الأحد، 26 ديسمبر 2021

عُلا أبو الشلاشل ...عن هذا الغضب الجميل الذي غادرنا سريعًا !

عُلا أبو الشلاشل....عن هذا الغضب الجميل الذي غادرنا سريعًا !

مقالة توثيق لتاريخ معاصر لنسويات مصريّات تركضن مع الذئاب.

المقالة منشورة على موقع شريكة ولكن، وهو موقع معني بقضايا النساء في لبنان، العالم العربي، ومنطقة شمال أفريقيا.


صورة عُلا أبو الشلاشل- صورة أرشيفية- ويكي الجندر


في المقالة السابقة من استكشاف تجارب وحيوات لنساءٍ حولنا ينتمين لقبيلة معاصرة من نساء "يركضن مع الذئاب"، ألهمتنا تجربة غادة عبد العال وتقاطعها بكل عنادٍ مع فيض الحياة الحالي. أما في المقالة الحالية، فنتتبع وجه مصري آخر، قادني إليه تتبعي لخريطة الغضب بداخلي، ولم أكن أعرف ما الذي سألتقيه في محاولتي لكرّ الخيط، غير أني التقيت "عُلا أبو الشلاشل".

من هى علا أبو الشلاشل؟ وما هى نقاطها وخطوطها التي منحتني اتساعًا في الرؤية وتعريف الغضب على الرغم من بعد الشُقة بيننا، ما الذي يعنيه الغضب النسوي؟ ولماذا نحن بحاجة أن ندون عن قبيلتنا المعاصرة وبخاصة في العشر سنوات الأخيرة؟

 

 هل النساء- إجمالًا- غاضبات؟ أين يذهبنّ بكل هذا الغضب؟

ثمة فرضية أن كونك امرأة وتعيشين في الشرق الأدنى، فذلك يعني أنك غاضبة بعض الوقت، وإذا ما تفتح وعيك النسوي، فستصبحين غاضبة كل الوقت. تطل علينا الصورة النمطية عن النسويات كونهن غاضبات هستيريات، يصرخن بينما يتقدمن في مسيرة للمطالبة بالحقوق المنتهكة. ذلك أفهمه في سياقه، فالمسيرات ونضال الشارع يتطلب الصراخ. كما أفهم ايضًا أن الصراخ في حد ذاته عنصر مكون من الثقافة العربية، نحن نستخدم الصوت باعتباره أداة للقوة والسيطرة واحتلال الهواء وفرض الرأى وإخراس الآخر إن تطلب الأمر، هذا إرثنا المشترك الذي نود أن ننسلخ عنه بكل طريقة ممكنة.

أتذكر تلك الصديقة التي تقاطع مسارها معي في بلد بعيد، وأخبرتني بحيلتها كيلا يتملك منها الجنون بالكليّة، "فلتذهبي إلى حفلة لمطرب/ة ما انصهري مع الجماهير ثم أطلقي العنان لأحبالك الصوتية، اصرخي قدر المستطاع، لن ينهرك أحد، لن يخبرك أحد أن صوتك مرتفع أكثر مما ينبغي، لن يتم إلقاء القبض عليك لأن صوتك "نشازّا" بين الجموع المُباركة حولك لكل ما تكرهين وتعلمين جيدًا في أعماقك أنك تكرهينه بالكلية. كانت حيلة الصديقة من البلد البعيد منطقية وتتراصف مع الرغبة في التماهي والاختباء والتنفيس في ذات الوقت، فالنساء حتى في غضبهنّ عليهنّ البقاء ضمن ما هو مسموح ومرضي عنه ومتفق عليه، ألا يتوحشن، ألا يخرق الصوت أذن أى نوعٍ من السلطة المرهفة التي تود إبقاء كل شىء على ما هو عليه حتى يرث الله الأرض وما عليها. ولكن كيف يمكن أن نكون نسويات وغاضبات في واقعنا اليومي حين لاساحة، لامسرحٍ ، لا شارع للتنفيس عن كل هذا الغضب الذي يتكتل في عظامنا!

