملة بالخفة والرشاقة لدعوة العابرين لزيارتها، وكذلك يفعل بطل الفيلم "هيكل" حيث قام بتأسيس مطعم محلّي لتقديم الوجبات للعابرين من سائقي الشاحنات المتنقلين داخل لبنان وعبر حدودها. لم يكتف "هيكل" بعمله بالمطعم، بل قام بزراعة أرض متنازع على ملكيتها بحكم القانون، إلا أنه ضرب كل ذلك عرض الحائط ليزرع حقلًا ممتدًا من التفاح والذي يتحول في نهاية المطاف إلى براندي يقدمه إلى الأعزاء من أصدقائه.
"هيكل" بطل فيلم "ميّل يا غزيّل"- مشهد

تكنيك الفيلم

    تجعل "إليان" من أبطالها شركاء حقيقيين في عملية صناعة الفيلم، فهى تنتهج طريقة طرح الأسئلة لأبطال الفيلم، في حين أنها تختفي بالكلية وراء الكاميرا تاركة لهم ما تراه مناسبًا من مساحة للظهور وحمل ما أرادت أن تقوله هي. يتجلى ذلك من الحوار الدائر مع البطل الرئيسي "هيكل" حول ما يراه اسمًا مناسبًا للفيلم، فتأخذ ما يمنحه لها من اقتراحات ليصبح لديها ثلاث مراحل رئيسية لتقديم رؤيتها. 
نجد الفيلم يتدرج بشكل واضح إلى ثلاث أجزاء هي: 
1-الشمبوق، 
2- الأرض، 
3- عتبة البيت.

    تستخدم المخرجة الكثير من المفارقة ذات الطابع المرح لربما للتقليل من حدة ما يتم طرحه من نزاعات طائفية ودينية، وكأنها تصب ماءًا باردًا على نار في سبيلها للتأجج. فحين ينبري أحد شباب القرية المسيحيين وتأخذه الحمية للدفاع عن "وجوده المسيحي" الذي يظن أنه يتعرض للإبادة وتأخذه حماسة الزعماء الفاشيين حين يحشدون "خِرافِهم" في مؤتمراتهم الجماهيرية، تكتفي بأن تكون اللقطة التالية المكملة لـ"هذيانه" المفتعل هي لقطة "فتاة تتمايل رقصًا على أغنية الفيلم الرئيسية" ذلك ليس فحسب، بل إن هذه الفتاة التي تنظر في قلب الكاميرا بعين ممتلئة بالحياة، اللهو، الخفة ترتدي "رمزًا" دينيًا لكل ما يحشد ضده من يرى أن هويته الدينية تتعرض للخطر!

هناك أيًضًا، استخدام متوالية اللقطات بأسلوب المونتاج الموازي the cross- cut يُعد أحد كلاسيكيات السينما، لربما كان الفيلم بحاجة لأن يرتفع بنا إلى مستوى أكثر تعقيدًا.

سؤال الفيلم الأساسي

        تطرح "إليان" سؤالًا مباشرًا "هل الوجود المسيحي في خطر؟" في متوالية بعد طرح عدد من ممارسات الشباب المسيحي "الغيور" على هويته إلى حد عقد اجتماعات تبدو وكأنها غرفة حربية والعديد من الخرائط معلقة على الحائط كأنهم بانتظار ساعة الصفر للهجوم على عدوّ ينتظرهم بالخارج. حين تطرح هذا السؤال فإنها تطرح أيضًا ما تراه هي ممثلًا في ظهورها الوحيد كطيفٍ عابر مع بطل الفيلم "هيكل"، حين تظهر كصورة ضبابية تستغيث به من داخل المطعم أنّ هناك من يحاول أن يقتلع أحد الأشجار. يخرج "هيكل" مُسرعًا بحميّته المعهودة، يقوم بردع من تسول له نفسه اقتلاع أىّ شجرة من مزرعته. 

        لا تكتفي بالتلميح لما تراه عودة ذاتية لها إلى الجذور بقدر ما تتثبت يقينًا بطرح ذات السؤال صراحة على "هيكل" مرتين، الأولى حين تسأله ألا يبدو كل ما يقوم به من أعمالٍ، زراعة، وإدارة شئون المطعم هي محاولات للهروب من واقعة هروب زوجته التي لم تتحمل العيش معه، فيجيبها متيقنًا "بل على العكس هي محاولات لإثبات الوجود عن طريق الحياة ذاتها". 

        تعيد طرح السؤال ذاته تارة أخرى حين يتعلق بالهوية الدينية، فيجيبها قائلًا 

"نحنا نهبّط بس ما بننمحي".

كادرات!

