مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 30 أبريل 2017
موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.
ليلة الخميس الموافق السابع والعشرون من شهر أبريل لعام 2017، شهد مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية عرضًا إنسانيًا يصنع مساحة آمنة للنساء بمختلف أطيافهن لكي يتوحدن مع أجسادهن في مشاهد متتالية تتدفق كالنهر، يصنعن من خلالها جسورًا يعبرن بها فوق دوائر الوصم والسيطرة حول ما "يتوجب" على النساء ارتدائه.
يبدأ العرض الذي يحمل اسم Un Covered En Masse بخطوات جسد تزحف ببطء نحو مساحة تتوغل في الظلام، تبدو كخطوة حيوان جريح يحاول أن يلملم شتات روحه حاملًا ندبته، لا يملك سوى الحركة للأمام بالرغم مما يحيط به من ظلام.
تتسحب المشاركات نحو المسرح بنفس الحركات البطيئة، تتصاعد الحركة ويتحول الجسد المسجى على الأرض منغلقًا علي ذاته إلى زهرةٍ تتفتح. يحتل المسرح من الزاويتين صوتان لحكاية لا تُروى لكنها تُعاش كل يوم، بندول يتحرك بعنف أقصى اليمين بين ما يتوجب علينا فعله، ارتداؤه، ممارسته لنحصل على صك القبول المجتمعي والمهني في نظام يشبه آلة تزداد تروسها توحشًا يومًا بعد يوم، وبين الاتجاه المعاكس الذي يعيدنا إلى بديهية الحياة في تعويذتها الأبدية "كل ما أريده فقط هو أن اختار":
– أنا لا أريد منك أن تكون حرًا
– لا تندهش، فالأبواب والشبابيك الآن مغلقة
– أنا لا أريد منك أن تعمل طوال اليوم
– لقد عقدت هذا الاجتماع لمناقشة موضوع مهم للغاية معك.
– لكني أريد منك أن تكون صريحًا.
– من فضلك لا تقاطعني حتى نحل هذه المشكلة.
– فقط أريد محبتكم جميعًا.
– أنتم الآن رهائن عندي.
– أنا لا أريد أن ألبس بهذه الطريقة.
– أنا لا أريدك أن تغض بصرك.
– أنا لا أريد الاختباء بعيدا.
– أنا لا أريد أن أشعر بالخزي.
– أنا لا أريد أن أعيش بهذه الطريقة.
– لكني أريد أن أقول الحقيقة.
– وفقط أريد أن أقوم بإختياراتي الشخصية".
ينسحب الصوت البشري ويتم الاكتفاء بصوت الموسيقى التي تمّ غزلها ببراعة مع ثنيات الجسد فصنعا معزوفة ناطقة بلا أي أبجدية. تتوالى مشاهد الحركة في العرض، فتجد نفسك أمام مشهد تبدو به فتاة وكأنها فقدت عمودها الفقري لتتمكن من الاختباء والتكور داخل ذاتها فلا يلاحظها أحد. ثم تشدك فتاة أخرى من مقلة عينيك لتكتشف معها براءة الكشف الأولى حين تدرك الفتاة أن جسدها يمكن أن يصنع اهتزازات راقصة في الهواء تتسع كموجات مياه آسنة أدركت للحظة أنها لا زالت على قيد الحياة، فاتسعت. حلّقت. استدارت. اكتملت بذاتها حين أدركت أنها الآن يمكنها أن تتحرك بلا خوف في الفراغ حتى وإن اتسع بداخلها، فلا تزال تملك جسدها لترقص أو لتصنع به ما تشاء.
تتوحد المشاركات في صنع ذبذبات الإيقاع ليحملن لهاث حياة تفرض على قاطنيها اللهاث، فنبدو وكأننا مشدودين من أعيننا دوما نحو "حياة" أخرى، يعبر الجسد باهتزازاته المتسارعة بدءًا من خفقات القلب، ارتفاع الصدر وهبوطه، اتساع الخطوة وتقصّيها لمساحة آمنة غير موجودة، وتيه أبدي نحو ملء فراغ ما يتبعه رغبة في كسر قيود رٌسمت بالطبشور فننصب جميعًا في قالب بات لا يتسع لما نحمله بداخلنا من طاقة للحب والحلم والحياة بأكملها.
يصل العرض إلى ذروته حين تتقدم كل مشاركة من واجهة المسرح لتشير إلى الحضور لينهار بذلك الجدار الرابع الذي يفصل بين المشاركات على المسرح والحضور فنصبح كيانًا واحدًا، جسدًا يحمل نفس الندبة ويتلقاها يوميًا أو يسددها دون أن ندري. الأصابع التي تشير إلى الحضور لا تحمل اتهامًا قدر ما تمنح صوتًا لعبارة طالما نرددها سرًا في صلواتنا الليلية: "لماذا يتم التنكيل بأجسادٍ نحن بالفعل لم نمنح اختيارًا لها؟"
ينتهي العرض بفتاة صغيرة تتقدم لترتدي وشاحًا أبيض دُوّن عليه كل ما تم ممارسته ضد النساء منذ آلاف السنين سواء كن عاريات، اخترن الحجاب، تنقبن، تخلين عن فكرة الحجاب/ النقاب، ارتدين مشدات صدر أو أطلقن لأثدائهن العنان، أو مارسن فعل الجرأة بعدم ارتداء أحذية ذات كعب عالٍ!