أكره التأطير الضيق لفعل الغضب كسُبّة للنسويات، فهناك فرق هائل بين الغضب والعدائية، أما الأول فهو مشاعر انسانية يمكنها أن تكون بوصلة لكى نتصل بذواتنا التي تخبرنا أن فورة الغضب تعني ان في تلك اللحظة المفعمة بالتأجج ثمة شىء ما تمّ انتهاكه، هنا الغضب يأتي حماية وإرشاد لكى نعدّل المسار نحو ما يعيد إلينا الاتزان وضرورة إعادة ترسيم الحدود لما نرفض تمريره أو الموافقة عليه.أما الكراهية والعدائية هى رغبة تدميرية في سحق الآخر، ووجود تلك الرغبة وعدم الوعى بها يعني التماهي مع نفسية القاهر، يصبح الفرد مثل الشخص الذي أساء إليه، إذا ما امتلك السلطة يتحول بها مباشرة نحو "النسخة الهشة منه" هنا تصبح قوة الغضب إكراه وعدائية وتدمير، لأنها تتحول لسوطٍ ضمن عدّة القوة فيبطش ويفتك بمن لا يمتلك نفس الأداة/ الحق في النديّة أو كفّ الأذى. فأين تذهب النساء بكل هذا الغضب إذن؟ اتعثر بنساء حولي يحولن الغضب إلى ممارسة تأملية وفق الثقافة البوذية التي تتسلل إلى المجتمع المخملي المعاصر منذ عدة سنوات، اعترف أني أتورط بها بعض الوقت، لا بأس فهى تمنحني لقدرة التي احتاجها لتأمل لالم بداخلي دون أن أتورط فيما يحدث في العالم لذي يفوق قدرتي على التغيير. أتعثر بدعوات مستمرة للنساء أن يقمن "يتحزموا ويرقصوا". أردد بيني وبين نفسي "طيب حاضر" بينما صوت ساخر بداخلي يعلو "ما بكفاية بهجة وبهججة واصطناع سعادة وإيجابية سامة مش في محلها" غير أني اخمده بكثيرٍ من الرفق والرحمة، فبت أكثر اتساقًا مع أن البعض يحتاج إلى فقاعة وهم من حين لآخر، ولا بأس أيضًا.

بينما أتتبع خريطة الغضب بداخلي ومحاولات تعتيقها ، وقع في يدي كتاب لفنانة بصرية  مصرية نبتت روحها من ثورة يناير لم أعرفها من قبل غير أن الصفحة الأولى جعلتني أشعر أن وجدت شيئًا يستحق التوقف. الجملة الأولى في الكتاب تخبر القارئ/ة :

"هذا كتاب أنتجته في أحد لحظات غضبي الكبرى".[1]

ثم يتوالى الكتاب على لسان صاحبته "علا أبو الشلاشل" بقولها:

"في وقتٍ ما في 2014، في وسط نوبة غضب حادة لقيت معايا كراسة وماركر أسود للتنفيس عن الغضب، بدأت أرسم نقط وخطوط جنب بعضها. بعدها بدأت أتخيل الغضب وأرسمه. الكراسة اتحولت لمذكرات مرسومة، وثقت 3 شهور ونص. الكراسة رسمت لنفسها بداية ونهاية، يوم ما دخلت حياتي ويوم ما خلصت صفحاتها."

نقاط وخطوط- مذكرات مرسومة- عُلا أبو الشلاشل 2014

 

أعادت تلك المقدمة إلى ذاكرتي كتاب "حين يتملكها الغضب" الكتاب الحائز على لقب "أفضل كتاب لعام 2018" من قبل الواشنطن بوست، فاست كومباني، سيكولوجي توداي للكاتبة  والناشطة النسوية الأمريكية "ثريا شيمالي".  وبخاصة في بحثها الهام حول علاقة مشاعر الغضب لدى النساء وقدرتهنّ على الإبداع، بقولها: "هناك اعتقاد خاطئ أن الغضب يجب أن يتحول لفعل تدمير وخراب وعنف، في حقيقة الأمر أن مثل هذا التعريف الضيق يمكننا أن نراه يأتي بوضوح من مُخيلة ذكورية تبحث عن العراك المستمر. أما ما يحدث في عالم النساء فهو أن غضبهنّ يتحول إلى طاقة هائلة للإبداع والتي تفصح عن نفسها في قدرة النساء المبدعات على توليد الفن بكافة أشكاله، وليس ذلك فحسب بل بناء مجتمعات تشاركية."[2]

هل كانت "عُلا" تعتق الغضب وتغزله أيضًا عبر فنها وحياتها؟ كيف؟

عُلا: من الغضب الشخصي- إلى العام، من العام إلى الشخصي.

أخبرت عُلا عن ولادتها لنفسها تراصفًا مع ثورة يناير 2011، بقولها:

"يوم 31 يناير، ابتديت ساعتها يجي لي أحلام بتاعة اللي هو طب أنا على مستوايا الشخصي، التغيير دا ممكن يؤثر عليّ أنا إزاي؟ إيه الحاجات اللي هتتغير اللي ممكن تؤثر عليّ أنا؟ يعني ممكن مثلا أمشي في الشارع من غير تحرشات طول الوقت مثلا؟ دا تغيير.