جماليات الصورة في فيلم "ميّل يا غزيّل"


        حضور الشجرة في كادرات "إلين" ليس حضورًا لتقديم متعة بصرية فحسب، بل تحملنا كاميرا المخرجة إلى سردية البطل الذي شارك بالحرب الأهلية اللبنانية لكنه فشل تمامًا في قتل أىّ أحد! في تلك اللحظة قرر أن يصنع "جيشه" الخاص من الأشجار. فنرى صورة المشهد لمزرعة التفاح خاصته وكأنه جنرالًا يقف أمام كتيبة من الجنود لأداء تحية العلم الصباحية. تقدم كاميرا المخرجة البطل المنسحب من حرب أهلية انتهكت إنسانية الملايين، إلى قائد من نوع خاص اختار أن يصنع جيشًا من الأشجار للمقاومة.

شخصيات ثريّة

        يقدم الفيلم أيضًا عددًا من الشخصيات التي تمنح سردية العودة واختيارات البقاء أبعادًا أخرى، فهناك "أنطوان" شخص يماثل "هيكل" في العمر لكنه حليق اللحية يبدو عليه علامة "المدنية الحديثة" لكنه عاجز مثل كل من لديه أزمته الخاصة جدًا؛ إنه لم يتجاوز بعد عالم الأبراج العاجية حيث يقبع المفكر دون أن يشمر عن ساعديه ليرى ما يمكن أن تطرحه الأرض من معطيات غاية في التعقيد.

        تمنحنا “إليان” مشهدًا غاية في الدلالة حين يقف "أنطوان" مشيرًا إلى قطعة أرض تسببت الكراهية الدينية في تهجير صاحبها، هو يشير إلى مدى تعاون صاحب الأرض الأصلي في منحه توسعة ليصنعوا طريقًا للقرية. تمّ بالفعل توسعة الطريق وقبل أن يتذوق طعم ما نجح في الوصول إليه يكتشف أنه مجهوده قد ضاع هباءًا حين عبّد طريقًا تعبر فوقه سيارات البرلمانيين الفارهة المغطاة بزجاجٍ أسود مخيف!

        من ناحية أخرى هناك الصديق المؤرخ الذي يظهر في عبور خفيف على الفيلم حين يتجرع مع "أنطوان" و"هيكل" كأسًا من البراندى المصنوع بعناية من مزرعة "هيكل" ويتشاطرون عبء "خيبتهم" المشتركة حين يدركون أن أبناءهم سيعودون فقط للأرض حيث بالفعل ينتمون لكن بعد أن يكونوا “غير صالحين للخدمة” مجرد كهول ينشدون العيش في سلام في أرض بعيدة عن صخب العاصمة.

    يقدم الفيلم شخصية نسائية مميزة ألا وهي "رويدا" وأول ظهور لها يأتي مصحوبا بعاصفة من الشكوى حيث تمارس هوايتها بوضع المسامير على الطريق لكي تجبر أصحاب الشاحنات على التوقف وتناول الطعام في مطعم "هيكل". كما أن أول تفاعل مع البطل الرئيسي تبدو فيه وكأنها زوجته التي تعرف جيدًا كيف تملي عليه ما يحتاجه المطعم وكيف تتملص من نعته لها بأنها تمتليء بالخطايا. الحضور الإنساني لشخصية "روايدا" يضيف بُعدًا يحمل طابع الخفة والهشاشة التي يخبئها البطل الرئيسي "هيكل" خلف غلظته وخشونته التي ارتضاها كمعبر آمن للبقاء والتعايش بعد أن هجرته زوجته فاختار أن يمنح لها متكئًا في قلبه دون أن يملأه بالغضب من فعلتها. 

        تروي "رويدا" أن "هيكل" هو صاحب فضل عليها وقد قام بتربيتها منذ سن الثامنة عشر فهي تتحدى العادات والتقاليد وتأتي لتمكث وتعمل بالمطعم وتجلب أختها في كثير من الأحيان لتساعدها في مهام الحياة. ترسم "إلين" شخصية روايدا كفتاة ريفية تجد ملاذًا آمنًا تستطيع أن تتفتح فيه مثل بتلات زهر التفاح المحاطة بها في كل مكان. 

        ومن ناحية أخرى تنسج خيطًا عنكوبتيًا يجعل من مغادرة المطعم أو مزرعة "هيكل" أمرًا مستحيلًا بالرغم من تعرضه للعديد من الأزمات المالية، إلا أنه قرر البقاء كإعلان للوجود والحياة ذاتها.

إشكالية الفيلم

        تبدو إحدى إشكاليات الفيلم الأساسية في العبور الخاطف لتناول أحد الجزئيات والتي لربما لوتوقفت عندها المخرجة بمزيدٍ من الطرح والتفصيل كان سيكون لدينا ما يليق وثراء ما يطرحه الفيلم وسيتقاطع حتمًا مع رؤية المخرجة كما ظهر جليًا في مسارها السينمائي السابق. الفيلم يقدم ملاحقة بالكاميرا لأحد الحشرات الملونة التي تنخر في الأرض، كان بالإمكان توظيف تلك الالتفاتة العابرة لتكون بمثابة حلقة الوصل بين ما قدمته المخرجة في سابق أعمالها حيث تناولت موضوع الحرب الأهلية من زاويته الأوسع من العاصمة، لربما كان لديها فرصة حقيقية بتتبع تلك "الحشرة" أن تحملنا معها للانتقال من الصورة الكبيرة إلى صورة أكثر تحديدًا حيث يمكن للنار أن تأتي من مستصغر الشرر.

