الثلاثاء، 7 فبراير 2023

سيجارة- نصوصٌ خارج اللُغة

 نص "سيجارة" منشور

"بمجلة "نصوص من خارج اللغة"، وهى مجلة فصليّة مُحكمة


سيجارة

 

علَّمتني السيجارةُ الأولى الإنكفاءَ على خوفي

الآن أبدو أكثرَ استعدادًا لمُواجهة العالم.

 

انتهيتُ للتوِّ من تمارين القسوة

يُمكنُني أن أنظرَ للخوفِ في العين مباشرةً

أشُدُّه من شعرِه الأسود الطويل

ألفُّ خُصلاتِه العالقةَ بحُنجرتي

أتلذذُ بتعذيبِه ببُطء

بينما أنظرُ إليه بعينين باردتين.

 

علَّمتني السيجارةُ الأولى العبور

فما بَقيتُ مُعلَّقةً بين عالمين.

 

الجسرُ الذي أمضيتُ عُمرًا أقطعه جِيئةً وذهابًا

تساقط حاملًا بعضًا من قدميّ اللتين ظننتُ يومًا أنهما راسختان

كجذرِ شجرةٍ أحملُها وشمًا فوق ظهري.

 

علَّمتني السيجارةُ الأولى أن أراقبَ البُطء

كنقاط ِمحلولٍ مِلحيٍّ تتساقطُ في أوردةٍ ضيقةٍ

لرجلٍ سبعيني عجزتُ أن أُقرِضَه رغبتي في الحياة.

 

أُراقبُ المحاولة الأولى في الفشل:

الشفتان موضوعتان على المِبسم

تقضِمان تُفاحةَ الغواية

امتلاءُ الفَمِ بخَيبةٍ

تنتهي بُسعالٍ يشي بسرقةِ الحلوى لطفلةٍ في الثامنة.

 

النَّفَسُ المُسافرُ بداخلي

يرتطمُ بمحاولاتِ لثمِ الحياة

ابتلاعِها علي عجلٍ

وتقيؤها أيضًا بنفسِ ذاتِ الخديعة

دون أن أسمحَ لها أن تخترقَني بالُكليَّة

الخوفُ أن يحترقَ حلقي

الخداعُ الطفولي بإنقاذِ العالم

أُحبّه قليلًا،

وأُحبُّ أكثرَ احتراقِ شفتىيَّ بالغُواية.

 

الرغبةُ الأخيرةُ لمحاولةِ التأكّدِ من إمكانية الحياة

بالاحتراقِ الكُلي

ومراقبةِ

الرمادِ الذي يتكوَّمُ في المنفضةِ

ببُطء

التأرجحُ بين دخانٍ أرسمُ به دوائر

يُمكنني الآن أن أُطلقَ سراحَها

وقبولِ الخسارة

ما يتبقي منها

رمادٌ

سأُفرغه لاحقًا في مكبٍ أكبر.

 

حينَ تنتهي السِيجارةُ الأولى

سأتأكدُ من مَحوِ آثارِ الغوايةِ

لأبدو طفلةً تفوحُ منها رائحةُ الديتول

سأُعيد تكرارَ أناشيدِ البراءةِ في أُذنِ أمي

كى تقرَّ عينُها.

 

أُراقِبُني وأنا أخطُو فوقَ متاريسِ صوتِها بداخلي.

 

تنتهي

الِسيجارةُ

وأنتهي

وأعلمُ أنِّي

أقبِضُ علي الرّيح

وأنِّي أحترِقُ ببُطء.



ضفيرة- نصوص خارج اللغة

  نص "ضفيرة" منشور

"بمجلة "نصوص من خارج اللغة"، وهى مجلة فصليّة مُحكمة.



ضَفيرة

 

الرجلُ الذي أُحبُّ يُشيرُ إلى ذقن أبي المُدبب في صورةٍ مُؤطرةٍ بالغياب

يُدحرجُ جملةً أو اثنتين في طريقي اليوميّ نحو نفسي

ثم ينهمكُ دونما التفاتٍ في العودة إلى مسار كوكبه

"تُشبهين والدك"!

