الجمعة، 6 أبريل 2018

«شعائر التغير»: الترميم كمسافة آمنة

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم- نقد ثقافي للفن المعاصر

تاريخ النشر: 6 أبريل 2018

موقع "مدى مصر"، هو أحد اهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية بالعالم العربي.

الموقع قد يكون محجوبًا في بعض الدول، يُنصح باستخدام متصفح "ثور".

*******

«شعائر التغير»: الترميم كمسافة آمنة

قراءة في المعرض الفردي الأول للفنانة ياسمين المليجي 


يطالعنا المعرض الفردي الأول لياسمين المليجي (1991) المقام حاليًا بتاون هاوس ومستمر حتى الرابع عشر من أبريل الجاري، باسم (شعائر التغير  Rites of Passage) يبعث على التساؤل: فهل نحن بصدد رصد بعض الطقوس، يليها تساؤل منطقي آخر: طقوس نحو تحقيق ماذا؟ أتوقف عند الكلمة الثانية «التغير» و أتساءل لماذا تحولت «passage» عند الترجمة من الإنجليزية إلى التغير وليس «العبور»؟

***

قبل هذا المعرض، شاركت ياسمين المليجي  في العديد من المعارض والمشروعات. وتتسم مشاريعها الفنية بانطلاقها من أسئلة ذاتية تخرج من عقل طفولي مشاكس، يبدو وكأنه قابع بين دفتي كتاب حواديت، لتتساءل حول مفاهيم تمكنها من الاقتراب من عالم يقبع بكامل تعقيداته بالخارج.

مثلًا في مشروعها «حدود زهرة الصبار» قامت بتصميم ملابس وفردة حذاء من زهرة الصبار، في محاولة لخلق مسافة آمنة  تُبقي الجسد غير مستباح في الأماكن العامة، بينما في مشروع «الملك» احتفلت بتنصيب «حبة الفول»، غذاء المصريين الرئيسي، ملكًا لإنقاذ مصر من مجاعة محتملة، وفي مشروعها «قماش» تناولت فكرة المتاهة والدوران باستعراض حياة قطعة قماش تلف دورات متتالية في غسالة كهربائية.

أما في «شمشخ: الشركة الخزعبلية للمنتجات الخيالية» فقد قامت بمشاركة تساؤلها حول «ما المنتج الذي تود أن تشتريه من الأسواق؟» ليصبح لدينا نموذجًا سليكونيًا لـ«علكة الإحساس». لذا لا غرابة على الإطلاق أن تصبح «عروسة»  ثيمة رئيسية لمعرضها الفردي الأول، استكمالًا لرحلتها التي تنطلق من كتاب الحواديت، لتفكِّك العالم الخارجي وتعيد تركيبه مرة أخرى.

في المعرض الحالي «شعائر التغير»، تنشغل ياسمين بمفهوم الترميم، الذي بدأت رحلتها معه من اهتمامها بالبحث وراء تمثال يوربا بالاسكندرية، والذي دفعها لأن تتساءل علام يعتمد المسؤولون في الغرف المغلقة، لاتخاذ قراراتهم فيما يخص عمليات ترميم الآثار. وفي محاولتها لتقصِّي التعقيدات المصاحِبة لعملية الترميم، تقوم ياسمين بتطبيق نفس المراحل من «حفر ولصق» على «عالمها العائلي»، بالتنقيب عن ذكريات عائلية، في محاولة لإعادة بناء وترميم علاقاتها الأسرية.

لذا فإن المعرض يعتبر رحلة بصرية، تُطوّع من خلالها المنحوتات الأسمنتية والشمعية، وتوظف الطباعة والفيديو وبرنامج الفوتوشوب، للعبور بين عالمين: عالم ياسمين الحميمي والعائلي، والآخر الخارجي، لتسأل هل ما نراه بعد الترميم كان الماضي بالفعل؟ أم أن محاولة الترميم قد تكون ما نود أن نراه في المستقبل؟

***

من أين ننطلق في «شعائر التغير»؟

يرشدنا منشور المعرض، أن النافورة المبنية بالأسمنت والمغطاة بالشمع، هي النقطة المركزية للمعرض، وأن هناك 4 معروضات على مساحات متباعدة: 1: صورة  مطبوعة لوجه امرأة فوق كومة أوراق بيضاء، مثبتة بقالب رخام على تكوين أسمنتي.2: ماكيت مصغر لغرفة معيشة أمامها فيديو. 3: نموذج من قوالب الطوب تحمل ثيمة متكررة لعروسة وعدة أنتيكات خزفية. 4: صورة عائلية  لا تتجاوز أبعادها 30*25، معالجة بالفوتوشوب، ومعلقة على جدار أبيض كبير، تؤرخ لعائلة تظهر علامات السعادة على كافة أفرادها الذكور.



