الجمعة، 16 نوفمبر 2018

رؤيا


أنا أتفهم، لا بأس في ذلك. 

الحلم العاجز بالوجود بالكلية، 

ليس أن تبدين بل أن تكوني. 

في كل لحظة واعية، 

هناك ضوء أحمر بانتظارك. 

الهوة الساحقة بين ما أنتِ عليه مع الآخرين وبين ما أنتِ عليه حينما تنفردين بذاتك. 

أنا أعلم ذلك الدوار، النهم الشديد المستمر لأن تصبح أحشائك خارجك، 

أن تتعري بالكلية، 

أن تتجلى الحقيقة من خلالك، 

أو تلك الرغبة العارمة في أن يتم محوك بالكلية ودمارك. 

كل إيماءة، 

كل انثناءة، 

كل ضحكة،

 كل تكشيرة هي كذبات جديدة.

هل ستنهين كل ذلك الألم بالانتحار؟ 

لا أعتقد، إنه مبتذل لكِ.

عوضاً عن ذلك، سترفضين الحركة، 

سترفضين الكلام، 

سترفضي أن يلوك فمك كذبات جديدة. 

ستنغلقين على ذاتك بمتاريسك المعتادة. 

حينئذ لن تضطري للعب أي أدوار، 

أو القيام بأية حركة خاطئة.

هكذا تظنين.

الواقع أفعى شيطانية.

ستتسرب الحياة شيئاً فشيئا حيث تختبئين. 

إن مخبأك ليس منيعاً كما ظننتي. 

ستجبرك الحياة أن تتفاعلي.

لا أحد يطلب منكِ الصواب أو الخطأ، 

لا أحد يهتم إنك كنتِ حقيقية أو تدعين. 

إن هذه الأشياء تصنع فارقاً فقط على خشبة المسرح، 

ولأخبرك شيئاً لربما هناك أيضاً لا وجود لذلك.

أنا أتفهم لماذا ترفضين الكلام،  

ولماذا ترفضين الحركة، 

ولماذا تلعبين دور اللامبالاة المصنوع بعناية من أعماق ذاتك.

أنا أتفهم، 

في حقيقة الأمر أنا معجبة بقدرتك على فعل ذلك 

فالأمر يتطلب قوة ذهنية قوية.

أنا أتفهم أن هذا الدور يجب أن تلعبيه للنهاية، 

لذلك الحد الذي تملين منه، 

عندئذ ستتركينه، 

ستضعينه جانباً مثل كافة الأدوار 

التي تركتيها من قبل واحداً تلو الآخر.




الخميس، 15 نوفمبر 2018

مسدس

قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 238- نوفمبر 2018

 مجلة "أوكسجين" مجلة نصف شهرية ثقافية إعداد وتحرير الروائي والشاعر زياد عبد الله.

*****

مسدس



في طريق العودة إلى المنزل يبدو كل شيء بلون براز شخص مريض

حين توقفنا الاشارة الحمراء للعبور نحو الجحيم بعينه

تراودني فكرة أن أوقظك من مخدعك وأنهال تصويباً على كل البشر:

الشخص المتأفف بجوار زوجة لا تخبئ كراهيتها في العربة المجاورة

عامل "الدليفري" المنخرط في سماع أغانٍ ليهز أوتار الخواء بأي فعل أو إعلان للوجود

أطفال يحشرونن روؤسهم حشراَ في نوافذ العربات ليمارسوا فعل الشحاذة

امرأة تقود عربة فارهة بمفردها يتدلي من شفتيها سلك أبيض تختلس عبره ضحكة بين الفينة الأخرى.

سأفرغ معدتك فيهم جميعاً

و سيشكرونني لاحقاً علي جميل صنيعي.

أخرجك بالفعل من حقيبتي،

أنهزم أمام اكتشافي المتأخر للجبن

أصوبه نحو نفسي

يخترقني صوت السائق هل يتوجب عليه أن يسير يمنة أو يسرة؟

أصل المنزل في تمام الساعة التاسعة،

وصول مبكر يليق باستقبال الثقل فأنا لا آوي إلى الفراش قبل الثانية عشرة

إذن هي ثلاث ساعات سنقضيها سوياَ

أضعه أمامي

أدور حوله في دوائر يقصر و يطول قطرها.

أشعر بتنميل خفيف يزحف في قدمي.

أستريح

أعدل جلسته ليتمكن من رؤيتي و أتمكن من النظر في فوهته.

تمنعني هشاشتي وخيبتي من استخدامك.

وتمنعك صلابتك في ممارسة مزيد من القسوة عليّ

يمتد الصمت بيننا طويلاً

تختمر في رأسي فكرة مدهشة

بدلا من أن يصوب أحدنا سهام الترقب نحو الآخر

فلنعقد صداقة مؤقتة

لكن كيف سنبدد الوقت بعبء الصداقة المؤقتة

سأخبرك بما أجيده

سأقص عليك حكاية

وسأسألك أن ترسمها علي هذا الجدار الأبيض

فاستمع جيدا.

