الخميس، 14 يوليو 2022

الحق في أن نمتلك ساقين تركضان نحو الذهب

 مقالة فرحًا ببسنت حميدة

مقالة "الحق ان نمتلك ساقين تركضان نحو الذهب" منشورة على موقع شريكة ولكن، موقع عربي لمشاركة القصص والتجارب والمعرفة بعدسة نسوية تقاطعية.



الحق في أن نمتلك ساقين تركضان نحو “الذهب”

أتابع مثل الجميع الفوز المتوّج للمصرية بسنت حميدة في دورة ألعاب البحر المتوسط، وانتزاعها بكل جدارة ميداليتين ذهبيتين، الواحدة تلو الأخرى، في تألقٍ مصري، أفريقي، عالمي غير مسبوق.

لا أعلم عدد المرات التي شاهدت فيها الفيديوهات. أشغل الفيديو مرةً تلو الأخرى.

وفي كل مرة، لا تغادر عيناي النظر إلى ساقيها بفرحٍ مفتون! أعيد الفيديو، أنظر إلى هذا التناسق العضلي المبهر!

لستُ أمام جسدٍ بشري، بل لوحة من طمي النيل التي منحها الله قوة، رشاقةً، وعزيمة تتكتل ببراعةٍ في كل عضلةٍ بلا مواربة، وثبات عينين لا تتفاوضان حول الفوز، وتمضي نحوه بلا أدنى التفاتة!

يتزامن ذلك، مع موجة من “وسخ النهر”، أتابعها بتأففٍ صامتٍ، تجلب معها الجدل الآتي من عوالم غوغائية مُعتمة تعيد تدوير الهُراء حول “عدم” مناسبة الزى الرياضي للبطلة الأولمبية.

وأتعجب من كل تلك القدرة الهُرائية على تفريغ لحظات الفرح بجدارة، وتحويلها إلى شوادر لطميات تصب في مازورةٍ ضيقة، على النساء أن ينصعن لها في كل مناسبة وبلا مناسبة حتى.

يردد المجتمع- “الفاضل”- أناشيد الحشمة والوقار والطهارة والالتزام- باعتباره على قيد أنملة من تحوله الأعظم إلى مجتمع ملائكي يؤسس لمدينته الفاضلة.

كما يصرّ بلا كلل على أن تدور النساء وحدهن كجوقةٍ أبدية مُخلصة، تردد في لحنٍ ببغاوي جنائزي ما يمليه عليها صوت الفضيلة المُتخيّلة، خلف ميكرفون يبث بلا انقطاع، سرديات الذكورة المتكئة على عجزها، والمختبئة وراء أفكار مُهلهلة للتشتيت عن هشاشتها، وانسحاقها من السلطة الأكبر، والمهزومة في سياقات التحقق الذاتي، سواء في الخفاء أو العلن.

ودوناً عن كل أناشيد النعيق والنهيق التي تبث وتطاردنا أينما يمّمنا وجوهنا، لم أفهم يوماً إرث الكراهية نحو “الجسد الرياضي” للنساء، من أين أتى؟ وكيف تشكّل؟

وما الذي يريده “الآخر” الممتلىء بالكراهية طيلة الوقت، غير أنه يتحين لحظة الفرح والتتويج ليفسدها كطفلٍ بائس يسعى جاهداً للفت النظر، بدبدبةٍ متواصلة من قدميه على الأرض، فور أن “تفقع بالونته”!

قبل زمن التربية الإيجابية، كانت الأم تُسكت مثل تلك التصرفات الطفولية بنظرة عينٍ حارقة، أو كفٍ على الوجه.

لكن الزمن تغير، وتشكّلت كل تصرفات الطفولة، التي كان أوجه لها أن تبقى في ذاكرة الطفولة المنصرمة، إلا أنها تحولت إلى واقعٍ مُعاش، يطل برأسه ويصب كراهيته كلما تسنى له الأمر.