ممكن مثلا إجراءات القسم تبقى أرحم؟

ممكن أعمل بطاقة من غير أبقى مقلّقة 7000 مرة ونازلة والموضوع تقيل جدا على قلبي؟

لو، ما أعرفش يعني، كل الحاجات اللي لها علاقة بحياتي اليومية والمجتمع والحكومة ابتدت تنط كدا شوية في راسي. فابتديت اللي هو طب ما هي دي حياتي.

بس ساعتها كان برضه مش منطقي بالنسبة لي إن ما أبقاش جزء من الناس اللي بتغير حاجات هتؤثر عليّ أنا في الآخر.

فلو أنا عايزة أكون موجودة، فأنا لازم أكون موجودة فعليا مش موجودة باللي هو، آه أنا معاكو تمام، انزلوا انتو بقى".[3]


ظهر وجود عُلا في المجال العام بانخراطها كفاعلة وشريكة في عدد من المبادرات المجتمعية التي شكلت عمق الوعى النسوي في العشر سنوات الأخيرة وفترة الفوران الثوري على وجه الدقة، فشاركت كفنانة بصرية ومؤدية وعملت كمصممة جرافيك، ومصممة مواقع ورسامة ومحررة ومترجمة وممثلة وحكّاءة. تطوعت في مشروع جرافيتي نسوي في القاهرة في عام ٢٠١٢: طرح المشروع تساؤلات عن مدى ظهور كلمة "نسوية" وحاول أن ينقل تلك التساؤلات للفضاء العام. عملت "عُلا" مع نظرة للدراسات النسوية، إختيار للدراسات الجندرية، ويكي جندر و مشروع بصي.  أعادت تقديم غضبها ووعيها النسوي المتدفق من خلال فن المسرح، من خلال مشاركتها كممثلة وحكّاءة وحكاية ضمن مشروع "بُصّي" وهو مشروع فني يهدف إلى خلق مساحة حرة للسيدات والرجال في مصر لحكى التجارب الشخصية المسكوت عنها في المجتمع، تقوم بصى منذ 2006 بتوثيق وعرض القصص الحقيقية في شكل عروض مسرحية، في مجتمعات مختلفة فى مصر. لم تكتف "عُلا" بكونها مؤدية وحكّاءة، بل اختارت أن تؤسس لحكاية إبداعية أخرى عن طريق إطلاق وتأسيس مِشبّك، وهي منصة إبداعية محلية لربط وتشبيك جميع الفنانين/ات المصريين/ات عبر مساحة افتراضية للوصول بسهولة ويسر لكل ما يلزم لإتمام أعمالهم/نّ الفنية، انتزعت تلك الحكاية فوزًا مستحقًا عام 2012 بحصولها على جائزة القاهرة للتحول الثقافي[4] ولا زالت فاعلة حتى الآن. شاركت في توثيق الانتهاكات الجنسية التي تعرضت لها النساء في المسيرات أثناء ثورة يناير 2011 من خلال عرض "على الثورة أن تكون نسويّة"، والذي عُرِض في عام 2016 ما بين القاهرة والسويد.

بالرغم من عدم تقاطعي معها في الحياة، إلا ان مثل تلك الروح المُغامرة الحرّة الجريئة الراكضة رغم أنف الذئاب والحياة بمنعطفاتها، تستطيع دومًا أن تُحلّق عبر كل الضفاف، وكيف لا وهي التي أخبرتنا عبر واحدة من رسوماتها، ألا نتوقف عن الغضب والإبداع في آنٍ واحد، ورؤية أن هناك إمكانية لحكاية أخرى بأعينٍ ترى مالايُرى!

رسم أرشيفي- علا أبو الشلاشل – إنكتوبر 2016

 

في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي حلّت الذكرى الرابعة لرحيل الفنانة البصرية المصرية والناشطة النسوية "علا أبو الشلاشل". لم تحتفي بها جوجل، ولا وسائل التواصل الاجتماعي، لربما كان الأمر مقصورًا على دائرة ضيقة من الأصدقاء/ ات وشركاء/ات العمل المُلهم خلال رحلتها التي غادرتنا سريعًا. لابأس، لدىّ كتاب "نقاط وخطوط"، وفي في التاسع والعشرين من الشهر الحالي، سيحل يوم مولدها. فلنعيد تأريخ ذاكرتنا النسوية الجمعية لكيلا تتحول لطقوسٍ جنائزية، فلنحتفل بكل الملهمات في يوم مولدهنّ، فلنعبر إليهنّ بكل تجربتهنّ في تذوق الحياة ومحاولتهنّ لترويض الغضب بداخلهنّ. فليتحول التاسع والعشرين من أكتوبر احتفالًا بكل ما خلّفته "عُلا أبو الشلاشل" التي يبدو أنها نجحت في تعتيق كل هذا الغضب في فنٍ جميل وبكل طريقة ممكنة لعالمٍ أرحب خارجها، وأن قدميها أينما حلّت أنبتت حياة.