نهاية
    
        ينتهي الفيلم بنهاية تشبه كادرات الحياة الحقيقية حين نظن أننا بلغنا حافة السعادة فتوقظنا من وهمنا العابر، فيتعرض محصول التفاح للفساد بفعل حشرة -ظلت تتبعها المخرجة طيلة كادرات متفرقة بشغف طفلة تجلس في الصف الأول من حصة العلوم البيئية- فيخسر هيكل خسارة فادحة لكنه كما اختار البقاء والتشبث بالأرض اختار المقاومة فيقوم بتحويل كافة المحصول إلى براندي يتشاطره مع جاره الهارب من صخب المدينة وتلوثها والعائد إلى رحم الأم الأرض.
ثم يأتي صوت "نجاح سلام" تارة أخرى لتجد روحك تتراقص في خفة وكأن الحياة مجرد دعوة رشيقة لعابرين، سيمضون حتمًا وستبقى الأرض التي ترثنا ومن عليها.

حين تمّ سؤال المخرجة في الندوة اللاحقة لعرض الفيلم بسينما زاوية، 
هل كان الفيلم ضرورة لكِ للتعافي؟ ابتسمت قائلة: بل ربطني!
ليبدو وكأنها تتفق مع ما جاء على لسان بطل الفيلم "هيكل" بينما يُحادث كلب الحراسة: 

"أهم إشي بالبيت العتبة، لو راحت، راح البيت كيلاتو"


        اعتقد أن "إليان الراهب" بفيلمها "ميّل يا غزيّل" قد صنعت لنا معبرًا به إمكانية للعودة للجذور، وكأنها تمنحنا حبلًا سريًا يعيدنا حيث ننتمي وحيث كل ولادة ممكنة.

الأحد، 30 أبريل 2017

الرقص مع الذات! قراءة نقدية لعرض مسرحي معاصر

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 30 أبريل  2017

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة الرقص مع الذات- عرض مسرحي- موقع زائد 18


        ليلة الخميس الموافق السابع والعشرون من شهر أبريل لعام 2017، شهد مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية عرضًا إنسانيًا يصنع مساحة آمنة للنساء بمختلف أطيافهن لكي يتوحدن مع أجسادهن في مشاهد متتالية تتدفق كالنهر، يصنعن من خلالها جسورًا يعبرن بها فوق دوائر الوصم والسيطرة حول ما "يتوجب" على النساء ارتدائه.

        يبدأ العرض الذي يحمل اسم Un Covered En Masse بخطوات جسد تزحف ببطء نحو مساحة تتوغل في الظلام، تبدو كخطوة حيوان جريح يحاول أن يلملم شتات روحه حاملًا ندبته، لا يملك سوى الحركة للأمام بالرغم مما يحيط به من ظلام.


مشهد من العرض المسرحي Un Covered En Masse- القاهرة
        

تتسحب المشاركات نحو المسرح بنفس الحركات البطيئة، تتصاعد الحركة ويتحول الجسد المسجى على الأرض منغلقًا علي ذاته إلى زهرةٍ تتفتح. يحتل المسرح من الزاويتين صوتان لحكاية لا تُروى لكنها تُعاش كل يوم، بندول يتحرك بعنف أقصى اليمين بين ما يتوجب علينا فعله، ارتداؤه، ممارسته لنحصل على صك القبول المجتمعي والمهني في نظام يشبه آلة تزداد تروسها توحشًا يومًا بعد يوم، وبين الاتجاه المعاكس الذي يعيدنا إلى بديهية الحياة في تعويذتها الأبدية "كل ما أريده فقط هو أن اختار":

(صوت من أقصي اليمين):
"أيها السيدات والسادة
– أنا لا أريد منك أن تكون حرًا
– لا تندهش، فالأبواب والشبابيك الآن مغلقة
– أنا لا أريد منك أن تعمل طوال اليوم
– لقد عقدت هذا الاجتماع لمناقشة موضوع مهم للغاية معك.
– لكني أريد منك أن تكون صريحًا.
– من فضلك لا تقاطعني حتى نحل هذه المشكلة.
– فقط أريد محبتكم جميعًا.
– أنتم الآن رهائن عندي.


(صوت من الناحية المقابلة)

– أنا لا أريد أن أكون عبدتك.
– أنا لا أريد أن ألبس بهذه الطريقة.
– أنا لا أريدك أن تغض بصرك.
– أنا لا أريد الاختباء بعيدا.
– أنا لا أريد أن أشعر بالخزي.
– أنا لا أريد أن أعيش بهذه الطريقة.
– لكني أريد أن أقول الحقيقة.
– وفقط أريد أن أقوم بإختياراتي الشخصية".