ما يدهشك في العرض أن المشاركات لا يحملن "نسقًا" جسديًا قاسيًا يخضع لمعايير التوحش التي تفرضها دوائر الانتماء إلى "فن"ٍ أو رياضة بعينها. تتنوع المشاركات ليس جسديًا فحسب، بل فيما اخترنه من "مظهر" ليقدمن رقصتهن المقدسة، البعض ارتدين الحجاب ولا يرين عائقًا في أن يكون الحجاب بـ"شروطه" المنصوص عليها جزءًا من عرضًا يحمل سمت "الرقص المعاصر".
في حقيقة الأمر، المُشاركات في العرض يشاركن بجزء منهن "حقيقي" ولايلعبن أدوارًا يفرضها عليهن سيناريو مكتوب مسبقًا، لدينا مجموعة من خمس وعشرين سيدة يتحلين بالشجاعة لأن يقدمن أنفسهن كما هنّ، في محاولة لاستعادة إيقاع الروح من خلال تعويذة القوة الأبدية الكامنة بأجسادهن دون أن يدركن ما يملكنه بالفعل.
بالرغم من التنوع كسمة أساسية للعرض، إلا أن جميع المشاركات يتوحدن في ارتداء ثلاثة ألوان، الأرجواني والأبيض والأخضر، وهي الألوان الثلاثة التي اخترعتها إيميلين بانكهورست- الناشطة والنسويّة البريطانية التي طالبت في عام 1908 بحق الاقتراع للنساء البريطانيات. ارتدت المشاركات: الأرجواني للكرامة – الأبيض للنقاء – الأخضر للأمل، في رمزية للاتصال مع إرث النساء التاريخي.
لا ينتصر العرض لتوجهٍ بعينه سوى توجه إنساني صميم مفاده أننا بإمكاننا جميعًا أن يكون لنا مساحة تليق بنا في الحياة باتساعها وتعقيدها وفراغها أيضًا. يمكننا أن "نبدو" بما يتراءى لنا دون أن نضطر للتبرير أو الانسياق أو التوحد مع دوائر تفرض علينا شروطا قاسية ليتم منحنا صكوك الولاء والانتماء أو نضطر للمساومة على الحق الأصيل أن نرتدي ما نحب دون أن يعني ذلك شيئًا على الإطلاق في دائرة العدم الكبرى، ودون أن يدفعنا ذلك لاستنزاف الروح في معارك نعيد فيها إنتاج دائرة القهر والوصم المضاد. ينتصر العرض فقط لاختيار المشاركة الحرة بما تنوين ارتداءه بما يعبر عنك أنت في ذلك الكادر من الحياة، دون أن يمنح أحد الحق أن يضع "تيكت" أخلاقيًا على حقك الإنساني الأصيل في الاختيار، وحقك البديهي المنسي بامتلاك جسدك وحدك.
يمنحك المسرح عالمًا تدلف من خلاله باب الخيال تحمل بين جنباتك واقعًا يصعب أن تفك طلاسمه، يمنحك فراغًا آمنا يمكنك من منح صوت لكل من هواجسك ومخاوف تنهش في روحك تقضمها قضما فتكتشف مساحة يمكنك فيها أن تكشتف أدوات مختلفة كحركة الجسد بارتفاعاته المختلفة، كقبضة أصابع اليد حين تعزف على أوتار الهواء، كتواصل العينين الذي يبني جسرًا يمكن العبور من خلاله إلى "آخر" فنطمئن أننا لسنا بمفردنا، نستكين أن ما نعانيه ونخشى أن نتوقف عنده لنكتشفه، يمنحنا المسرح إمكانية لأن تتجسد أفكارنا ومشاعرنا، بل ومخاوفنا بطريقة جمعية في تدفق بصري مُوحي.
في عالم المسرح يستحيل الجسد سفينة نوح خاصتنا التي نأخذ فيها من كل حلم زوجا لكي ننجو ونتصل بما نخشاه بداخلنا، فنكتشف "جودي" يمكننا عنده أن نستكين وأن نجد معبرًا آمنًا بداخلنا من خلال "آخر".
في عالم المسرح نكتشف أن الفراغ الساكن بين أجسادنا يمكن ملؤه ليس بمزيد من التشوش، بقدر ما يمكن أن يصبح أداة حقيقية لفهم كيف نقترب، كيف نبتعد، كيف نتكوم إحدانا فوق الأخرى، كيف نتعلم تلك المهارة المنسية في طلب العون عند الحاجة والعودة تارة أخرى إلى "قبيلة النساء" لربما رقصة عابرة تعيد إلينا وهج الروح "المتوحشة" التي تمّ استلابها بفعل التغييب والتشويه والتزييف والتقييد. لربما كل ما نحن بحاجة إليه هو رقصة ذاتية نتجه بها بكل أصواتنا المقموعة نحو الداخل.هناك يقبع ما نبحث عنه، وهناك أيضًا يتوحش ما نهابه وينزوي تارة ويُردينا قتلى مرات كثيرة.
يمكننا فعل ذلك إذا ما مارسنا لعبتنا الأصيلة العودة لقبيلة "نساء يركضن مع الذئاب". نعود لنرسم دوائر من التيه والكشف، مسامحة الجسد ذاك الحبيب الذي لم نترفق به يومًا واكتشاف أغنية الروح الأصيلة Cante Hondo، وهذا ما منحنا إياه العرض المسرحي سواء، مُشاركات، متفرجات، أو عابراتٍ كفراشات يغادرن الشرنقة رويدًا رويدًا.
المشاركات في العرض المسرحي Un Covered En Masse يقدمنّ التحية للجمهور- القاهرة 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق