‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالة، نسوية، شريكة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالة، نسوية، شريكة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 26 ديسمبر 2021

عُلا أبو الشلاشل ...عن هذا الغضب الجميل الذي غادرنا سريعًا !

عُلا أبو الشلاشل....عن هذا الغضب الجميل الذي غادرنا سريعًا !

مقالة توثيق لتاريخ معاصر لنسويات مصريّات تركضن مع الذئاب.

المقالة منشورة على موقع شريكة ولكن، وهو موقع معني بقضايا النساء في لبنان، العالم العربي، ومنطقة شمال أفريقيا.


صورة عُلا أبو الشلاشل- صورة أرشيفية- ويكي الجندر


في المقالة السابقة من استكشاف تجارب وحيوات لنساءٍ حولنا ينتمين لقبيلة معاصرة من نساء "يركضن مع الذئاب"، ألهمتنا تجربة غادة عبد العال وتقاطعها بكل عنادٍ مع فيض الحياة الحالي. أما في المقالة الحالية، فنتتبع وجه مصري آخر، قادني إليه تتبعي لخريطة الغضب بداخلي، ولم أكن أعرف ما الذي سألتقيه في محاولتي لكرّ الخيط، غير أني التقيت "عُلا أبو الشلاشل".

من هى علا أبو الشلاشل؟ وما هى نقاطها وخطوطها التي منحتني اتساعًا في الرؤية وتعريف الغضب على الرغم من بعد الشُقة بيننا، ما الذي يعنيه الغضب النسوي؟ ولماذا نحن بحاجة أن ندون عن قبيلتنا المعاصرة وبخاصة في العشر سنوات الأخيرة؟

 

 هل النساء- إجمالًا- غاضبات؟ أين يذهبنّ بكل هذا الغضب؟

ثمة فرضية أن كونك امرأة وتعيشين في الشرق الأدنى، فذلك يعني أنك غاضبة بعض الوقت، وإذا ما تفتح وعيك النسوي، فستصبحين غاضبة كل الوقت. تطل علينا الصورة النمطية عن النسويات كونهن غاضبات هستيريات، يصرخن بينما يتقدمن في مسيرة للمطالبة بالحقوق المنتهكة. ذلك أفهمه في سياقه، فالمسيرات ونضال الشارع يتطلب الصراخ. كما أفهم ايضًا أن الصراخ في حد ذاته عنصر مكون من الثقافة العربية، نحن نستخدم الصوت باعتباره أداة للقوة والسيطرة واحتلال الهواء وفرض الرأى وإخراس الآخر إن تطلب الأمر، هذا إرثنا المشترك الذي نود أن ننسلخ عنه بكل طريقة ممكنة.

أتذكر تلك الصديقة التي تقاطع مسارها معي في بلد بعيد، وأخبرتني بحيلتها كيلا يتملك منها الجنون بالكليّة، "فلتذهبي إلى حفلة لمطرب/ة ما انصهري مع الجماهير ثم أطلقي العنان لأحبالك الصوتية، اصرخي قدر المستطاع، لن ينهرك أحد، لن يخبرك أحد أن صوتك مرتفع أكثر مما ينبغي، لن يتم إلقاء القبض عليك لأن صوتك "نشازّا" بين الجموع المُباركة حولك لكل ما تكرهين وتعلمين جيدًا في أعماقك أنك تكرهينه بالكلية. كانت حيلة الصديقة من البلد البعيد منطقية وتتراصف مع الرغبة في التماهي والاختباء والتنفيس في ذات الوقت، فالنساء حتى في غضبهنّ عليهنّ البقاء ضمن ما هو مسموح ومرضي عنه ومتفق عليه، ألا يتوحشن، ألا يخرق الصوت أذن أى نوعٍ من السلطة المرهفة التي تود إبقاء كل شىء على ما هو عليه حتى يرث الله الأرض وما عليها. ولكن كيف يمكن أن نكون نسويات وغاضبات في واقعنا اليومي حين لاساحة، لامسرحٍ ، لا شارع للتنفيس عن كل هذا الغضب الذي يتكتل في عظامنا!