من اليمين: صورة المرأة المثبتة بقالب رخام، الصورة العائلية التي يبدو على أفرادها السعادة، النافورة الأسمنتية المغطاة بالشمع


أود هنا في محاولتي قراءة «شعائر التغير» أن استخدم عدسة «القراءة المسرحية» لأمنح المتجول في المعرض إمكانية إعادة رؤية المنحوتات وكأنها على خشبة المسرح. أفعل ذلك بعد قيامي بعدة محاولات لاستكشاف «تُرى من أي نقطة يمكنني التجول في المتاهة؟» وما الإمكانية التي يمنحها تغييري لموضعي على المسرح المتخيل، من جوانب كاشفة عن مفهوم الترميم ذاته وتساؤلاته سواء في العالم العائلي أو ترميم الآثار في الأماكن العامة؟ لذا فإني أطمئن لاقتراح القراءة التالية:

يمكنني اعتبار أن النافورة مع صورة المرأة، والصورة العائلية المعلَّقة، هم أبطال المسرحية الذين يحتلون مواقعهم على خشبة المسرح. وبالفعل، هم في طريقة عرضهم، يتموضعون في خط أفقي واحد، ويشتركون في كونهم المخرَجات النهائية لعملية الترميم. هنا يصبح لدينا بالفعل مسرح، حيث يتصدر الأبطال الثلاث خشبة المسرح بينما بقية المنحوتات، التي تخبرنا عن مراحل عملية الترميم تأتي في الخلفية ككواليس للعمل بأكمله.

يصبح لدينا التساؤل الآن: ماالذي يحدث في كواليس المسرح أو كواليس عملية الترميم ذاتها؟

تقترح ياسمين ثلاثة مراحل.

الأولى تعبر عنها من خلال ماكيت أسمنتي لغرفة معيشة (أريكة ومقعدين ومنضدة موضوع عليها أجزاء مبعثرة لعروسة البحر)، وشاشة عرض كبيرة لفيديو توضيحي لعملية ترميم منحوتة خزفية باستخدام لاصق زهيد الثمن. يمنح استخدام غرفة المعيشة وشاشة العرض الكبيرة  إحساسًا بأن هناك «أشخاصًا يقومون بالفرجة» على ما يتمّ عرضه بينما لا يتورطون بفعل الترميم ذاته. كما أن استخدام اللاصق يعيد إلى الأذهان بعض الأخبار الطريفة حول محاولات ترميم أحد المومياوات باستخدام لاصق أمير. أخذتُ انطباعًا من هذه المرحلة أن: الترميم يحدث بشكل لا يمكننا التنبؤ بآلية حدوثه فنحن متفرجون.

المرحلة الثانية والتي تحتل الجزء الأكبر من المعرض، هى «الحفر»، ليس بفكرته المادية البحتة فقط، ولكن بشكله المجازي، بالحفر في الزمن، أو«النبش في الماضي»، حيث تتبع ياسمين مصير عروسة خزفية أهداها والدها لوالدتها في ليلة زفافهما. تعبر عن ذلك، من خلال قوالب طوب غير مكتملة، وأنتيكات أسمنتية أو شمعية (عروسة، عريس، شكمجية، كفوف يد، أنتيكات منزلية)، مكررة ومتناثرة في هذا الجزء من المعرض.


أنتيكات أسمنتية أو شمعية (عروسة، عريس، شكمجية، كفوف يد، أنتيكات منزلية)، مكررة ومتناثرة

كمتلقين، سنصنع جسرًا بين المرحلة الأولى والثانية حين نجد أنفسنا نسأل: ماذا عن ذكرياتنا المتكررة والمبعثرة.الحميمية، هل يمكننا أيضا استخدام لاصق لترميمها؟.

من ناحيتها تربط ياسمين بين المرحلتين، بطريقتين جليتين أولاهما: تكرار ثيمة العروسة فلدينا «عروسة البحر» في المرحلة الأولى، ولدينا في الثانية «عروسة» نتتبع مسارها في ذاكرة الأسرة، كما أنها  كررت ثيمة الماكيت لغرفة المعيشة في المرحلة الأولي، وكوشة الزفاف في المرحلة الثانية.


ماكيت كوشة الزفاف

تنتقل إلى المرحلة الثالثة حيث يتم توظيف التكنولوجيا وبخاصة برنامج الفوتوشوب لتبدو الصورة العائلية المعلقة في نهاية العرض «مثالية» بلا أية نقائص أو عيوب بفعل الزمن. تُعبر تلك المرحلة عمّا نود رؤيته في المستقبل سواء كان ذلك عن ذكرياتنا العائلية، أو ما نرغب بأن يظل في الذاكرة، وكذلك ما نود رؤيته بعد الانتهاء من عملية الترميم بأكملها، هل سيكون لدينا اتصالًا بما كان عليه الأثر بالفعل في الماضي ، أم ستخضع عملية الترميم لفعل خلق جديد و على أيه مسافة يقف فعل الإبداع الجديد من طبيعة ما كان عليه الأثر بالفعل.