 

علا أبو الشلاشل- سلام وروح وريحان- صورة أرشيفية من مجموعة مشبك



[1]  أبو الشلاشل. عُلا. (2014). نقاط وخطوط- مذكرات مرسومة. متاح على الرابط: https://genderiyya.xyz/r/2/2d/%D9%86%D9%82%D8%B7_%D9%88%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%B7_-_%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA_%D9%85%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%85%D8%A9.pdf

تمّ زيارة الرابط بتاريخ: 10 أكتوبر 2021.

[2] Cain. Abigail quoting Chemaly, S. (2018). How rage can lead to creative breakthroughs. Available at: https://www.artsy.net/article/artsy-editorial-rage-lead-creative-breakthroughs

Retrieved on 10th Oct., 2021.

[3]  بودكاست مقابلة مع عُلا أبو الشلاشل: المرأة الذاكرة. (2015). متاح على الرابط: https://audioboom.com/posts/3544251-. تمّت زيارة الموقع بتاريخ 10 أكتوبر 2021.

[4] مشروع نسوية. بيوغرافيا. متاح على الرابط: http://www.womanhood-egyptian-kaleidoscope.com/biographies. تمّ زيارة الموقع في 10 أكتوبر 2021.


الجمعة، 10 ديسمبر 2021

تُفاحتا آدم- قصيدة

 تُفاحتا آدم

قصيدة منشورة بجريدة أخبار الأدب، الصادرة عن الهيئة المصريّة العامة للكتاب بجمهورية مصر العربية.

عدد رقم 1481 


تُفاحتا آدم

أخبرنا المعلمُ أنَّ آدم لم يبتلع التفاحةَ كاملةً  

بَقيت خطيئتُه مُعلقةً في عُنقه

ولا سبيل للمغفرةِ على ما ارتكب!

هممتُ بالسؤالِ: هل تشعرُ التُفاحةُ القابعةُ في عنقِ آدم منذ بِدءِ الخليقةِ بالملل؟

يومًا ما سيبتلع آدم ريقًا كاملًا

يتجرعُ عصيرًا طازجًا من حباّت العُنب

لربما لَفظَ التفاحةَ خارجَه أو دفعها دفعًا لتستقر في أعماقه ولا تشي به مجددًا

بَقى آدمُ مُعلقًا من عنقه بخطيئته

وبَقيت الدهشةُ مُعلقةً في رأسي للأبد.

 

حين تكوَّر ثدياي ذات صباح

ظننتُ أنّي ابتلعتُ الليلةَ الفائتةَ مع كوب الحليب تفاحتين لا واحدة!

بكيتُ كثيرًا حين تأملتُ عُنقِي أخواي، تستقرُ التفاحةُ في منتصف العُنق تمامًا

بينما تفاحتا آدم لديَّ ضلَّتا الطريق.

 

في البدء حشرتهما حشرًا في رداءٍ قطنيٍّ كيلا يشيان بخطيئةٍ مُحتملة

كطفلين وُلدا للتوِّ لم يَكفَّا عن الصراخ إعلانًا للجوع

حين لاحظ الجميع تكورهما بالرُّغم من محاولاتِ الإخفاءِ المضنية

أخبرتني أمي حينئذ أنَّي ما عدتُ أنتمي إلى عالم أخواي

لم أعرف أحدٌ في عالمي سوى أخواي، 

ولدين يكبرانني بعدة سنوات ولدينا خطايا سريةٌ مشتركة.

 

أقفُ بمُفردي في عالمٍ أجهلُه بالكُليّة

غير أن أمي طمأنتني أنه مٌترعٌ بالدماء.

 

نَبَتَت أسفلَ أظافري كراهية

وددتُ لو أستطيع زحزحتهما قليلًا ليعودا للعنق 

فأعودُ لعالمي الوحيد الذي أعرفُه.

 

في مُربعٍ ضيقٍ يقفُ كلاهما ينظرُ للآخر بطَرَف عينه 

محاولاتٌ متتالية لإسكاتِ مخاوفَ ستُطِلُّ برأسها لامحالة

ينهمكان في تَفحُصِ أرضيَّة المصعد المُعلَّقِ بين عالمين

تقتربُ منه خُطوةً واحدة

تَكشفُ عن عُنقه

تُقبلُه في المنتصف تمامًا

تومضُ ذاكرتُها بعالمٍ صبيانيٍّ مُحبب، ودَّعته بقُبُلاتٍ

تنثرُ فوق رأسه تُرابًا يمنحُه طقوسَ قوةٍ عابرة

يُخبرُها أنه أحبها منذُ أزمنة.