مشهد من العرض المسرحي Un Covered En Masse- القاهرة


        ينسحب الصوت البشري ويتم الاكتفاء بصوت الموسيقى التي تمّ غزلها ببراعة مع ثنيات الجسد فصنعا معزوفة ناطقة بلا أي أبجدية. تتوالى مشاهد الحركة في العرض، فتجد نفسك أمام مشهد تبدو به فتاة وكأنها فقدت عمودها الفقري لتتمكن من الاختباء والتكور داخل ذاتها فلا يلاحظها أحد. ثم تشدك فتاة أخرى من مقلة عينيك لتكتشف معها براءة الكشف الأولى حين تدرك الفتاة أن جسدها يمكن أن يصنع اهتزازات راقصة في الهواء تتسع كموجات مياه آسنة أدركت للحظة أنها لا زالت على قيد الحياة، فاتسعت. حلّقت. استدارت. اكتملت بذاتها حين أدركت أنها الآن يمكنها أن تتحرك بلا خوف في الفراغ حتى وإن اتسع بداخلها، فلا تزال تملك جسدها لترقص أو لتصنع به ما تشاء.


        تتوحد المشاركات في صنع ذبذبات الإيقاع ليحملن لهاث حياة تفرض على قاطنيها اللهاث، فنبدو وكأننا مشدودين من أعيننا دوما نحو "حياة" أخرى، يعبر الجسد باهتزازاته المتسارعة بدءًا من خفقات القلب، ارتفاع الصدر وهبوطه، اتساع الخطوة وتقصّيها لمساحة آمنة غير موجودة، وتيه أبدي نحو ملء فراغ ما يتبعه رغبة في كسر قيود رٌسمت بالطبشور فننصب جميعًا في قالب بات لا يتسع لما نحمله بداخلنا من طاقة للحب والحلم والحياة بأكملها.

        يصل العرض إلى ذروته حين تتقدم كل مشاركة من واجهة المسرح لتشير إلى الحضور لينهار بذلك الجدار الرابع الذي يفصل بين المشاركات على المسرح والحضور فنصبح كيانًا واحدًا، جسدًا يحمل نفس الندبة ويتلقاها يوميًا أو يسددها دون أن ندري. الأصابع التي تشير إلى الحضور لا تحمل اتهامًا قدر ما تمنح صوتًا لعبارة طالما نرددها سرًا في صلواتنا الليلية: "لماذا يتم التنكيل بأجسادٍ نحن بالفعل لم نمنح اختيارًا لها؟"

        ينتهي العرض بفتاة صغيرة تتقدم لترتدي وشاحًا أبيض دُوّن عليه كل ما تم ممارسته ضد النساء منذ آلاف السنين سواء كن عاريات، اخترن الحجاب، تنقبن، تخلين عن فكرة الحجاب/ النقاب، ارتدين مشدات صدر أو أطلقن لأثدائهن العنان، أو مارسن فعل الجرأة بعدم ارتداء أحذية ذات كعب عالٍ!

        ما يدهشك في العرض أن المشاركات لا يحملن "نسقًا" جسديًا قاسيًا يخضع لمعايير التوحش التي تفرضها دوائر الانتماء إلى "فن"ٍ أو رياضة بعينها. تتنوع المشاركات ليس جسديًا فحسب، بل فيما اخترنه من "مظهر" ليقدمن رقصتهن المقدسة، البعض ارتدين الحجاب ولا يرين عائقًا في أن يكون الحجاب بـ"شروطه" المنصوص عليها جزءًا من عرضًا يحمل سمت "الرقص المعاصر".

        في حقيقة الأمر، المُشاركات في العرض يشاركن بجزء منهن "حقيقي" ولايلعبن أدوارًا يفرضها عليهن سيناريو مكتوب مسبقًا، لدينا مجموعة من خمس وعشرين سيدة يتحلين بالشجاعة لأن يقدمن أنفسهن كما هنّ، في محاولة لاستعادة إيقاع الروح من خلال تعويذة القوة الأبدية الكامنة بأجسادهن دون أن يدركن ما يملكنه بالفعل.

        بالرغم من التنوع كسمة أساسية للعرض، إلا أن جميع المشاركات يتوحدن في ارتداء ثلاثة ألوان، الأرجواني والأبيض والأخضر، وهي الألوان الثلاثة التي اخترعتها إيميلين بانكهورست- الناشطة والنسويّة البريطانية التي طالبت في عام 1908 بحق الاقتراع للنساء البريطانيات. ارتدت المشاركات: الأرجواني للكرامة – الأبيض للنقاء – الأخضر للأمل، في رمزية للاتصال مع إرث النساء التاريخي.