كنتُ أظنُّ أني أُشبهُ أمي، السنُّ المعقوفُ الذي لايعلم بوجودِه سوانا.

نمارسُ ما نجيد طهوه كل يوم  

أن نختبىء

خلف السنِّ المعقوف  

ابتسامةٌ ممتدة

عجينٌ لا يختمر

وتشبثُ يدٍ تؤلم كلانا بطفلٍ ـ قد كان ـ لا يُغادر الذاكرة.

 

الرجلُ الذي أُحبُّ يُشيرُ إلى ذقن أبي المُدببة

يتلمَّسُ شفتاي برفقٍ ليطبعَ قُبلةَ وِردِ الاكتمال اليومي

يُخبرُني أنِّي أحمل نفسَ الامتداد وبين ما ظننتُ أنِّي أُغادره

غير أنَّ أبي فَقَد صوتَه منذ أربعين عامًا أو أكثر

ثمّ استخدم ساقيه الطويلتين ليبحث عمَّا فقد.

أربعون عامًا أُخرى من التيه في صحراءِ رُوحه

مذ ذاك الوقت بِتُ أجوب زوايا الذاكرة، أبحثُ عن بقايا صوت

ألملمُ ما أعثر عليه لأصنع منه جديلةً لأُعيد للذاكرة نهراً باللون البُنىي

يعكسُ خُصلاتٍ ذهبيةً تمً قصها ذات غضب.

أتأكدُ أني أصل ما لايمكن وَصلَه بعد اليوم

أخلعُ عنَّي ضفيرتي لترقد ساكنةً في أحد أدراج مكتب أبي الصاج القديم

لترقد في صمتٍ بجانب ضفيرة أُخرى تمَّ اقتلاعُها بمنجلٍ ذات طفولة.

 

 


اعتراف- نصوص خارج اللغة

 نص "اعتراف" منشور

"بمجلة "نصوص من خارج اللغة"، وهى مجلة فصليّة مُحكمة




اعتراف

 

حين تلتصق أجساد المُحبين تذوبُ الحدودُ الفاصلةُ بين إطارين

تَتَكَشّفُ حديقةُ أحدهما للآخر

تتهتكُ اللغةُ المنسيَّةُ المكمورة برِفقٍ في مسارب الروح

تستحيلُ إلى سَيلٍ أبيض من صمتٍ مشبوبٍ بالوَهج

حين يلتصق جسدان في فعلٍ حميمي

يمنحُ كلاهما الآخرَ أيضًا صِّكَ الولوجِ،

للكراهية.

 

لا نمارسُ الجنسَ مع أصدقائنا أو مَن نودُّ أن يكونوا كذلك

فالكراهية مستحيلةٌ بحضورهم

نرسمُهم امتدادًا غيرَ مرئيٍّ يتجاوزُ المسافةَ،

الظلَّ،

الماء والطريق

نَملأُ المسافةَ بين إطاريِّ الجسد  

وانعكاسِ الصورة  

وحرارةِ مسامِ الجلد المحترقة بتجلٍّ إلهي

حضورٌ يجمعُ  في ملكوته

الشياطينَ،

الملائكةَ،

الثعابين،

وحمائمَ تُحلِّقُ في سماءٍ مُمتدة

 

لا نمارسُ الجنس مع أصدقاءنا أو مَن نودُّ أن يكونوا كذلك

في البدء، ننخرطُ في تمارين التأله في حَضرَتِهم

نضعُ عنَّا الأقنعة

نصبحُ أكثرَ هشاشةً

والتصاقًا

ونداءًا

ووصلًا

وصلاةً

وصِلة.