 

يصلُ المصعد

يتحسسُ كلاهما السير في حديقة أنبتت للتوّ

تبتلعهما الأغصان الباسقة

تضغط على يده بخوفٍ طفوليٍّ قديم

يمنحُها وعدًا بألَّا يتيها مجددًا في عوالمَ لا ينتميان لها

يُقسمُ بالقُبلة المختومة بعنقه بالبقاء

تبتسمُ وهى ترى خطيئته تتجسد ثانية

رأت قبل أن يرى

الحديقةُ، لا تتسع

تُفلتُ يده

تركضُ خلف تفاحتين سقطتا للتوّ.

****

اللوحة المصاحبة للفنان المصري جميل شفيق


الأحد، 5 ديسمبر 2021

لا تحدق في عينيّ جريح- قصيدة

 لا تحدق في عينيّ جريح

قصيدة منشورة في مجلة أوكسجين

العدد 268


تحذرنا أسطورةٌ هندية قديمة من النظر في عيني غزال جريح!

يُقال إن الطريدة لا تغمض عينيها، بل تحدق طويلاً في عيني قاتلها.

المقلتان المتحجرتان تلتقطان انعكاس الخوف ثم تعتقه بأناة.

تحذرنا الأسطورة من النظر طويلًا في عيني من يحتضر،

سنرثُ عنه سره القديم،

وندبته التي أخفاها بحذق

ستلتصق كجُرح سكين أسفل العين اليمنى، كوصمة أبدية.

سيعرفها القليل من العابرين

الحاملين لندبة ورثوها للتوّ

جراء التحديق في عيني جريح.

الأسطورة الهندية تخبرنا ألا نطيل النظر في عيني غزالٍ يحتضر،

ستبتلعنا الشفقة، سنرتدُ إلى عوالم أثيرية لن نعود منها سالمين،

سنبدو كمن ابتلع للتو لحظة رعب رجلٍ آخر

يقف أمام غزال يحتضر

تقطر الدماء من كلتا يديه

مخفياً هلعه من أن يدنو منه

 ويأكله نيئاً.

 

في المساء

يجلس أمام المدفأة

يبكي طويلاً جراء فعلته

وهو يعلم أن الخوف سيتسرب من سرته

ويهوي عليه بقبضته المؤجلة

.............

وكلما غادر مقعده الدافئ

خلّف وراءه بقعة دم

وغزالاً لم يُغمض عينيه.

 

*****

الصورة من كتاب "عند منعطف النهر" للفنان والشاعر السوري إسماعيل الرفاعي، والصادر أخيراً عن "الميادين للنشر".



الاثنين، 8 نوفمبر 2021

التخفي والإخفاء القسري للنساء في الأدب: الكاتبات يكتبن من غرفتين لاواحدة.

 مقالة نقد أدبي وثقافي منشورة على موقع جيم

تاريخ النشر 8 نوفمبر 2021

عدد الكلمات:  1444

موقع "جيم"موقع يهتم بالإنتاج المعرفي والنقدي والثقافي في شؤون الجندر والجنس والجنسانية خارج عن الخطاب السائد لوسائل الإعلام المهيمنة.

المقالة هى الثانية في سلسلة "الأدب النسوي: أداة إبداعٍ، مقاومة، وتحرر".

يمكن قراءة المقالة الأولى من هنا.

*******

التخفي والإخفاء القسري للنساء في الأدب: الكاتبات يكتبن من غرفتين لا واحدة.

الصورة من تصميم فريق جيم

زووم إن

في إحدى مساءات عام 2013، وصلَتني رسالةٌ من مُحرّر الجريدة الشهيرة مفادها أن مقالتي الأولى ستظهر في عدد اليوم التالي. فركتُ عينيّ وقرأتُ الإيميل مراتٍ عدة. لم أنَم ليلتها، وحين أشرقَت الشمس ركضتُ في الشارع الذي لم يكن اكتظّ بعد بعوادم السيارات والهياكل البشرية. وصلتُ إلى "فرشة الجرائد" (أي المفروشة على الرصيف) ووقفتُ ثابتةً لبرهةٍ كمَن تنتظر لحظة التتويج، "إنتي ريهام عزيز اللي مقالتها موجودة في ملحق ضربة شمس!" استفقتُ سريعًا على ابتسامة النصر القريب تعتلي وجهي. لكن… لم يتعرّف عليّ البائع! تبخّر حلم التحقّق قبل أن يُولد. في طريق العودة إلى البيت، واجهتُ نفسي بالحقيقة التي كنت أراوغها. كان قراري بنشر ما أكتبه سيؤجّج غضب العائلة، أوّلًا لأني أصررتُ على إرسال صورتي المُرفقة بالمقالة من دون غطاء الرأس، وثانيًا لأني أكتُب، ما يعني "إضاعة الوقت" في مهنةٍ ضبابيةٍ تُعطل المسار الواضح المُتوقع منّي إما زوجةً لأحدهم أو أستاذةً جامعية. كما أن تاريخ العائلة لا يضمّ ولو شخصًا واحدًا انطلق في المسار عينه، فلماذا أجرؤ على فعل ما لا يحمل مرجعيةً تليق بتقاليد العائلة التي تضرب جذورها في الصّعيد؟