شارة تحمل صورة ايملين بانكهرست تباع بأعداد كبيرة عن طريق الاتحاد السياسي والاجتماعي للمرأة لجمع الأموال - متحف لندن

        لا ينتصر العرض لتوجهٍ بعينه سوى توجه إنساني صميم مفاده أننا بإمكاننا جميعًا أن يكون لنا مساحة تليق بنا في الحياة باتساعها وتعقيدها وفراغها أيضًا. يمكننا أن "نبدو" بما يتراءى لنا دون أن نضطر للتبرير أو الانسياق أو التوحد مع دوائر تفرض علينا شروطا قاسية ليتم منحنا صكوك الولاء والانتماء أو نضطر للمساومة على الحق الأصيل أن نرتدي ما نحب دون أن يعني ذلك شيئًا على الإطلاق في دائرة العدم الكبرى، ودون أن يدفعنا ذلك لاستنزاف الروح في معارك نعيد فيها إنتاج دائرة القهر والوصم المضاد. ينتصر العرض فقط لاختيار المشاركة الحرة بما تنوين ارتداءه بما يعبر عنك أنت في ذلك الكادر من الحياة، دون أن يمنح أحد الحق أن يضع "تيكت" أخلاقيًا على حقك الإنساني الأصيل في الاختيار، وحقك البديهي المنسي بامتلاك جسدك وحدك.

        يمنحك المسرح عالمًا تدلف من خلاله باب الخيال تحمل بين جنباتك واقعًا يصعب أن تفك طلاسمه، يمنحك فراغًا آمنا يمكنك من منح صوت لكل من هواجسك ومخاوف تنهش في روحك تقضمها قضما فتكتشف مساحة يمكنك فيها أن تكشتف أدوات مختلفة كحركة الجسد بارتفاعاته المختلفة، كقبضة أصابع اليد حين تعزف على أوتار الهواء، كتواصل العينين الذي يبني جسرًا يمكن العبور من خلاله إلى "آخر" فنطمئن أننا لسنا بمفردنا، نستكين أن ما نعانيه ونخشى أن نتوقف عنده لنكتشفه، يمنحنا المسرح إمكانية لأن تتجسد أفكارنا ومشاعرنا، بل ومخاوفنا بطريقة جمعية في تدفق بصري مُوحي.

        في عالم المسرح يستحيل الجسد سفينة نوح خاصتنا التي نأخذ فيها من كل حلم زوجا لكي ننجو ونتصل بما نخشاه بداخلنا، فنكتشف "جودي" يمكننا عنده أن نستكين وأن نجد معبرًا آمنًا بداخلنا من خلال "آخر".

        في عالم المسرح نكتشف أن الفراغ الساكن بين أجسادنا يمكن ملؤه ليس بمزيد من التشوش، بقدر ما يمكن أن يصبح أداة حقيقية لفهم كيف نقترب، كيف نبتعد، كيف نتكوم إحدانا فوق الأخرى، كيف نتعلم تلك المهارة المنسية في طلب العون عند الحاجة والعودة تارة أخرى إلى "قبيلة النساء" لربما رقصة عابرة تعيد إلينا وهج الروح "المتوحشة" التي تمّ استلابها بفعل التغييب والتشويه والتزييف والتقييد. لربما كل ما نحن بحاجة إليه هو رقصة ذاتية نتجه بها بكل أصواتنا المقموعة نحو الداخل.هناك يقبع ما نبحث عنه، وهناك أيضًا يتوحش ما نهابه وينزوي تارة ويُردينا قتلى مرات كثيرة.

        يمكننا فعل ذلك إذا ما مارسنا لعبتنا الأصيلة العودة لقبيلة "نساء يركضن مع الذئاب". نعود لنرسم  دوائر من التيه والكشف، مسامحة الجسد ذاك الحبيب الذي لم نترفق به يومًا واكتشاف أغنية الروح الأصيلة Cante Hondo، وهذا ما منحنا إياه العرض المسرحي سواء، مُشاركات، متفرجات، أو عابراتٍ كفراشات يغادرن الشرنقة رويدًا رويدًا.

المشاركات في العرض المسرحي  Un Covered En Masse يقدمنّ التحية للجمهور- القاهرة 2017

الخميس، 9 مارس 2017

فائض أنوثة

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 9 مارس  2017

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة فائض أنوثة- المرأة- ثقافة- موقع زائد 18


1- فلنكتشف معًا!
طفلة ناجية من المرض "البطّال" الذي تخفو أصوات المحيطين حينما يُعلن وجوده في الجملة فيتهامسون، يميلون برؤوسهم نحو بعضهم البعض يتبادلون همهمة أشبه ببحارة في كابينة القيادة يتعاملون مع رسالة إنقاذ لربما تأتي من شاطيءٍ آخر، ثم يتذكرون حضورها فيلتفتون إليها محملين بوابل من طلقات الرحمة والشفقة التي لم تعيها في سن صغيرة وتأرفضها بالكلية حين فهمت، تتعايش معها بطرق مختلفة حين تصالحت منذ سنوات مع نفس المرض البطال. تلك الطفلة لم تدرك معنى أن يكون لها "نزفًا" كزائرٍ متكرر في سنوات عمرها. وأن هذا "النزف" سيظل صديقها الذي بات عليها أن تقترب منه لتتأكد أن الأمور بخير. لتتأكد أن ما تناولته من جرعات علاج طيلة حياتها لم يؤثر على "طبيعية" جسدها.
تخبرها أمها أنها حين وُلدت، وهي لم تكمل بعد اليوم السابع لوحظ هناك دم في شراشفها، التفت السيدات والأقارب المهنئين ليس بأول طفلة في العائلة بعد قافلة الذكور فحسب، وإنما الطفلة الوافدة ذات "النزف" المبكر جدًا لديها "فائض" أنوثة. مما سيمكنها مستقبلًا من المنافسة بشراسة في معركة التخصيب الكبرى

