‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتابة إبداعية، شعر، مجلة أوكسجين، ثقافة، إبداع، اللغة العربية الفصحى.. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتابة إبداعية، شعر، مجلة أوكسجين، ثقافة، إبداع، اللغة العربية الفصحى.. إظهار كافة الرسائل

السبت، 4 أبريل 2020

تذكرة سينما

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 255- أبريل 2020

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الشاعر والروائي زياد عبد الله

***

تذكر سينما



ثمة تحذير مكتوب على التذكرة

سيتم العرض في قاعة معتمة

لأربعين دقيقة كاملة.

ستبقى الشاشة معتمة

لا شريط للصوت يحمل نصاً مكتوباً يخبرنا عن الخيانات المتكررة للحياة.

لا أبطال يتصدرون الشاشة

لا موسيقي تدغدغ الحواس

لا خبرية من عالم آخر تطمئنك أنك لست الأشد حزناً في هذا العالم

لا شيء.

***

ثمة تحذير مكتوب على التذكرة

مساند مقاعد المشاهدة مزودة بمجسَّات رقيقة حادة الحواف

خلايا جلدك المحترق للمرة الثالثة،

سيتم قرضها بأسنان فأر يعبث بأثاث منسي لبيتٍ قديم.

***

يوشك العرض أن يبدأ

لكن كتيب العرض لا يذكر على وجه الدقة

كيف نبحث عمّا فُقد؟!

الشاشة معتمة

ستبقى أربعين دقيقة كاملة

في محاولة أخيرة لأن تدفع خارجاً كامرأة في مخاضها لا ترى رأس وليدها،

يتسرب سائل ككتيبة نمل مدربة في أطرافك الممسمرة على صليب خشبي.

***

يوشك العرض أن يبدأ

تندفع ربة البيت التي تأتي مع كل شروق لجلي الصحون

تقتطع جزءاً من السلك المعدني المخبئ بعناية في قفصك الصدري

تبهرك قدرة كفيها على البتر من دون أن تؤلمها حواف السلك المدببة.

تمضي مهرولة لمتابعة مهام الحياة العاجلة

تخبرها مراراً أن تتبع التحذير المكتوب على التذكرة

يجب أن تُحكم إغلاق ستائر الغرفة

يوشك العرض أن يبدأ

في قاعة معتمة

والشاشة معتمة أيضاً

لأربعين عاماً أو أقل.

***

الصورة من أعمال الفنان المغربي فريد بلكاهية (1934 – 2014).

الجمعة، 20 مارس 2020

الغريب

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد252- مارس 2020

مجلة "أوكسجين"- مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الروائي والشاعر زياد عبد الله

*****

الغريب



مساءً أخلع عني الغريب، أضعه في السرير المقابل الفارغ

أشعر باسترداد بعضي وأخلد إلى نوم عميق.

صباحاً وقبل أن أتوجه للحمام، أتأكد من ارتدائه بإحكام.

لا أستغرق في الوقوف أمام المرآة طويلاً..

حين يخبرني أحدهم أن النساء يقضين ساعات أمامها، أتعجب

فأنا أرتديه في خمس ثوان كافية للقفز داخله و إحكام قبضته عليّ،

ثم في الثواني الخمس التالية أكون على أهبة الاستعداد لولوج العالم.

***

العابرون بخفة غيمة فوق الغريب،

يشتهونه حد القسوة،

غير أن محاولات ممارسة البطء في إنزال القوات

تبوء بالفشل دوماً.

حين يحضر الغريب يبدو كل شيء طاغياً

الاشتهاء

التوق

الانسلاخ

الحضور

التجلي

التماس حد التلاشي الكامل

أجلس هناك أراقب

الغريب والمارة

أتململ من الانتظار بينما يملأون الفراغ بالتأوهات

أستمع وأمرر كافة عبارات الفيلم الرديء

"أحبك"

"فلتطلبي شيئاً، أي شيء"

الصمت الذي يلي اللهاث المتسارع من أجل التحقق العاجز

أتابع بترقب تهاوي الرغبات الواهمة في السيطرة

الذوبان بالكلية، الاحتراق، ثم أنفض الرماد عن ثوبي الأزرق بينما أهم بالرحيل.

يخبرني الغريب أن ما حدث له مذاق حلو، لربما رغبت في تذوقه يوماً

وحائط زجاجي يفصل بيني و بينه.

تلتمع عيناه كطفل في السابعة ابتعت له للتو لعبته المفضلة

أتركه يلهو

في المساء حين أخلعه عني

أعيد اللعبة إلى البائع

أفعل ذلك خلسة

من دون أن يراني أحد.

يأتي الصباح

أرتدي الغريب

يلتصق بي التصاق الأنف بالوجه.

لا أحد يراني

يعبرون فوق "الغريب"

ثم انسى كل شيء.

***

كنت أقول مازحةً لأختي الصغرى إن من يمتلك سبعاً و عشرين حسنةً سوداء فهي تذكرته إلى الجنة..