استخدام الوسائط

في مشاريعها السابقة، استخدمت ياسمين المواد الخام كالزجاج، الأسمنت، الأقمشة، مواد مباشرة من البيئة والألابستر. أما في «شعائر التغير» فكافة المنحوتات من الأسمنت والشمع، ومثلما كان الفيديو بطلًا رئيسيًا في مشروعيها السابقين «بدون أكسجين» و«قماش»، فهو هنا بطل أيضًا، لكن جاء توظيفه بشكل جعله أكثر انسجامًا مع باقي المنحوتات.

استُخدم الفيديو مرتين في المعرض، الأولى كانت لتسجيل خطوات لصق منحوتة خزفية أثناء عملية الترميم، والثانية لتوضيح دور الفوتوشوب في تعديل الألوان، وإخفاء العيوب الأصلية بالصورة.

أميل بشكل شخصي للارتكان أن استخدام الفيديو يبقينا على مسافة آمنة من التورط في مسؤولية فعل «الإخفاء»، فحين تدمج التكنولوجيا، بوصفها جزءًا من العملية الإبداعية، فهذا يطرح تساؤلًا حول «تغيير» طبيعة الأشياء التي نعمل عليها أثناء الترميم لتبدو بصورة مثالية كما نود أن تكون عليه وليس كما هى بالفعل.


استُخدم الفيديو مرتين في المعرض

هل يمكننا ترميم الماضي؟

بالرغم من تناول معرض «شعائر التغير» لسؤال يخص ترميم الآثار في الأماكن العامة وما تؤول إليه البيروقراطية الراهنة في تناول ذلك الأمر شديد التعقيد، إلا أنه من ناحية أخرى سؤال عن محاولات كلٍ منا في النبش عن صورته الشخصية في ألبوم العائلة، والمحاولة الممتدة لاستعادة التاريخ الشخصي بالارتداد للماضي، وإمكانية لصق بعض الصور الممزقة لنستدعي حضور شخص قد تمّ استبعاده في وقت سابق من الصورة، أو التأكيد على ذكرى بعينها في الذاكرة.

استوقفني كثيرًا  استخدام منحوتات/ أنتيكات منزلية صغيرة في البناء الأسمنتي الكبير في تاريخ العائلة في المعرض،  حيث العلاقة بين استدعاء ذكرى ما بشكل ملح للنبش عن دلالتها في اللاوعي، وبين فكرة الترميم النفسي. وبخاصة حين لا يمكن أن نخبر على وجه الدقة هل ما نتذكره في العقل الواعي هو ما حدث بالفعل، وهل ما تحمله الذاكرة إلينا على امتداد الزمن سواء في الوقت الحاضر أو المستقبل هو ما وقع في الماضي؟ أم أن هناك أجزاء تمّ تخبئتها في اللاوعي وبالتالي فإن المنتج النهائي سيحمل دومًا «لصقًا» و«إخفاءً» من نوعٍ ما بالرغم من صدق النوايا للترميم.

كما استوقفني أيضاَ، تكرار ثيمة «العروسة» في مرحلة الحفر في الماضي، كأحد مراحل الترميم، بسبب تقاطعها مع أحد مراحل التعافي التي تعتمد على الملاحظة الواعية للنمط السلوكي المتكرر، والذي يتجذر غالبًا بسبب حادثة بعينها في الماضي، تكون مثل  تجمع خيوط في بؤرة واحدة متي تمكننا من «حل عقدته» تنسل البكرة برمتها لتخبرنا سيل من الأحداث التي لا ترتبط بالماضي فحسب، بل تمنح المعني والدلالة للمعاناة في الوقت الحاضر، حينئذ يصبح «الخيط» ممتدًا نحو إمكانية التعافي مستقبلًا.



أود استخدام كلمة «العبور» كترجمة لكلمة «passage» ليكون اسم المعرض «شعائر العبور». فالمعرض إذن رحلة بصرية تصنع جسرًا للعبور نحو ما هو آت مستقبلًا بأقل خسارة وتشويه ممكن، من خلال ترميم الداخل بطرح إمكانية الارتداد للماضي، وإعادة تفكيكه كلما أمكننا ذلك لنعبر نحو تعافٍ ما، ومن ناحية أخرى مساءلة ما يقع في العالم الخارجي عن جديته في تناول ما هو معقدًا بالفعل، بقدر من المسؤولية والمواجهة.