أكره التأطير الضيق لفعل الغضب كسُبّة للنسويات، فهناك فرق هائل بين الغضب والعدائية، أما الأول فهو مشاعر انسانية يمكنها أن تكون بوصلة لكى نتصل بذواتنا التي تخبرنا أن فورة الغضب تعني ان في تلك اللحظة المفعمة بالتأجج ثمة شىء ما تمّ انتهاكه، هنا الغضب يأتي حماية وإرشاد لكى نعدّل المسار نحو ما يعيد إلينا الاتزان وضرورة إعادة ترسيم الحدود لما نرفض تمريره أو الموافقة عليه.أما الكراهية والعدائية هى رغبة تدميرية في سحق الآخر، ووجود تلك الرغبة وعدم الوعى بها يعني التماهي مع نفسية القاهر، يصبح الفرد مثل الشخص الذي أساء إليه، إذا ما امتلك السلطة يتحول بها مباشرة نحو "النسخة الهشة منه" هنا تصبح قوة الغضب إكراه وعدائية وتدمير، لأنها تتحول لسوطٍ ضمن عدّة القوة فيبطش ويفتك بمن لا يمتلك نفس الأداة/ الحق في النديّة أو كفّ الأذى. فأين تذهب النساء بكل هذا الغضب إذن؟ اتعثر بنساء حولي يحولن الغضب إلى ممارسة تأملية وفق الثقافة البوذية التي تتسلل إلى المجتمع المخملي المعاصر منذ عدة سنوات، اعترف أني أتورط بها بعض الوقت، لا بأس فهى تمنحني لقدرة التي احتاجها لتأمل لالم بداخلي دون أن أتورط فيما يحدث في العالم لذي يفوق قدرتي على التغيير. أتعثر بدعوات مستمرة للنساء أن يقمن "يتحزموا ويرقصوا". أردد بيني وبين نفسي "طيب حاضر" بينما صوت ساخر بداخلي يعلو "ما بكفاية بهجة وبهججة واصطناع سعادة وإيجابية سامة مش في محلها" غير أني اخمده بكثيرٍ من الرفق والرحمة، فبت أكثر اتساقًا مع أن البعض يحتاج إلى فقاعة وهم من حين لآخر، ولا بأس أيضًا.

بينما أتتبع خريطة الغضب بداخلي ومحاولات تعتيقها ، وقع في يدي كتاب لفنانة بصرية  مصرية نبتت روحها من ثورة يناير لم أعرفها من قبل غير أن الصفحة الأولى جعلتني أشعر أن وجدت شيئًا يستحق التوقف. الجملة الأولى في الكتاب تخبر القارئ/ة :

"هذا كتاب أنتجته في أحد لحظات غضبي الكبرى".[1]

ثم يتوالى الكتاب على لسان صاحبته "علا أبو الشلاشل" بقولها:

"في وقتٍ ما في 2014، في وسط نوبة غضب حادة لقيت معايا كراسة وماركر أسود للتنفيس عن الغضب، بدأت أرسم نقط وخطوط جنب بعضها. بعدها بدأت أتخيل الغضب وأرسمه. الكراسة اتحولت لمذكرات مرسومة، وثقت 3 شهور ونص. الكراسة رسمت لنفسها بداية ونهاية، يوم ما دخلت حياتي ويوم ما خلصت صفحاتها."