لم تع تلك الطفلة في سن الحادية عشر بأحد أيام الصيف القائظة، ماذا يعنيه هذا "النزف" ولِمَ يتوجب عليها أن تتوقف عن ملاحقة أخوتها الذكور وبخاصة في ركوب الحمير عند الزيارة السنوية لمزرعة الجد، "ما ينفعشي تركبي حمير كده خلاص" لم تكن هواية ركوب الحمير هي الأثيرة لديها، فهي تحفظ تعليمات طبيبها الخاص جيدًا كما ألقمتها أمها كل تلك التعليمات المبكرة، كما ألقمتها ثديها في مرحلة أبكر. كان ما يزعجها هي أنه تم "منعها" وستصبح وحيدة مجددًا.
العالم الوحيد الذي عرفته هو عالم أخويها اللذين يكبرانها بعشر سنوات، لكنهما كانا من السخاء الكافي لدعوتها لعالمهم الذكوري الفظ، بدءًا من القفز من نوافذ المنزل في الطابق الأرضي، ونهاية بتلقينها ما يتوجب عليها فعله وممارسته إذا ما تحرش بها أحد الصبية في فناء المدرسة (ابقي اديله شلوت في …. وهو هيخاف). كان عقلها يدور كالرحى في تساؤلات لا تجد لها إجابة سوى أعين أمها الممتلئة بالفرح والحزن معًا، حين تفتحت عيناها على حقيقة ما عانته سويًا من قبل، أدركت أن الأم عانت ألمًا مضاعفًا بسبب المرض القديم، فهي كانت تخشى أن يكون أحد تبعاته أن تفقد ابنتها الأثيرة جدًا "فائض" الأنوثة. الطفلة التي يومًا "نزفت" وأرهفت السمع لمكالمة عابرة من الأم لطبيب، أصبح فردًا في العائلة وأصبحت العائلة تصنع منه ملاذًا آمنًا في نوبات الارتداد المحتملة، أدركت أن هذا النزف علامة أن الفتاة تنمو بشكل طبيعي، وأنها تعافت تمامًا من آثار ما خلفته الخلايا المتوحشة في جسدها.


2- فلنحتفل معًا!
أصبح النزف في بداية الأمر بالرغم مما يسببه من مضايقات جسدية وتضييقات مجتمعية لم تفهم معناها، وسيلة الأم وطفلتها للاحتفال أنهما صنعا من تجربتهما الخاصة جسرًا وعبرا من خلاله إلى أقصى وأقسى مناطق الهشاشة في روحيهما وإلى كهوف الغضب القابع بداخلها تراكمات الخوف من أن يجيء ما لا نشتهي. ولأنهما عبرا معًا فقد اصطلحا على أن يصنعا معًا احتفالًا يضمهما فقط حيث يلتقيان كل "نزف" ولا تتم دعوة أحد سواهما. يدلفان إلى غرفة الأم التي تفتح لها خزانتها المحرمة على الآخرين، تترك ابنتها "الأثيرة" ترتدي ملابسها وتشير إليها بركن سري حيث ترى الطفلة أكوام من رؤوس بشرية مفرغة في قصات شعر متنوعة وألوان عديدة، تدعوها الأم كهفها الآمن وتبدأ مراسم الاحتفال بمقولة الأم: "ما تجربي تلبسي الباروكة دي". تنطلق الفتاة كالسهم ترتدي الرؤوس فوق بعضها. تنظر إلى ما أصبحت إليه في المرآة. تنخرط في ضحك هستيري وتلمع عينها بالسؤال لوالدتها: "إيه رأيك، أنا كده حلوة!". 

تجيبها الأم: "لأ. انتي حلوة بشرطتين" وتعيد عليها قصة "فائض الأنوثة" الأولى. تتركها تلهو بـ"مكملات" الأنوثة. وتنهمك الأم في ترديد لحنها المفضل "أمورتي الحلوة". وتستمران حتى تبدأ قرعات الأعضاء الذكور المنبوذين خارج نطاق الاحتفال، يبدأون بالضرب على الباب المغلق الذي تتصاعد من خلفه ضحكات لا يعلمون مصدرها، فتدرك حينئذ الأم وابنتها أنه قد حان الوقت لإسدال الستار على حفلهما "فائض أنوثة".