في السنوات الأولى التي خُضت فيها مغامرة الكتابة، لم أكن أنشر باسمي الحقيقيّ، بل راوغتُ عبر التخفّي وراء اسم "ريهام مهدي" لأمنح التجربة مساحةً آمنةً كي تنمو بعيدًا عن تشويش الغضب القادم من كلّ حدبٍ وصوب.

منحني عام 2017 منعطفًا وتجذيرًا، قدّمتُ نفسي بعلانيةٍ مطلقةٍ مُخلّفةً ورائي كثيرًا من المرارة ومحاولات الكرّ والفرّ. مضيتُ أتساءل: هل شهد تاريخ الكتابة والإبداع لدى النساء عبر الأزمنة رغبةً في إخفاء هوياتهنّ؟ لماذا فعلنَ ذلك؟ هل كان إخفاءً قسريًا أم اختفاءً مؤقتًا ضروريًا كي تنضج التجربة؟ أم كان شيئًا آخر؟ 

زووم آوت

شهد التاريخ العديد من الأديبات اللّاتي كنّ يُخفين هويّاتهنّ ويكتبن بأسماءٍ مُستعارةٍ رجالية، أشهرنّ الكاتبة الفرنسية آمانتين لوسيل أورور دوبين (Amantine Lucile Aurore Dupin) التي عُرِفت باسم "جورج ساند" (George Sand). لجأت آمانتين لدينامية الإخفاء تلك كي تنتزع لأدبها الاحترام الذي لم يكن يُمنح سوى للأدباء الذكور في تلك الحقبة الزمنية. لم تقتصر تلك المراوغة على الكتابة الأدبية فحسب، بل ارتدَت آمانتين ملابس وُصفت بأنها رجاليةً في زمنها، وعُرف عنها تدخين السيجار الكبير على الملأ، مُحطمةً بذلك الصورة النمطيّة عن المرأة الكاتبة التي يجب أن تكون حالمةً ورقيقةً ورومانسيّة.

تقول آمانتين إنّ "ارتداء الملابس الرجالية منحها راحة وحرية في التحرك في أماكن لم يكن مسموحًا للنساء ولوجها"،1 لكن هذا الخيار وضعها تحت مقصلة الوصم والتحقير، إذ ربط النقاد بين شكلها وطريقتها في تقديم نفسها أمام المجتمع من جهة، وموهبتها الأدبيّة من جهةٍ أخرى، واصفين ما تكتبه بـ"التخريبيّ". وحتى حين حاول بعض الأدباء إنصاف كتاباتها، ظلّوا يعلّقون على شكلها وهويّتها الجندريّة، كما فعل الأديب الفرنسي فيكتور هوجو الذي قال "جورج ساند فكرة، تبوأت مكانها الاستثنائي في وقتها. لدينا رجالٌ عظماء، وهي امرأةٌ عظيمة. ولكني لا أعرف على وجه الدقة هل أخاطبها بأخي أم أختي!".2

أما الروائيّة البريطانية ماري آن إيفانز (Mary Ann Evans) التي عُرفت باسم "جورج إليوت" (George Elliot)، فحياتها تصلح لأن تكون رواية مُشوّقة في حدّ ذاتها؛ بدءًا بالشائعات التي تحدّثت عن كتابتها مقالاتٍ لصاحب دار النشر "تشابمان" لمدة ثلاث سنوات، ووصولًا إلى اختيارها إصدار روايتها الأولى باسم "جورج"، الرجل الذي ربطتها به علاقةٌ عاطفيةٌ لما يزيد عن عشرين عامًا، وظلت تجلب لها الوصم والنبذ في المجتمع الفيكتوريّ شديد المحافظة حتّى بعد وفاته، لمجرّد أنه كان متزوجًا.