 

لا نمارسُ الجنسَ مع أصدقاءنا أو مَن نودُّ أن يكونوا كذلك

الجنسُ فِعلُ بعثرةٍ وتشرذم

نخرجُ من حافته مُنهكين من هَولِ الاجتياح

يستلزمُ الأمرُ دقيقةً أو عدة سنوات كى تلتئم.

 

لا نمارسُ الجنسَ مع أصدقائنا أو مَن نودُّ أن يكونوا كذلك

فنحن نأتي عتباتهِم كى نُرممَ أعاصيرَ الروح

ليستقيم البدنُ كما جُبِل عَليه  

واقفًا مُمتدًا ناصبًا عمودُه الفقري

مُدعيًا أنّ كلَّ شيءٍ بخير

قيدُ السيطرة

بينما تتساقطُ  كُرياتُ اللهب من فُوهة بركانٍ غيرِ مرئيّ

لتستقرَ في مُنتصفِ البطن تمامًا،

تصنعُ ألمًا لا نُخبر به العابرين

غير أنّ تقيؤَ الصباحِ  

كركرةَ المعدة  

والرغبةَ المتواصلةَ في استئصالِ تجويفِ البطنِ بمنجلٍ

تشي به ـ لا محالة.

 

لا نمارسُ الجنسَ مع أصدقائنا أو مَن نودُّ أن يكونوا كذلك

لأننا نعبر إليهم مُحمَّلينَ بأجزائنا التي لا نراها

أو تلكَ التي نراها جيدًا

ونخشى أن نخطُو إليها قَيدَ أُنمُلةٍ

بمفردِنا

فلا نعود.

 

 


الخميس، 2 فبراير 2023

أسورتان من ذهب- قصيدة

 قصيدتا "أسورتان من ذهب" و"فلنطهٌ بداية جديدة" تنشران في مجلة ميريت الثقافية

العدد (50)

فبراير 2023


شابٌ تشي به سُمرةُ الجنوب يختلسُ النظرَ إلى هاتفه دونًا عن الطريق

حين يستبدُّ به الشوقُ يُدير الكاسيت بصوتِ قلبه المحترق "يِهِمِك في إيه"

العَرَبةُ التي تحملُنا جميعًا كصلبانٍ خشبيةٍ سيتمُ إحراقُها في المحطةِ التالية

تتأرجحُ بين يدَي السائقِ وتعرجاتِ الطريق

ومسيحٍ ضلَّ الطريقَ إلى جِذعِ النّخلةِ علَّه يجدُ ما فَقَد.

طفلةٌ فَقَدَت دُبَّها المُفضلَّ للتوِّ

تبحثُ بين أرجُلِ الجالسين عن ساقَي والدها الطويلتين

تعودُ بخيبة.

فتاةٌ لها عينان بلونِ السبانخ تؤكدُ للصوت أنَّها في الطريق إليه

قد يتطلَّب ذلك ساعةً أو عامين.

 

نمرُّ على صناديقَ زُجاجية تقفُ بها نساءٌ عاريات

يُخبرنَ المارَّة أنَّ ثمة تخفيضًا هائلًا على ملابسِ الإحرامِ البيضاء

بينما يتخشَّبُ بها رِجالٌ بلا أرجل، ورؤوسٍ بأعينٍ تمَّ اقتلاعُها للتوّ.

تمتلئُ العربة، ينسلُّ الجميعُ كقطعةِ صوفٍ يُعادُ نسجها آلاف المرات

دون أن تستحيل إلى معطفٍ يقي أحدَهم بردَ قلبِه.

 

في نهاية الطواف

أصلُ إلى بيت أمي

الطابقُ الأرضىّ تمَّ تحويله إلى صندوقٍ خشبيٍّ ذي قُفلٍ معدنيٍّ صدىء مكتوب عليه "يا رب"

أتعثُر في ورقةٍ بحجم اليد:

تعلن البلديةُ اليومَ عن حاجتِها لتعبيد الطريق ليمرَّ سادةٌ جُدد.