3- فلنبُح بما أردنا صدقًا أن يُقال. وبخلنا به!
تشب الفتاة المكيرة عن الطوق، تنطلق في معارك الحياة ترفض ما يُقدم لها من وجبات معلبة سابقة الطهي حول تعريف "الأنوثة"، تتذوقها وتلفظها جميعًا. تشعر أنها لا تنتمي إلى عوالمٍ تبدو فيها النساء متشابهات، يرددن نفس العبارات المجوفة دون أن تخبرها إحداهن هل كان لدى أي منهن يومًا حفلة كالتي دشنتها والدتها "فائض أنوثة"
تتحاشى الفتيات في عمرها التحدث عن "نزفهن" الشهري، ينزوين في صمت يستسلمن لموجات التهكم من أقرانهم الذكور بالمقولة الخالدة "آه هو القمر بيعيط". حين ألقاها على مسامعها حبيب عابر من قبل استوقفته، كانت العبارة تبدو وكأنها مألوفة لكنها لم تسمعها من قبل وأجابته "أيوة والقمر يعيط ليه، جزمته ضيقة مثلا!" كانت تتهكم على ضحالته بإطلاق إيفيها ساخرًا تعلم جيدًا أنها بذلك تريد أن تُفسد عليه متعته في تحقير ما تمر به، لكنها لم تعلم على وجه الدقة "لماذا يقولون مصطلح الذكور القمر يبكي، دون أن يذكروا -صراحة- النزف؟"
في كل قمرٍ، وكل حبلٍ سري أرادت أن يمتد بينها وبين من أحبتهم -أو هكذا توهم لها ذلك- كان الطرف الآخر يخبرها دومًا أن عليها أن تتبع "مكملات الأنوثة" كتلك التي ارتدتها يومًا من خزانة والدتها. فعليها أن ترتدي تاج الحياء "وتبص في الأرض، وبلاش تبصي في عين اللي بيكلمك، ابقي وطي صوتك". 

صوت البنت لازم يبقي رقيق كده: "الانسحاب من الحياة". "الغموض كشرط أساسي لترقب ولهفة الصياد". "ابقي ضمي رجليكي محدش يقعد ويفرشح روحه كده". "ماتقوليش رأيك بالقوة دي. أومال أنا هقول إيه". انتقلت من علاقة إلى أخرى وكان يبدو أن جميع الأطراف الأخرى أصروا على ارتدائها "“بورايك" تمّ الاتفاق عليها مسبقًا لتحصل على صك المحبة. كان الأمر يبدو مغريًا أمام خزانة والدتها. كان الأمر يبدو وكأن هناك كثيرًا من المرح حينئذ. لكن ما يطرحه من يفترض أن يكن رفيقًا كان مصطنعًا أشبه بالوقوف أمام قفص ببغاوات يتسابق كل منهم على ترديد أصوات مزعجة لكي تقتنع وتدفع فيه ثمنًا لتضعه معك في قفص لا ضرورة له. كان إغراقًا مبتذلًا في "مكملات الأنوثة". حتى إنها لم تذكر لأحد منهم من قبل حدوتتها الخاصة عن "فائض الأنوثة" لديها.


4- فلنصنع جسرًا!
كيف يمكننا أن نفهم ذواتنا دون أن نلتصق بأقرب إطارٍ يحملنا ويرسل إلينا طيلة الوقت رسالة لا نفهم كنهها في حينها، ألا وهو الجسد؟! نتمترس خلف معسكراتنا الدينية المختلفة التي تذكرنا دومًا بأن هذا "النزف" يجعلنا "ناقصات غير مكتملات". فهي لا زالت تحمل في روحها “احتفالية فائض الأنوثة” كما علمتها والدتها. تستنكر أن يتم فرض عزلة عليها جسديًا وكأنها تُعاقب بسبب صديقها "النزف". تصر على لمس القرآن وتلاوته وممارسة عادتها الأثيرة في تدوين ملاحظاتها الهامشية، تصر على ألا تنقطع صلتها بالله بطريقتها، فهي تحدثه كثيرًا وتعلم أنه في كثير من الأحيان ينظر إليها ويضحك من فرط سذاجة ما تقول، تعلم يقينًا أنه لن يتخلى عنها إذا ما هاجمتها الخلايا الشرسة مرة أخرى، تعلم أنها أثيرته وأن "النزف" العابر لن يقف بينهما فهي تراه وتعلم يقينًا أنه يراها. وحين تنادي فهو يستجيب. وتوقن أنه إذا ما تخير يومًا العيش على الأرض فسيختار أن يحضر أحد حفلاتها مع والدتها فهو قطعًا لن يمانع أن يكون مدعوًا لحفل “فائض الأنوثة”.
ترفض أن تنساق وراء خبرات معلبة عن الحياة أو أن تقتني كتالوجًا معدًا سابقًا عن "النزف" تقرر أن تصنع معرفتها بمفرداتها وأدواتها الوحيدة لتعلُّم ذلك. أن تبني جسرًا لترى ما يوجد على الناحية الأخرى. حين توحشت خلاياها في البدء علمتها والدتها أن تتحدث مع تلك الخلايا، أن تتخيل أنها مثل تلك العرائس ذات الشعر الطويل الملون المرصوصة بعناية على حافة سريرها بانتظارها بعد العودة من رحلات التعافي الطويلة، فلتتحدث مع الخلايا. تحدثي معها. أخبريها أي موضعٍ على وجه الدقة يؤلمك. أخبريها أنك تريدين العودة للعب والقفز من النوافذ وتحضير أسلحة قشر البرتقال. اصطحبي تلك الخلايا يدًا بيد والعبا سويًا لربما تلك الخلايا تريد أن تلعب أيضًا. علينا أن نجد طريقة آمنة لجعل تلك الخلايا تلعب بلا توحش. هكذا فعلت يومًا استخدمت نفس الآداة. تصاحبت مع “النزف”. أخبرته مرارًا ما تشعر به. أعلنت عليه الغضب مرارًا لأنه يعيقها عن ممارسة الحياة ملء رئتيها فهي لا يزال هاجسها أن الحياة لن تمنحها سوى القليل. وأن كل يوم يمكن أن يصنع فارقًا. شاركته خوفها المحتمل بعد أول قبلة مختلسة مع حبيب، فقد توهمت أنها فقدت ما لا يمكن استرداده. وأن النزف لن يزورها مجددًا معاقبًا على فعلتها الشنعاء. وفي أول زيارة لصديقها "النزف". رحبت به. وأقسمت ألا تعيد الكرة مرة أخرى. وصدقت. عبرت هناك. واطمأنت. وعادت محملة بالحكايا التي حين ترويها تصفها صديقتها النسوية جدًا قبل أن تعلن غضبها منها. “عليكي أن تتعلمي أن تضعي مكابح لكل ما تروينه. فهو "فائض أنوثة".
تستمع إليها. تبتسم. تعلمت العبور بخفة على جسور تبنيها بمفردها ترقص فيها بإيقاع يشبهها هي فحسب. تعلم جيدًا متى تتقدم لتكتشف. متى تقبع صامتة لتنصت لبوصلتها الداخلية. ومتى تستجيب لنداء غامض يدفعها للمضي نحو ما لا تعرفه لكنها لا تخشاه. فتبني جسرًا وتمضي.