يشير كثيرٌ من النقاد إلى أنّ استبدال اسم الكاتبة ماري آن إيفانز على غلاف روايتها باسم رجل، كان هدفه منح القرّاء والقارئات فرصةً لاستكشاف الرواية بعيدًا عن الرأي السائد بأنّ الكاتبات النساء لا يكتبن سوى رواياتٍ رومانسية. لكن بعد أن لاقت الرواية رواجًا أدبيًا مُلفتًا واكتُشفت هويّة كاتبتها، بات مستحيلًا الفصل بين حياتها الشخصية وما تكتبه، فظلّت الأعين تلاحقها بسبب علاقتها بالفيلسوف جورج لويس، ولاحقًا بسبب زواجها بشابٍ يصغرها سنًا. 

يمكن القول إنّ الأديبات في القرن التاسع عشر تحديدًا سُحقن في صراعٍ مع ذواتهنّ ومع المجتمع لإخفاء هويّاتهنّ باستخدام أسماءٍ رجالية، وهو صراعٌ يتغلغل في نسيج النساء كما وصفَت الأديبة فيرجينيا وولف (Virginia Woolf) ويؤجّج رغبتهنّ في "حجب أنفسهنّ امتدادًا لإرث العفّة الذي لا يزال يتملكهنّ".3 

يُحسب للمبدعات العربيات أنهنّ - وإن حجَبن هوياتهنّ أحيانًا - لم يستبدلنها بأسماء رجال، فالمصرية زينب فواز نشرت روايتها الأولى باسم "فتاة مصرية"، لكنها في الطبعة الثانية أفصحَت عن هويتها. أما ألِيس بطرس،  فكانت أول امرأةٍ تنشر قصّةً قصيرةً عام 1891 باسم "صائبة". من جهتها، نشرَت الأديبة اللبنانية ميّ زيادة بأسماء مستعارةٍ عديدة، نذكر منها "عائدة" و"إيزيس كوبيا"، وكانت أوّل امرأةٍ تكتب في جريدة الأهرام المصرية. أمّا الكاتبة المصرية عائشة عبد الرحمن التي لم تعتد أسرتُها المحافظة انخراط النساء في العمل الثقافي، فكانت تنشر باسم "بنت الشاطئ" في إشارةٍ إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل. وكانت الحقوقيّة والأديبة مقبولة الشلق أوّل امرأةٍ سوريةٍ تحوز إجازةً في الحقوق، كما كانت تنشر قصصَها ومقالاتها باسم "فتاة قاسيون".4

وإن اختارت الأديبات الأوليات إخفاء هوياتهنّ لدوافع مختلفة، فقد برزَت لاحقًا حيلةٌ خبيثةٌ بثّت سمومها ضدّ الإنتاج الأدبي النسائي وكانت أشبه بالإخفاء القسري عبر التشكيك بحقيقة أنهنّ كتبنَ أعمالهنّ بأنفسهنّ، لاسيما إذا ما حقّقت أعمال الكاتبة نجاحًا ملحوظًا. ونسوق مثالًا على ذلك قضية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي وثلاثيّتها "ذاكرة الجسد" (1993)، و"فوضى الحواسّ" (1997)، و"عابر سرير" (2003)؛ إذ أُشيع بأنّ الشاعر نزار قبّاني - صديقها المقرَّب آنذاك - كان قد كتبها.5

أما مسيرة الأديبة المصرية أليفة رفعت، فشهدَت دينامية حجبٍ مختلفة، إذ قلّما تجدين أعمالها متاحةً للقراءة، كما اقترن اسمها بوصف "المثيرة للجدل" ليزيد من تجاهل النقّاد لإنتاجها الإبداعي في مجال القصة القصيرة. وفي محاولتي لمعرفة المزيد عن حياتها، لم أجد سوى مقالة وحيدة للكاتبة صافيناز كاظم بعنوان "الأديبة التي فرّت إلى الله".6 ذكّرني العنوان بموجة تحجيب واحتجاب الفنانات المصريات في منتصف الثمانينات. لم أفهم يومًا كيف يُمكن للبعض اعتبار الفنّ أو الأدب خطيئةً تستوجب التوبة إلى الله! 

في المشهد الأدبي المعاصر، طوّعت الأديبات الغربيات الإخفاء كاختيارٍ حرٍ لا كقيد، إما حفاظًا على خصوصيّاتهنّ الإبداعية كما فعلَت الإيطالية "إيلينا فيرانتي" لسنواتٍ طويلة، أو لمنح أنفسهنّ مزيدًا من التجريب واستكشاف المغامرة الأدبية كما فعلَت الكاتبة الشهيرة ج. ك. رولينج (J. K. Rowling) لمعرفة ما إذا كانت سلسلة "هاري بوتر" (Harry Potter) ستلاقي ترحيبًا لدى القرّاء الذكور، كما اخترعَت اسم "روبرت غالبريث" (Robert Galbraith) لتكتب رواياتٍ خياليةً عن الجرائم.