لنرسم بالطبشور عل الحائط جسد رجل ..لنقل إنه في السبعين،

ارسمه طويلاً ذا شعر كثيف وعينين عسليتين

بل ارسمه طفلاً في الثامنة

كُسرت للتو لعبته المفضلة فشعر بالوحدة

بل ارسمه كبالون باللون الأصفر أفلته نفس الصبي فلم يلمس أرضاً قط.

لا تضحك عليّ كثيرا

أنا أحاول مساعدتك

فلنعد للبدء

ارسمه رجلاً طويلاً

في السبعين

شعر كثيف

عينان عسليتان

ارسمه وحيداً

يتحسس جراب مسدسه بين الفينة  والأخرى

املأ تجويفه خوفا

لربما تركته أمه يوما ما

ربما تركه الجميع

ربما أنت يا صديقي المسدس، الوحيد الذي لم يتركه

كنت صديقاً وفيا إذن

فلتصنع مكان لك على الرسم أيضاَ

هكذا

تبدو الصورة أكثر وضوحا

رجل وحيد

عيناه عسليتان

يملؤه الخوف

يتحسس مسدسه

اقتربنا كثيراً

لكن لازال هناك ما هو ناقص

شيء حقيقي ناقص!!

لربما شيء حميمي!!

لربما تركناه في خزانة المشفى الخشبية

موقنة أن هناك شيء ناقص في الرسم.

ستأتي أمي بعد قليل

وسيتوجب علينا إزالة كامل آثار الرسم على الحائط

لكن كيف يمكننا إزالة الذي لم يكتمل

فلترسم طفلة في الثامنة

تقف علي باب غرفة أوصدوا بابها جيداً

 تنظر من ثقب الباب

إلى رجل

وحيد

وخائف

ويتحسس مسدسه طول الوقت.

اكتمل الرسم

فلنزيله سريعا

ونغسل أيدينا جيداً

لنبدو أطفالا مهذبين

تفوح منهم رائحة الديتول

ويربعون أذرعهم حول صدورهم  ضرورة الأدب

أمي قادمة

وسيكون لزاما أن أخبرها أنني ما زلت أتقلد المنصب الأول في المدرسة

ليس هذا فحسب

سأخبرها بأنه تمّ اختياري لأداء دور البطولة في المسرحية النهائية

و أني قمت بحفظ النص كاملا غيبا

ستأتي أمي بعد قليل

سأخبرها كل شيء

سيتوجب علينا أن نمحو الرسم من على الحائط

يجب أن يكون المنزل نظيفا

وضيقا

حين يرن جرس الباب

سأهرع إلي الشراعة لأتبين وجهها

سأستعير وجه أبي

وأحباله الصوتية

سأغلق الباب في وجهها جيداً

سأعود منتصرة إلي أبي لأخبره، كي استحق محبتي

أخبره بالفعل

هو لا يراني

لا زال يتحسس مسدسه

هناك بصمة أصابعه و أصابعي و فوهة مصوبة نحوها

فلننتهِ من الرسم سريعا

بل نزيل بأسرع

يتوجب أن يكون كل شيء نظيفا

وضيقا

كمنزلنا

أو كمشفي

اللون الأبيض ينبعث برائحته العطنة من كل صوب

ها نحن ذا انتهينا من الرسم

فلنحتفل

سأطلب مراقصتك

سأعيد توجيه فوهتك هكذا نحو الأرض

سألف ذراعي حول خزانة الرصاصات الممتلئة

أي نوع من الموسيقا تحب أن نرقص عليها؟

آه تذكرت ليس بإمكاننا تشغيل الموسيقا

فأبي يرتبك حين يحضر اللحن

أبي يرتبك حين تحضر الحياة....أو تتخلى عنه

فلنرسم إذن

رجلاً وحيداً

وخائفاً

يرتبك

فيتحسس مسدسه بين الفينة و الأخرى.

أتعلم

لطيف أن تكون من دون أذنين

أنا أيضاً مولودة بعيب خلقي أسماه الأطباء بعد فترة "بعثرة الحواس"

أذني تحتل مكان عيناي، بينما عيناي تتجولان في مكان آخر.

فلنصنع لحناً إذن و ليكن لحنا سرياً

لا اغضب به أبي

ولا أريد أن تنهمر أمي في نوبات بكاء مستمرة جراء اتساخ الجدران

ولأن سجادة الصالون الذي لم ينفتح لأحد لم تبسط بطريقة لائقة

أو لأن اللحن يشي بقصة حب لم نخبرها بها

لنرقص إذن في لحن سري

دقت الساعة

إنها الثانية عشرة

لقد عبرنا يا صديقي

الساعة الثانية عشرة!!

الثقل يعلن حضوره المستبد

المنزل نظيف جدا

وضيق

أنت لا تزال محتفظاً بالعدد ذاته من الرصاصات.

رسمة الطبشور علي الحائط الأبيض لن يراها سوانا

ورجل وحيد

وخائف

يرتبك

يتحسس مسدسه بين الفينة والأخرى.