نقاط وخطوط- مذكرات مرسومة- عُلا أبو الشلاشل 2014

 

أعادت تلك المقدمة إلى ذاكرتي كتاب "حين يتملكها الغضب" الكتاب الحائز على لقب "أفضل كتاب لعام 2018" من قبل الواشنطن بوست، فاست كومباني، سيكولوجي توداي للكاتبة  والناشطة النسوية الأمريكية "ثريا شيمالي".  وبخاصة في بحثها الهام حول علاقة مشاعر الغضب لدى النساء وقدرتهنّ على الإبداع، بقولها: "هناك اعتقاد خاطئ أن الغضب يجب أن يتحول لفعل تدمير وخراب وعنف، في حقيقة الأمر أن مثل هذا التعريف الضيق يمكننا أن نراه يأتي بوضوح من مُخيلة ذكورية تبحث عن العراك المستمر. أما ما يحدث في عالم النساء فهو أن غضبهنّ يتحول إلى طاقة هائلة للإبداع والتي تفصح عن نفسها في قدرة النساء المبدعات على توليد الفن بكافة أشكاله، وليس ذلك فحسب بل بناء مجتمعات تشاركية."[2]

هل كانت "عُلا" تعتق الغضب وتغزله أيضًا عبر فنها وحياتها؟ كيف؟

عُلا: من الغضب الشخصي- إلى العام، من العام إلى الشخصي.

أخبرت عُلا عن ولادتها لنفسها تراصفًا مع ثورة يناير 2011، بقولها:

"يوم 31 يناير، ابتديت ساعتها يجي لي أحلام بتاعة اللي هو طب أنا على مستوايا الشخصي، التغيير دا ممكن يؤثر عليّ أنا إزاي؟ إيه الحاجات اللي هتتغير اللي ممكن تؤثر عليّ أنا؟ يعني ممكن مثلا أمشي في الشارع من غير تحرشات طول الوقت مثلا؟ دا تغيير.

ممكن مثلا إجراءات القسم تبقى أرحم؟

ممكن أعمل بطاقة من غير أبقى مقلّقة 7000 مرة ونازلة والموضوع تقيل جدا على قلبي؟

لو، ما أعرفش يعني، كل الحاجات اللي لها علاقة بحياتي اليومية والمجتمع والحكومة ابتدت تنط كدا شوية في راسي. فابتديت اللي هو طب ما هي دي حياتي.

بس ساعتها كان برضه مش منطقي بالنسبة لي إن ما أبقاش جزء من الناس اللي بتغير حاجات هتؤثر عليّ أنا في الآخر.

فلو أنا عايزة أكون موجودة، فأنا لازم أكون موجودة فعليا مش موجودة باللي هو، آه أنا معاكو تمام، انزلوا انتو بقى".[3]


ظهر وجود عُلا في المجال العام بانخراطها كفاعلة وشريكة في عدد من المبادرات المجتمعية التي شكلت عمق الوعى النسوي في العشر سنوات الأخيرة وفترة الفوران الثوري على وجه الدقة، فشاركت كفنانة بصرية ومؤدية وعملت كمصممة جرافيك، ومصممة مواقع ورسامة ومحررة ومترجمة وممثلة وحكّاءة. تطوعت في مشروع جرافيتي نسوي في القاهرة في عام ٢٠١٢: طرح المشروع تساؤلات عن مدى ظهور كلمة "نسوية" وحاول أن ينقل تلك التساؤلات للفضاء العام. عملت "عُلا" مع نظرة للدراسات النسوية، إختيار للدراسات الجندرية، ويكي جندر و مشروع بصي.  أعادت تقديم غضبها ووعيها النسوي المتدفق من خلال فن المسرح، من خلال مشاركتها كممثلة وحكّاءة وحكاية ضمن مشروع "بُصّي" وهو مشروع فني يهدف إلى خلق مساحة حرة للسيدات والرجال في مصر لحكى التجارب الشخصية المسكوت عنها في المجتمع، تقوم بصى منذ 2006 بتوثيق وعرض القصص الحقيقية في شكل عروض مسرحية، في مجتمعات مختلفة فى مصر. لم تكتف "عُلا" بكونها مؤدية وحكّاءة، بل اختارت أن تؤسس لحكاية إبداعية أخرى عن طريق إطلاق وتأسيس مِشبّك، وهي منصة إبداعية محلية لربط وتشبيك جميع الفنانين/ات المصريين/ات عبر مساحة افتراضية للوصول بسهولة ويسر لكل ما يلزم لإتمام أعمالهم/نّ الفنية، انتزعت تلك الحكاية فوزًا مستحقًا عام 2012 بحصولها على جائزة القاهرة للتحول الثقافي[4] ولا زالت فاعلة حتى الآن. شاركت في توثيق الانتهاكات الجنسية التي تعرضت لها النساء في المسيرات أثناء ثورة يناير 2011 من خلال عرض "على الثورة أن تكون نسويّة"، والذي عُرِض في عام 2016 ما بين القاهرة والسويد.

بالرغم من عدم تقاطعي معها في الحياة، إلا ان مثل تلك الروح المُغامرة الحرّة الجريئة الراكضة رغم أنف الذئاب والحياة بمنعطفاتها، تستطيع دومًا أن تُحلّق عبر كل الضفاف، وكيف لا وهي التي أخبرتنا عبر واحدة من رسوماتها، ألا نتوقف عن الغضب والإبداع في آنٍ واحد، ورؤية أن هناك إمكانية لحكاية أخرى بأعينٍ ترى مالايُرى!

رسم أرشيفي- علا أبو الشلاشل – إنكتوبر 2016

 

في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي حلّت الذكرى الرابعة لرحيل الفنانة البصرية المصرية والناشطة النسوية "علا أبو الشلاشل". لم تحتفي بها جوجل، ولا وسائل التواصل الاجتماعي، لربما كان الأمر مقصورًا على دائرة ضيقة من الأصدقاء/ ات وشركاء/ات العمل المُلهم خلال رحلتها التي غادرتنا سريعًا. لابأس، لدىّ كتاب "نقاط وخطوط"، وفي في التاسع والعشرين من الشهر الحالي، سيحل يوم مولدها. فلنعيد تأريخ ذاكرتنا النسوية الجمعية لكيلا تتحول لطقوسٍ جنائزية، فلنحتفل بكل الملهمات في يوم مولدهنّ، فلنعبر إليهنّ بكل تجربتهنّ في تذوق الحياة ومحاولتهنّ لترويض الغضب بداخلهنّ. فليتحول التاسع والعشرين من أكتوبر احتفالًا بكل ما خلّفته "عُلا أبو الشلاشل" التي يبدو أنها نجحت في تعتيق كل هذا الغضب في فنٍ جميل وبكل طريقة ممكنة لعالمٍ أرحب خارجها، وأن قدميها أينما حلّت أنبتت حياة.

 

علا أبو الشلاشل- سلام وروح وريحان- صورة أرشيفية من مجموعة مشبك



[1]  أبو الشلاشل. عُلا. (2014). نقاط وخطوط- مذكرات مرسومة. متاح على الرابط: https://genderiyya.xyz/r/2/2d/%D9%86%D9%82%D8%B7_%D9%88%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%B7_-_%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA_%D9%85%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%85%D8%A9.pdf

تمّ زيارة الرابط بتاريخ: 10 أكتوبر 2021.

[2] Cain. Abigail quoting Chemaly, S. (2018). How rage can lead to creative breakthroughs. Available at: https://www.artsy.net/article/artsy-editorial-rage-lead-creative-breakthroughs

Retrieved on 10th Oct., 2021.

[3]  بودكاست مقابلة مع عُلا أبو الشلاشل: المرأة الذاكرة. (2015). متاح على الرابط: https://audioboom.com/posts/3544251-. تمّت زيارة الموقع بتاريخ 10 أكتوبر 2021.

[4] مشروع نسوية. بيوغرافيا. متاح على الرابط: http://www.womanhood-egyptian-kaleidoscope.com/biographies. تمّ زيارة الموقع في 10 أكتوبر 2021.