5- فلنكتمل معًا!
في دوائر الحياة تتقاطع مع سيدة في منتصف الأربعين تبدو وكأنها إلهة خرجت للتو من مجلد عن أشهر آلهة الأساطير الإغريقية القديمة، تحدثها عن خوفها المحتمل من أن تفقد "النزف"، فتستشعر خواءًا بداخلها من غياب الصديق الذي رافقها طيلة ما يربو على الثلاثين عامًا وأنها ليست مستعدة بعد ألا يكون لديها "أنوثة".
في تلك الليلة، كبرت الطفلة ذات الأعوام العشرينية المتناثرة. كبرت كثيرًا. تفتح وعيها. أن هناك "أنوثة"” قد تختلف تمامًا عن كل ما تم تدجينها عليه طيلة حياتها وما تم العبور فوقه من "مكملات أنوثة". كانت تتصادق مع النزف في معركتها الخاصة جدا مع خلايا تتوحش بداخلها. وكانت صديقتها تتصادق مع النزف لأنها ترى فيه "فقط" دليلًا دامغًا أنها لا زالت أنثى. كلتاهما كانت تعبر إلى الأخرى. عبورًا آمنًا. مفاده أن ما نخشاه. ما نشتبك معه طيلة حياتنا. يستحيل ليصبح جزءًا منا. يصنعنا. يصيغنا. يعيد تشكيلنا وتخليقنا لنصبح ذوات أكبر من أن تصب في قالب سيضيق حتمًا بقاطنته يومًا ما. ويوضع عليه من الخارج: هنا يُباع "برطمان الأنوثة". هل من مشترٍ؟! كلتاهما تأتي من أرض مختلفة. الأولى من أرض الاحتفاء بـ”فائض الأنوثة” لأنه كان يومًا تلك الخشبة التي طفت عليها الأم وابنتها في معركتهما معًا ضد شيء أكبر من أن يستوعبا كيف أعاد تشكيل حياتهما. والأخرى من أرض كانت تقاتل نحو إثبات وإعلان الوجود -حتى وإن كان ضيقًا. محدودًا. شائهًا- لازالت "أنثى". أو هكذا اختزلت نفسها حين التصقت بتيكت "فائض الأنوثة" دون أن ترى أن كل منّا لها أرض مختلفة. كل منّا قطعنها جيئة وذهابا. كل منّا لها ما تفهمه وعاشته من مفهوم خاص بها، بمفرداتها وبما منحته الحياة لها أو ما ضنت عليها به. كل منّا لها عبور يستحق أن يُروى نحو “نزف” يبدو غاية في الطبيعية عند البعض، وغاية في السخرية عند البعض الآخر. لكنه جرح، حين ينفتح، تنفتح معه أراضٍ شاسعة من الحكايا التي لم تُرو. فقط عاشتها من رقصن يومًا في خزائن الحكايا المنسية لحفلات الترحيب بـ"فائض الأنوثة"، حيث كل منا لها إيقاع، تحمله دون أن تكرهه أو تنبذه.. جسدها أو ما يرسله إليها من جسور لتعبر فوقها وتكتمل.