عند التفكير في الحيَل التي كانت تلجأ إليها الأديباتُ لولوج عالم الأدب المُحتكر من قبل الذكور، ندرك حجم التحدّيات والمسارات الشاقّة التي يتوجّب على النساء اجتيازها في كلّ مرّةٍ يُقرّرن فيها الخروج من الصندوق والقطع مع السائد والمألوف. وعلى الرغم من أن اللحظة الآنية ما عادت تفرض كل تقنيّات المراوغة تلك، أعتقد أنّ ثمة خيطٌ رفيعٌ ما زال يربط الحاضر بالماضي، فحواه أنّ فعل الكتابة بالنسبة للنساء هو مغامرةٌ مضاعَفةٌ لأنها تبحث عن حماية الموهبة الأدبية من ناحية، وصون الحياة الشخصية من الانتهاك والتشويش والوصم من ناحيةٍ أخرى.

كنتُ أودّ أن أحسم موقفي فأقول كما قالت إحدى الأديبات العربيات - بيَقين العارفين - إنّ الأديبات النساء صرنَ يتبوّأن المكانة ذاتها مع الأدباء الرجال، ولا داعي على الإطلاق لنعرات الأدب النسوي وادّعاءات النضال، بحسب قولها! لكني لن أفعل، بل أتساءل: هل جرّب أحد الكُتاب أن يستكشف الكتابة والنشر تحت اسم امرأة؟ وأيّ مواضيع كان ليتناول؟ أم أننا سنكتفي فقط بالتهليل والمباركة في كل مرّةٍ "يحرّر" فيها الرجلُ المرأةَ بأدواته ولغته، ويتحدّث باسمها وعنها وإليها!

في واقع الأمر، حين تشرع المرأة الكاتبة في فعل تخليق الكتابة، تكون في داخل رأسها غرفتان: الأولى تجلس فيها بالقدر الكافي كي تحدّق بالصفحة البيضاء بينما تمنحها الشخوص والأفكار واللغة نسيجًا مترابطًا عمّا تود أن تكتب عنه بدقةٍ كاملة؛ والثانية تجلس فيها لتراقب العالم بينما تدور في ذهنها كل احتمالات الانتهاك الوشيكة التي سيتوجّب عليها أن تخطو فوقها بكلّ قوة. تلك القوة التي تأتي من اختيارها الواعي بأن تمنحها مغامرةُ الكتابة ما تتوق إليه من التحرّر الأعظم، ذاك التحرّر الذي وصفَته فيرجينيا وولف - بينما كانت تقبع في غرفةٍ تخصّها وحدها - قائلةً "أليسَ التحرّر الأعظم هو حرية التفكير في كل شيءٍ على حقيقته؟"؛ وأزيد: والإعلان عمّا نفكّر فيه بلا مواربة.


* هذا النص جزءٌ من سلسلة مقالات بعنوان "الأدب النسوي: أداة إبداعٍ ومقاومةٍ وتحرّر"، وهي عبارة عن مجموعة نصوصٍ تحمل إشاراتٍ للكشف والتبصّر في الذات الكاتبة لدى النساء وما يواجهن من تحدياتٍ من السلطة بأشكالها المُعلنة والمبطّنة. تُتضمّن كل مقالةٍ معارف متنوعةً من علم النفس المعرفي لاسيما علم نفس الإبداع، الأنثروبولوجيا اللغوية، الدراسات الثقافية، النظرية النقدية والتقاطعية النسويّة، مرفودةً بمُقارباتٍ من الثقافة العربية المعاصرة بُغية التعرّف إلى مفهوم البيئة الآمنة للنساء المبدعات، لاسيما في مجال الكتابة.

 

 

1. Patricia Thomson, "George Sand and English Reviewers: The First Twenty Years”, Modern Language Review, Vol. 67, No. (3): 501–516, July 1972, London: Modern Humanities Research Association. Available at:  https://www.jstor.org/stable/3726119. Retrieved on 2 November 2021.
2. Victor Hugo, The Saturday Review: Politics, Literature, Science and Art, London, Spottiswoode and Co., 1893, p. 77.
3. فيرجينيا وولف، "غرفة تخص المرء وحده"، ترجمة: عهد صبيحة، سوريا، دار نينوى، 2017، ص 68.
4. سها عرّاف، "بأسماء مستعارة: عن النساء والكتابة، مقالة أدب"، موقع فُسحَة، 2019.
5. سها عرّاف، نفس المرجع السابق.
6. صافيناز كاظم، "حكاية أديبة فرّت إلى الله"، مقالة ضمن كتاب "صنعة لطافة"، القاهرة، دار العين، 2007