فمن أين أتت كل تلك الكراهية؟

حِصة الألعاب .. إرث قديم من كراهية الجسد الرياضي

أدعو قارئات المقال أن يشاركنني مقعداً في ذاكرة الطفولة الجمعية، خصوصاً من ولدن وعشن بعيداً عن القاهرة.

لا أستطيع الجزم إن كان الحال أفضل في العاصمة، باعتبارها- أكثر انفتاحاً- فليسامحني الله!

أتذكر حِصة الألعاب، في المدرسة الابتدائية الخاصّة. حينها، كانت والدتي تحرص على ابتياع إما “ترينج” أي ملابس رياضية بمقاسٍ أكبر من مقاسي الحقيقي، أو تعمد إلى تفصيل زيٍ خاص، يتكون من بنطلون واسع، فوقه تنورة أيضاً تغطي “مناطق العفة”، وتي شيرت طويل يصل حتى الركبتين.

كنت مثل الجميع في هذا الوقت، نفعل ونرتدي ما يخبروننا أنه “الزي المناسب”.

أتذكر لحظات الضحك حين تنظر إحدانا إلى الأخرى بعد ارتداء هذا “الزي المناسب”. كنا نتقدم نحو الملعب أشبه بطابور مُهرّجات يستعدين لفقرتهنّ الضاحكة في السيرك المنصوب.

صادف أن تركيبتي لم تكن تميل إلى المجهود الجسدي المتواصل. كنت أتكوّم مع أخريات على دكة الاحتياط، بينما نلملم طبقات الحجب الثلاث للـ”زي المناسب” فوق أجسادٍ ضئيلة، لم تفارق مرحلة الطفولة بعد.

كنت أقطّع الوقت وأمرّره بمراقبة علاء وعبد الرحمن وعمرو وأيمن، يرتدون هم أيضاً “الزى المناسب”: شورت، تي شيرت، ويكرّسون اهتمامهم للحذاء الرياضي- لئلا يتعرّضون لإصابة توقف اللعب والمرح.

وفوق كل ذلك، كانوا يهرولون خلف الكرة بأريحية ومرحٍ مُعلنين. متعة حقيقية يحظون بها من دون أن يتعثروا في الطبقات الثلاث من “الزي المناسب” للفتيات في حصة الألعاب.

كانت “ش.” الطفلة الوحيدة بيننا التي استطاعت أن تغادر دكة الاحتياط. إذ امتلكت لياقةً بدنيةً لافتةً للنظر.

حرص والدها، أستاذ التربية الرياضية في مدرسةٍ أخرى، على تدريبها منذ نعومة أظافرها، وكأنه يهيأ الجسد ليتمرّد خارج ما ينتظره العُرف من أجساد النساء.

ظهر ذلك جلياً في قدرتها الفائقة على أداء كافة التمارين، بل والتفوق في مسابقات الجري، ما جعلها ليست فقط مادةً ثريةً للمتابعة من الباقين والباقيات على دكة الاحتياط، إنما أيضاً لأستاذ التربية الرياضية “مستر روؤف”، الذي شعر أنه أخيراً وجد ضالته، سيتحقق في مهنةٍ هشة، وسيجد الحصان الذي سيراهن عليه في مسابقات مدرسية لاحقة.

لم تخيّب “ش” أياً من توقعات مَن حولها، فحصدت الجوائز في الصف الرابع والخامس.

وحين انتقلنا إلى الصفوف الإعدادية، حافظت أيضاً على بريقها وألقها الرياضي، على الرغم من تعثرها في 3 طبقات من الـ”زي المناسب” لحصة الألعاب.

في المرحلة الإعدادية، وحين بدأت أجسادنا تتمرد بإعلان الوجود الجديد، بدأت الأنظار تصبح أكثر حِدةً نحو “ش”.

وبدا الأمر كأن النظرات تتحول إلى سهامٍ تُغذي صوتاً يخبر “ش” وغيرها بأن عليها أن تزيد من طبقات “الزي المناسب”.

فكأن “الترينج” بمقاسٍ أوسع مرتين ليس كافياً، ووجود تي شيرت طويل، وأسفل منه تنورة تصل إلى الركبتين ليس كافياً!

كان الأمر يسيراً لنا، لافتقارنا إلى الموهبة الرياضية، وجدنا ضالتنا في فنونٍ أخرى، لا تتطلب هذا القدر من التفاوض.

أما “ش” فكانت متعتها الحقيقية في الركض، ليس فقط لحصد البطولات، إنما يبدو أن اللياقة البدنية ونظامها، صارا جزءاً من نسيج حياتها.

انقلبت الأمور كلها رأساً على عقب يوم أن قَررت عدم القدرة على الركض أو المشاركة في تمارين التهيئة بكل تلك الطبقات من الأقمشة.

في الوقت نفسه، كنا نستمع إلى أهمية ارتداء الحجاب، ليس في حصة الدين فحسب بل في كل مكان.

وكانت “ش” تنتظر طبقة قماشٍ جديدة، تضاف إلى الحواجز التي ستجد طريقةً ما للمراوغة داخلها وقت تأدية تمارين حصة الألعاب.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأ التحذير من أن بعض التمارين التي تمارسها الفتيات ستُعرضهن لخطر فقدان عذريتهن. وهذا أمر يوجب التدخل بكل حزم، وقد كان!

في اليوم التالي، حضر والد “ش” إلى المدرسة، كان مشهداً ملحمياً، تخلّلته شتائم مديرة المدرسة على مرأى الجميع، وانتهى بأن قرر الوالد تحويل ابنته إلى مدرسةٍ أخرى.

اختفت “ش” من المدرسة، ولم يعد هناك ساقين لمتسابقة “رهوان” يراهن عليها أحد.

غادرتُ المدينة، وحين شاهدت بسنت حميدة تركض مرةً تلو الأخرى، عادت “ش” إلى مخيلتي.

تُرى أين استقر بها المقام؟ لربما كانت بسنت هي “ش” في حياة أخرى- لكن هذا المجتمع المتدين بنسخته الحصرية من الدين، لن تروقه سردية تناسخ الأرواح أو تواصلها- فلأحذفها إذن.

اختفت “ش”، وبقيت بسنت تركض، بيما أراقب كلاهما.

“الست الحلوة رجليها مقلوظة!”

في القبيلة النسائية، نكبر بينما يرنّ في آذاننا صوت يكرّر نفسه المرة تلو الأخرى بضرورة أن يكون للنساء الجسم الجميل داخل الزى المناسب.

معادلة بسيطة ومباشرة. هكذا تبدو، لكنها في حقيقة الأمر استهلكت أعمارنا في محاولة التيقن من ماهيّة وصورة الجسد الجميل ومن الرائي، أو الوصول للغز الزي المناسب.

لكن كان يكفي بالطبع أن تتزوج إحدانا، فهذا يعني أنها حققت المعادلة الغامضة، وها هي تتحول إلى المستوى التالي من اللعبة.

أن تحافظ على الجسم جميلًا، داخل “الزي المناسب” لدورها الجديد، كزوجة، أم ولاحقاً كجدة. مسارات محددة سلفاً، لا يجب أن تحيد عنها النساء، جميع النساء!

في كل مرة أشاهد فيديو بسنت حميدة تركض، أدقق النظر في الساقين القويتين.

أخزّن في عظامي أصوات نساء العائلة حول أهمية أن يكون للمرأة “رجل مقلوظة” مصبوبة صباً، وحكاية “طانط سميحة” المتوارثة عن الموسيقار محمد عبد الوهاب.

إذ قال في أحد أحاديثه إن “الست الجميلة تُعرف من كعب رجلها واحمراره وأيضاً من صبة ساقيها التي تُكسبها أنوثةً طاغية لا تقاوم”.

بينما تلتقط سيدةً أخرى تنميطاً عنصرياً مدسوساً بعناية في اللمز والسخرية بقولها: “بس إنتو رجليكن معرقبة من كتر صيام الزيت، كتر خير رجالتكن أنهم قابلين بيكن، بس أصل كلكن كده”.

وأصوات تأتي من كل حدبٍ وصوب، حول “ضرورة” أن تكون ساقا الفتيات لامعة كالسيراميك.

أما إذا كانت المرأة على “وش جواز” أو تنتظر مولودها الأول، فتنصبّ نصائح نساء العائلة حول أهمية أن لا يتناولن المشروبات الغازية، كي لا تصاب عظامهنّ بالهشاشة.

وهكذا تمتد الأحاديث خصيصاً حول الساقين رمز الجسد الجميل. ما الذي يجب أن تكنّ عليه؟

فالساقان جزء من الجسد الذي يجب أن يظل جميلاً، متوارياً داخل الزي المناسب، بانتظار من يفك عنه ربطة صندوق الهدايا!

لا تخبرنا قبيلة النساء أنه يمكن للنساء أن يمتلكن “جسداً رياضياً” مثل بسنت حميدة وساقين قويتين على سبيل المثال. وأن مثل هذا الجسد، وإن تمّ وصمه، فله جماله أيضاً.

تتشارك أصوات قبيلة النساء تلك مع أصوات الذكورة، التي تُعبِّئ الهواء وكل ما يتعلق بالنساء من بعيدٍ أو قريب، غير أن كلاهما يجتمعان في نقطة لقاءٍ واحدة، هي أن الجسم الرياضي يحرّض على إعلان الوجود الحيّ النابض بالقدرة على المنافسة في مجالاتٍ لا تستطيع النساء خوضها من دون قوة كافية للتفاوض وربما التحايل بعض الوقت.

الجسد الرياضي يذكر الجانبين بالكراهية لكل ما هو خارج عن توقعات هذا الجسد. وهو أن يكون وعاءً فقط لإحضار الأطفال إلى العالم. أو معاونة الزوج كما يحدث في الطبقات الأقل قدرة اقتصادياً، إذ تعتبر “صحة” النساء مصدراً ومورداً لصلب عود الأسرة وتحسين الدخل.

الجسد الرياضي يعلن وجوده بلا خجل أو مواربة أو اعتذار أو انتظارٍ للإذن، الذي لن يأتي خصوصاً في المجتمعات التي تظن أنها تتحدث وحدها بلسان الفضيلة، وتملك المعنى الأوحد، الذي لا يجب القفز خارج أطره الضيقة.

أن تملك امرأة جسداً رياضياً، فهي إما “تنازع” عالم القوة والرجولة المتخيلة، أو تستعرض لتنال إعجاب العيون الجائعة. ولا سبب آخر معترف به في قائمة القبول والاعتراف، التي صدقًا يجب أن تذهب إلى الجحيم.

أعاود مشاهدة فيديو بسنت حميدة مرةً أخرى، أشكرها بصوتٍ مرتفع على إعلان الوجود للجسد الرياضي.  لكن إعلان الوجود في الفضاء العام، سيصبح مشاعاً يتسرب من خلاله كل النعيق المستمر.

أشعر بالحسرة- لبعض الوقت- حين أقرأ والدتها تتصدى لتوضيح ما لا يلزم. تأكيدها أن ابنتها ترتدي “الزي” في الملعب فقط.

كأنها ترسل رسالة طمأنة لغوغاء تتربص بكل جسدٍ أنثوي بشهيةٍ مفتوحة لالتهام النساء بأعينهن، أو بما يتيّسر لهم في الفضاء العام بكل وسيلةٍ ممكنة.

تصر الجموع الهائجة على عدم تفويت “اللقطة” لمزيدٍ من الدبدبة الطفولية بلا رادع، وترديد أسطوانة الفضيلة المُتخيلة لجموعٍ تعيد تدوير ضلالاتهم وهلاوسهم بكل صورةٍ ممكنة، وعدم قدرتهم على تجاوز أن النساء يمكن أن يكنّ كائناً لها مهام أخرى غير المتعة، وموفورة الصحة ومنفتحة للحياة بأكملها بلا خجل.

أفوّت وكثيرون عليهم الفرصة، نحتفل، نفرح ونتداول فيديوهات بسنت المرة تلو الأخرى، بينما أسمع بداخلي تهشيماً لكل النعيق القديم حول “الجسد الجميل” في الزي المناسب، أو السيقان التي يُفترض أن تكون عليها النساء جميعاً.

وللمرة الأولى، أقترب من سبب افتتاني بها: بسنت حميدة، سيقان قوية قادرة على الركض بكل قوة لاقتناص الذهب، فعلتها مرة، بل اثنتين، وكان هذا دعوة فرح للجميع.

 


 

قد يعجبك ايضا

الثلاثاء، 12 يوليو 2022

من القاهرة: في مواجهة "أبو رجل مسلوخة"

 "من القاهرة": في مواجهة "أبو رجل مسلوخة"

قراءة نقدية في الفيلم التسجيلي "من القاهرة"- كتابة وإخراج المخرجة المصرية هالة جلال

المقالة منشورة على موقع المنصة.

موقع المنصة هو منصة صحفية مستقلة تشاركية وتقدمية، مفتوحة لمساهمات الصحفيين المستقلين والقراء أصحاب الرأي المنشغلين بفهم أفضل للحاضر وحلول للمستقبل. 


هبة وآية وورد من فيلم من القاهرة - صفحة المخرجة هالة جلال على فيسبوك


 "من القاهرة": في مواجهة "أبو رجل مسلوخة"

في ذاكرة الطفولة، ثمة قصةٍ عن أبو رِجل مسلوخة، الذي لم ير أحد قط ساقه التي سُلّخت، ولا يعلم أحد على وجه الدقة أين يسكن، لكن هيئته المتخيلة كانت كافية لإثارة الذعر في قلوب الأطفال، حتى استحال أيقونة ارتبط بها إرث الخوف في الوعي الجمعي.

وفي الفيلم التسجيلي من القاهرة، هناك ثلاثة نساء، لا تربطهن فقط الحياة في العاصمة بتفاصيلها المعقدة، ولكن الخوف يجمعهن، تواجه كل واحدة منهن نسختها من "أبو رجل مسلوخة"، غير أنهن على العكس ينظرن في عينيه من دون خوف.

في ندوة سابقة، أقيمت بعد العرض العالمي الأول للفيلم، قالت هلال جلال، إنها "حين بدأت في الاستماع لقصص أبطالها، كانت كل واحدة منهنّ تمثل لها شجاعةٍ ما (...) شعرتُ أنه يمكنني الاختباء خلفهنّ لبعض الوقت".

قاهرة الخوف والحب

تفتتح هالة جلال فيلمها ببيان عن الخوف، تقول بصوتها "بخاف من الزحمة/ بخاف من المرتفعات/ بخاف من الأماكن الضيقة/ بخاف من التواصل مع الناس/ بخاف من السرعة في السواقة/ بخاف من السواقة نفسها"، قبل أن تظهر على الشاشة كامرأة تحاول النظر للعالم وتعيد ترتيب فسيفسائه عبر صناعة الأفلام، وبينما تخوض ذلك، تواجه عتمتها الشخصية ومخاوفها الممتدة.

يُضفر نسيج من القاهرة، متقاطعًا حول حكايات آية وهبة بالإضافة إلى مخرجته وكاتبته هالة جلال، يعشن الثلاث في القاهرة، وتعمل آية مونتيرة، وأما هبة ففنانة تشكيلية وأم لورد التي تظهر بين الحين والآخر لتمنح النسيج القصصي في بعض منعطفاته خفة طفولية مُحببة للقلب.

مع تتابع قصص النساء وتشابكها في الفيلم، قد نظنُ أننا بصدد القفز سريعًا في جوف حكايات تستعرض الشجاعة والبطولة، خاصة في زمننا الحالي الذي تضطرب فيه الرؤية حول ما تعنيه كلمتي "البطلة" أو "المناضلة"، اللتان تحولتا إلى ترند ما يلبث يظهر حتى يبتلعه الإيقاع السريع، لكن الفيلم يضعنا أمام نسوّة من لحم ودم يملكن أحلامًا تتراوح ما بين التحقق الإبداعي والسير في الشارع بأمان وبأقل قدرٍ من التفاوض حول إعلان الوجود.

برومو الفيلم


يأخذ الفيلم مشاهده ليرى عبر عيون النساء وحيواتهنّ، أن الخوف ليس مقابله الشجاعة وإنما الحب، فهبة تتحدث عن أن خوفها الأعظم من الأمومة كان جسرها للعبور لتكشُف معنى الحب، حين يتجسد رائقًا خارجها في جسد فتاة تلتصق بها، ويشاكسها في المساحة الضيقة التي تجمعهما، لكنه يمنحها مساحة أرحب بداخلها تستطيع أن تصل من خلالها لمعناه في داخلها، الحب الذي يأتيها واضحًا غير مرتبكًا أو خائفًا من الخارج، فتمهد له الطريق لتحب نفسها. تظل ترن في أذني عبارتها "حبيت ورد حُب، اللي فاض منه خلاني أحب نفسي".

أما آية فتجد الحب أيضًا في ممارسة رياضة الديربي التي لم تألفها العين المصرية من قبل، تنخرط بكافة حواسها وجسدها فيها، انخراط كافٍ بأن يُصمت ضجيج القاهرة في الخارج، لتنصت فقط لصوت التشجيع والمساندة الذي تتلقاه في الملعب، صوتًا يأتيها ليغمرها حتى تنسى كدمات زرقاء وخضراء تنتشر على ساقيها، تبتسم لاحتمالية أنه بتلك الندبات ستغادر قائمة الستات الحلوة "أم رجلين مألوظة". 

وتجده هالة، أيضًا، رغم افتتاحيتها الخائفة في بداية الفيلم، لكنه كلما تحركنا معها من قصة لأخرى، نطمئن إلى أن هناك عين تقبع خلف الكاميرا تحب ما تلتقط من تفاصيل في مدينة مكتظة بالتوحش كالقاهرة، وتظل تستمع لصوت موسيقى آتيًا من فونوغراف يبدو أنه يقبع في رأسها ويصاحبها أينما ذهبت.

استغرقت هالة جلال خمس سنوات لصناعة فيلمها، عاشت خلالهم داخل نصها وبطلاتها، تُعايش كيف تتطور أو تتحول حياتهن، في كل مرة يظهرن فيها على الشاشة، مؤمنة بأن ثمة وقت لاموعد له سيولد مع الفن وفق إيقاعه دون أن يعترضه أحد تحت ضغط خطة إنتاجية أو ضرورة اللهاث واللحاق بنهاية ما. ورغم أن البطلات الثلاث اللائي يقفن أمام الكاميرا وخلفها، عثرن على مفهومهن عن الحب الذي قهر فزّاعة أبو رجل مسلوخة في داخلهن، بقيت أتساءل ما علاقة كل ذلك بالقاهرة؟ فكل ما توصلت له بطلات العمل كان يمكن أن يحدث في مكان ما، أو في زمنٍ ما؟ وحين تمعنت في رغبتي للمعرفة، تكشف بداخلي سؤال ربما لم أجد إجابة له في ثنايا الفيلم نفسه، هو هل تصلح القاهرة كمدينة للحب؟ هل يمكن أن يولد الحب وينمو في مدينة تحمل كل ذلك القدر من التناقضات والتعقيدات؟

قاهرة النساء

يبدو الأمر مُغرقًا في الكليشيه أن نعد من القاهرة فيلمًا نسويًا، لأنه يروي قصصًا عن النساء، أو أن تكون كاتبته ومخرجته امرأة، لكن في حقيقة الأمر، أشعرُ، رغم نسويتي، أن هذا الفيلم لابد أن يُشاهد عبر منظور أكثر رحابة من سجنه في قالب النوع.

المخرجة هالة جلال خلال تصوير الفيلم.

من ناحية أخرى، استوقفني غياب الرجل في حكايات الفيلم، لا شريك يؤازر أو يساند بطلاته رحلتهن، لا وجود فاعل ومؤثر يمكن الإشارة إليه لدور حبيب/ صديق/ أب/ أخ أو أى من تلك الأدوار، التي يسعد الرجل بأدائها طوال الوقت، غاب ذلك بالكلية عن سيرورة الأحداث، وكان الظهور الأوحد للرجل كمتحرش من دون ملامح يغيب وسط طوفان من البشر والزحام.

لربما كانت الثيمة اللامرئية من الفيلم هي البحث عن الحب في مقابل الخوف، غاب الرجل ليس كشريك رومانسي في قصة حب وحسب، بل غاب كشريك موجود بالفعل، شريك مكان، شريك تجربة، وشريك في الخوف ذاته. ربما كانت له أيضًا ذكريات عن أبو رجل مسلوخة، لكنه غاب وحين حضر كان حضوره لا مرئي.

الحياة بقوة الدفع

تقول إحدى بطلات الفيلم "لماذا لا أرتدي أحدث صيحات موضة باريس، وأترجل في شوارع القاهرة بينما أزاحم في التوك توك أو المترو؟ ورغم ما يحمله السؤال من سخرية ومرارة، لكن جميع النساء اللواتي يعشن بالقاهرة يعلمن جيدًا صعوبة أن تجد إجابة سريعة للسؤال اليومي "ماذا سأرتدي اليوم؟" وليس من باب البحث عن الجمال كقيمة لا يمكن التخلي عنها، وإنما لأن الإجابة عن هذا السؤال المُغرق في بساطته يُذكرنا دومًا بقراراتنا التي تأتي في مقدمتها البحث عن الحماية والأمان كأولوية ثم يأتي بعدها كل شيء آخر، كالجمال على سبيل المثال.

تتعلم البطلات وفق مساراتهنّ المتعددة أولويات الحماية والأمان في الحيز العام، يتقاطعن في نقاط غليانٍ مُشتركة بين كافة النساء خارج الفيلم، تلك النقاط التي تذكرنا دومًا بالمساحات التي تضيق بنا في الحيز العام، وبالانتصارات الصغيرة اليومية التي تحققها النساء العاديات أيضًا، دون البحث عن بطولة شرفية، فالنساء في القاهرة، داخل الفيلم وخارجه، يعلمن جيدًا أن قصص وألقاب البطولة لن تصمد كثيرًا، وأنه بنهاية اليوم كل ما يهم أن تصل للبيت بأقل قدر ممكن من الخسارة، دون أن تلتصق على أجسادهنّ نظرات العنف والقسوة المُعبأة مجانًا في الهواء.

الخوف باقٍ فيما يبدو، وصعب أن يتم تجاوزه، لأن السياق الذي خلقه لا يسمح بفنائه بسهولة، وغالبًا ما يُقرنه بمخاوفٍ أخرى كثيرة، خوف الطفولة من أبو رجل مسلوخة ليس مجانيًا، هو خوفٌ نتجرعه منذ أن نسير في طريق الحياة ونصارعه فيما يتبقى منه، وحين تبدأ هالة جلال فيلمها بمانفيستو عن الخوف، فهي لا تختمه بآخر عن الشجاعة، ولكنها عندما صعدت منصة التتويج لتنال جائزة أفضل فيلم غير روائي، من مهرجان القاهرة الدولي في دورته الثالثة والأربعين، أمسكت المايك وقالت فقط "شكرًا" ثم هرولت عائدة إلى مقعدها بين صفوف الحاضرين، لأنها ربما ما زالت تخاف من الزحام، ولا يشعرها بالطمأنينة غير صوت الفونوغراف الذي تنبعث منه موسيقى تسمعها وحدها، وتجعلها ترى كل ما في القاهرة، كما تود أن تراه في محاولتها لدفع الحياة للأمام بطريقةٍ ما.