أنا أحمل ثلاثاً وثلاثين

الغريب منحني تذكرة دخول الجنة مجاناً

لكن الحسنات السوداء ليست لي

بل لأمي

أشعر أني أتحرك في جسد أمي

الحسنات السوداء نفسها متناثرة أعلى الكتف وممتدة على امتداد الظهر

بياض الجسد

ترهل الإليتين مستقبلاً

بينما بعض الساقبن من أبي - أو هكذا وددت.

حين احتضار أبي كنت أنظر كثيراً إلى ساقيه

في البدء لكي أتابع تطور المرض واحتباس السائل في جسده

ثم أحببتهما

كانتا طويلتين

فهما سلّمه الخاص لكي يقف فوقهما ويرى العالم

ارتدى أبي ساقيه الطويلتين ورأى العالم كله

ولم يرني

كنت واقفة هناك بالأسفل

بلا قدمين

وها أنا الآن مع غريبٍ يلتصق بي و لا أعرفه.

***

في المصعد

كنت أقف أنا و أخي وعامل المصعد وجسد أبي مسجي على عربة بأربع عجلات.

كان الجسد يحملق بي

لونه وردي وقد استعاد عافيته

يكرر على مسامعي ألا أفارقه لحين ذهابه إلى الأرض التي أحبها دوماً

أهم بإخباره بأنه سيتحول إلى عربة ذات أربع عجلات كالتي يرقد عليها

أخشى أن تثير الفكرة الضحك وهو خائف ومرتبك

أعيد رسم الجدية لأستمع إلى ما يقول

أهزُّ رأسي إيجاباً

أمام المكان البارد

أقف أودعه.

بعد أربعين يوماً

انتهوا من قص كل الحكايا عن  الدود الذي سيعتاش طويلاً على الجسد

أود أن أخبرهم أن جسد أبي تحول إلى عربة ذات أربع عجلات في تلك الليلة في مصعد المشفى البارد.

تقاطعني أمي دائماً وهي تخبرني بوجوب أن نبدو متزنين أو إغماض أعيننا لكي ننتهي من كل هذا.

أجلس مغمضة العينين في منتصف نهر متدفق من النساء يرتدين السواد

يتابعن رواية كل ما يمكن مضغه من الحكايا.

أستمع وأهزُّ رأسي

أوشك على القفز من على حافة قبره المدببة

أتعثر في نقطة حرف النون المتطايرة التي نسخها بخط يده  "كل من عليها فان"

يتلقفني الغريب الذي لا أعرفه

يعيدني إلي مضجعي

يهدهدني

أنام لستين يوماً أو أكثر

لا أحد يراني

فقط

الغريب

يرقد هناك ينتظر

***

في السرادق حين قطعوا الكهرباء عن صوت المقرئ الخشن

سألتني أختي الصغرى

هل يمكن أن نصاب بنفس مرض أبي؟

زار المرض أبي مرتين

في المرة الأولى أخبرونا أنه تخطاه تماماً

وأقول دوماً إن المرض صنع بئراً سقط فيه أبي ولم يعد.

وفي الثانية كنت أتعلق بالأمل كل ليلة لكي يعود أبي الغائب منذ أكثر من سبعة عشر عاماً.

كنت أقاتل شيئاً أكبر من أن تحتمله قدماي الضعيفتان اللتان لا تشبهان ساقاي أبي الطويلتان.

في غرفة تتدلى منها الأنابيب وصلوات لم يستمع إليها أحد

مكثت كثيراً بصحبة الغريب الذي لا أعرفه

وأبي- كعادته- لم يعد.

لم أمتلك إجابة كأخت كبرى لأطمئن خوف أختي المرتعبة من إصابتها بنفس ندبة أبي.

لا أتذكر شيئاً عما درسته من تفاصيل طبية يمكنها أن تملأ الفراغ الذي يتسع بيني وبينها

أكتفي بالقول

لا أعلم

لكن إن حدث، فإنني تعلمت العناية جيداً بجسد أبي في الندبتين،

و بجسد أمي حين انتابها مرض آخر جعلها تصرخ فينا لمدة عامين متتاليين

إذا حدث سأكون هنا لأعتني بك

انخرطت هي في البكاء

بينما كنت أنظر للغريب الذي يلتصق بجسدي

من سيعتني بنا إذن حين يحدث؟

امتلأت بالخوف ثم عاد صوت المقرئ من جديد

ليتلو آيات من الذكر الحكيم

ولم يرني أحد.

***

في الحانة اقتربت السيدة الخمسينية

كانت ترتدي شيئاً مثيراً للسخرية

محاولة أخيرة لإظهار تعرجات لا يحتملها جسدها المترهل

وضعت يدها حول الغريب

في الوسط تماماً

كان الجو صاخباً

الجميع يبتسم

وهناك كؤوس تدور باتجاه معاكس

عيناها لا تتحركان حتى لتظنها قد انتهت للتو من تخدير كافة عضلات الوجه بحقنة بنج من طبيب الاسنان.