في كلِّ مرةٍ تأتي بلديةُ الحي ينسكبُ سائلٌ أسودُ من فمِ وحشٍ يَمضِغُ مساراتِنا المُتعرجةِ ذاتَ طفولة  

محاولات الهرب الأولى،

ما تَبَقى من آثارِ أحذيتِنا على طريقٍ لن يتعرَّف أحدُنا فيه على الآخرِ بعدَ اليوم.

تفوحُ من البيت رائحةُ كعكٍ تمَّ خَبزُه في صباحِ عُمرٍ طازج

تستقبلُني أمي بنظرةٍ معتادة من الغضبِ تستحيلُ سريعًا إلى محبةٍ رائقة

نقضي اليوم بأكمله نلوكُ تاريخَ العجين

أُلقي السلامَ متأخرًا على ما عَلِقَ منِّي وأخي على جدران البيت

في السادسة مساءًا، تستقبلُ أمي القِبلة لتُخبر الله بكلِّ شيء

في السادسة وخمس دقائق، أتحوَّلُ إلى أسورتين من ذهبٍ يستقران حول معصمِها

يخبرها الصوتُ أنَّ صلاتَها قد استُجيبت

بإمكانها مَنحِي بالكُليّة للغيب والغياب.

كما يُمكنها دومًا أن تستعيرَ عمودي الفقري لتتكئَ عليه.



فلنطهو بداية جديدة

 

قبل أن يبدأ العامُ الجديدُ تُوصد أمي بابَ المطبخِ جيدًا، تنهرُنا من الدخول

تخبرُنا أنها وضعت سبعَ حباتِ فولٍ عاريةً على الطاولة

لا يجبُ الاقتراب قبلَ اليوم الرابع.

في بداية العام الجديد،

تطهو لنا أمي الحباتِ في إناءٍ يتسعُ لكافة وجوه العائلة الغائبة

تفوحُ من المطبخ رائحةُ خبزٍ ساخنٍ،

محبةٌ مُتعبة وأملٌ لا يشيخ بعودة مَن لايلتفت

نتأرجحُ في الصباح بين عادةِ احتساء القهوة الروتينية وبين تلقفِ ما صنعتُه الوالدة

غير أنَّها تحسمُ الأمرَ بالضربةِ القاضية حين تُخبرنا:

حباتُ الفولِ السبع العارية

انتهت للتوِّ من تِلاوةِ طقوسِ العُزلة

يتدلى مِن سُرّتها حبلٌ سِرّيّ

التهامُها واحدةً بعد الأخرى سيصنعُ سُلَّمًا شفافًا تصعدُ عليه أحلامُنا الُمتعبة من العام الفائت

تستَرِقُ السَّمعَ إلى أخبارِ السماء

ثمّ تعودُ لتُنبِتَ في معدةِ كُلٍّ منّا شجرةً عملاقة،

يُمكننا دومًا أن نعودَ إليها لنستكين.

أستمعُ إليها بقداسة يوم الأحد التاسعة صباحًا بتوقيتِ أن نبدو مؤمنين

أتحسسُ بطني برِفق

أتخيلُ أوَّلَ أبنائي،

يغفو هانئًا أسفل شجرةٍ ابتعلتُ حباتِها للتوّ

فاتحًا ذراعيه لتلقي الوحي من عينين جَدِّةٍ أحبتُه منذُ أزمنة.

أقفُ،

أرقُبُ بصمتٍ كلَّ ما يُمكن أن ينمو بيننا:

الغيابُ المُؤطر بحضورِ الحكايا

أمررها بخِفةٍ من بين ثنايا فم أمي المحشوّ برائحةِ الخبز الساخن،

حباتُ الفول السبع المُعلَّقة حول عُنقي لتُخبرني أنَّي أستطيع الخطوَ نحو العالم مُحمَّلة بيقينٍ أخبئُه بعناية أسفل عمودي الفقري

ومحبةٌ مُمتدةٌ نَبَتَت في رحمي منذُ عشرين سنة.