تتحسس كل شيء في الغريب

ينتفض

يدور دورات متتالية

العينان تستغيثان

لا أحد

يستكمل الغريب الرقص في دوائر صوفية

يأتي وجه يعرفه

يجري إليه بساقين قصيرتين ليستا كساقي أبي

الآخر يتلقفه

بين فكيه

يعتصره

فقد كان يشتهيه منذ زمن

***

في المساء أخلع عني هذا الغريب

أضعه على السرير المقابل الخاوي

ثم أعاود ارتداءه كل صباح

الغريب الذي لا أعرفه

وكم وددت لو يبقى لأخبره أني

لن أحمل سوطاً من الغضب نحوه بعد اليوم

سأتذكر المرات الكثيرة التي اختبأنا فيها سوياً بمكتب أبي المهترئ

على أمل أن يحب أحدنا الآخر.

***

الصورة بكاميرا الكاتب والصحافي والمترجم أحمد الزعتري


الخميس، 14 نوفمبر 2019

حين غادرت منزل العائلة

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 249- نوفمبر 2019

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الكاتب والشاعر زياد عبد الله

****

حين غادرتُ منزل العائلة



حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

هرولت في طرقات مدينة لم اختبرها

وتوجب على وجهي أن يبدو جاداً

وأنا أحادث سائق العربة

وأقلّب حبات الطماطم أمام البائع بينما يتعثر كلانا في مخزنه القديم من الكلمات.

***

حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

كان لي غرفة باردة

أخذت منها كتبي القليلة لتعبر بين قارتين

وحسبت بأن بمقدوري الاختباء بين دفتى كتاب- كعادتي في الصغر

لكن ثمة عمل

ومنزل

 وباعة

وعربة

ووجوه تتعلق بأذيال ثوبي كلما خطوت متسائلة:

كيف يمكننا إنقاذ العالم؟

***

 حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

حرصت على ابتياع ثيابٍ كثيرةٍ صفراء اللون

وما شهدت خزانتي حضور هذا اللون الطاغي من قبل.

بعد سنوات

تعثرت بعشٍ قديم لطائر فقد جناحيه

وتوارى منذ زمنٍ خلف الألوان الفاقعة

كل شيء خارج اللون

يجعله يرتبك

فينكمش متكورًا على خصره.

بعد سنوات

سمح لي أن اقترب

وأن يخرج عن منقاره

صوت خائف

يخبرني أنه لم يحب قط ألواني الفاقعة.

***

حين غادرت منزل العائلة للمرة الأولى

بتُّ أنضج في اليوم الواحد ألف مرة

لم يكن لدى مرآة في غرفتي

إذ خشيت أن أنظر إليها

فأفتقد وجهي القديم.

حين غادرت منزل العائلة

أصبح لدي

عمل

ومنزل

وعربة

وصداقات مع الباعة

وخطة محكمة لإنقاذ العالم

وتذكرة عودة للبيت القديم

ومرآة في مدخله بحجم الجسد

تمنحك إذنًا بالعبور نحو ما كنت عليه ذات يوم

غير أن أمي أعادت طلاء البيت مرات متتالية

واختارت بعناية كل قطعة لتبدو جديدة بالكلية.

صار البيت

باللون الأصفر

كغرفتي الباردة

في بناية بعيدة لم أعد أسكنها.

***

حين غادرت منزل عائلتي للمرة الأولى

تعلمت كيف أحمل بيتًا من غرفة واحدة في قفصي الصدري

وكلما أعلنت الطائرة ملامسة الأرض

كنت أتأكد من إشعال المدفأة

لئلا تتجمد أوصال طائرٍ منمكش

في إحدى زوايا غرفة باردة.

***

في كل مرة أغادر منزل العائلة

أعكف على خياطة جناحين من صوف محكم

لألصقهما على جانبي طائري

أرقبه شيئًا فشيئًا وهو يخطو متعثرًا نحو حافة العالم

أستقبله بكل ودٍ حين رجوعه منكس الرأس

أمنحه متسعًا في بيت يحبه بلا قيد

أعيد على مسامعه حكايا قديمة لعصفور آخر طار محلقاً ليبحث عن الصوت

ثم أصمت طويلًا

وأنتظر

لا أفعل أي شيء

أحبه

أصمت

أنتظر

في كل مرة ينظر إلى عيني مرتبكًا، ماذا سأفعل حين أصل للحافة؟

أكرر على مسامعه

أحبك

فلنكتشف ذلك معًا

ثم لا أفعل شيئاً

أصمت

طويلًا

وأنتظر.

***

في كل مرة نغادر سويًا منزل العائلة

يتشبث أحدنا بكتف الآخر

كجناح تمّ تخليقه للتوً

لا نعرف على وجه الدقة

ماذا يفعل كلانا في عالمً قد يبتلعنا بالكلية

غير أن انعكاس صبر المحبين في عين الآخر

يمنحننا إمكانية أن يخطو كلانا

خطوةً واحدةً صغيرةً

خارج اللون

والبيت القديم

وبناية بها غرف كثيرة باردة

وذاكرة ممتلئة بصور ممزقة.

خطوةٌ واحدةٌ صغيرةٌ

لكى نؤمن في كل مرة من جديد

أن

خطوةً واحدة صغيرة

تكفي

وتفيض.