الاثنين، 30 نوفمبر 2020

"أنسنة" التكنولوجيا

 مقالة منشور على موقع الأوان 

تاريخ النشر: 30 نوفمبر 2020

“الأوان” موقع فكريّ ثقافيّ انطلق منذ غرّة مارس 2007*، للتعرّف على المزيد عن الموقع بنهاية المقالة.

*****

"أنسنة" التكنولوجيا



في الثلاثين من شهر مايو المنصرم، أعلنت شركة مايكروسوفت العالمية  أنها "ستقوم باستبدال الصحفيين بالروبوتات"[i]. أوضح المسئولون عن اتخاذ مثل القرار، أن الشركة في ضوء رغبتها في إعادة تقييم الأرباح واستثمار القوى العاملة، ستتجه نحو استخدام أنظمة آلية تنتقي القصص والتقارير الإخبارية. تناول العديد من القرّاء والصحفيين الخبر بموجة من السخرية والتهكم. غير أن التوقف قليلصا عند هذا الخبر، يعيد إلى الأذهان تساؤلات مشروعة تتسارع حدتها في لحظتنا الآنية وما تحمله من تحديات لانهائية حول أين يبدأ عالم التكنولوجيا وأين ينتهي، متى تتقاطع عوالم الخيال والفانتازيا مع ما يطلق عليه عالم الواقع؟ في لحظتنا الآنية، وما أوجبته من ضرورة التباعد الاجتماعي، هل يمكن أن يجنح الخيال يومًا نحو أسوأ مخاوف البشر على الإطلاق أن تتم إزاحتهم بالكلية من الخارطة، وتحتل التكنولوجيا بأذرعتها العنكبوتية عالمًا كنّا نظن أننا نحل على قمة تراتبية الكائنات جمعاء!

نحن هنا لسنا بصدد كتابة رواية يتم تصنيفها كأحد صنوف أدب الفانتازيا والخيال العلمي، أو تحليل وتمحيص لسلسة من الأفلام السينمائية ذات النزعة الهوليودية حيث "الإنسان الآلي" أو "الروبوت" يمحو الجنس البشري من على وجه كوكب الأرض، أو تبشيرًا بعالم جديد لم يألفه الإنسان من قبل، حيث تتبدل به الأماكن في سردية متخيلة، ليصبح الإنسان "تابعًا" في الهامش بينما تتولى "الآلة" إدارة كل شىء. المقالة الحالية لا تعنى بتحقيق وثبة عالية نحو الهتاف بأن الإنسان يحمل تفردًا وتكريمًا واستحقاقًا فوق كافة الكائنات كما يخبرنا الإرث الديني بمختلف مشاربه، بقدر ما تُعنى باستكشاف الطريق نحو فهم ما الذي تجلبه التكنولوجيا إلى عالم الإنسان، وما الذي يحتاجه الإنسان من التكنولوجيا كيف يتداخل عالم الإنسان مع عالم التكنولوجيا، أين تكمن نقاط الالتقاء، وأين تظهر مناطق الخطر، ، ولربما قبل ذلك تطرح محاولة لفهم وتأطير معنى التكنولوجيا، ليس كخيال بعيد بل واقع لا يمكن تجاوزه أو إغفاله أو الهروب منه للخلف وإدعاء أن الحياة بدونها ستصبح أفضل. كما أنها لا تنتصر لجانبٍ على  آخر، فالانتصار يعني أن هناك صراع ومعركة طرفاها الإنسان والتكنولوجيا وأنهما خصمين يقفان وجهًا لوجه بينما يشهر أحدهما أسلحته في وجه الآخر.

لكى نعبر نحو هذا الفهم، سنبحر في التساؤلات التالية:

  • ما الذي تعنيه التكنولوجيا؟
  • إذا كان ما يميز الإنسان أنه كائن تاريخي، هل تمكن الإنسان الآلي أو “الروبوت” أن يحفر له تاريخًا؟ ما التقاطعية بين كلا التاريخين؟
  • كيف تبلور مصطلح “أنسنة التكنولوجيا”، وما المقصود بالروبوت الاجتماعي في اللحظة الآنية من القرن الحادي والعشرين؟
  • هل يمكن بالفعل أن تحل التكنولوجيا محل الإنسان، وأن ندلف – كمعلمين- الصف الدراسي ذات صباح فنرى أن هناك "روبوتًا" يقف أمام السبورة ويخبرنا أن نغادر فلا مكان لنا هنا!!

*****

التكنولوجيا: معنى، تاريخ موجز!

التقنية أو التكنولوجيا بالإنجليزية: (technology)  التكنولوجيا لغوياً، كلمة أعجمية ذات أصل يوناني، تتكوّن من مقطعين، كلمة” تكنو” والتي تعني حرفة أو مهارة أو فن، وكلمة "لوجي" التي تعني علم أو دراسة أو تطبيق. ليصاغ الكل في كلمة تكنولوجيا بمعنى علم الأداء أو علم التّطبيق، يرجع ولادة المفردة ذاتها مع الثورة الصناعية الثانية أى يضرب بجذوره لما يقرب من المئتى سنة.

غير أن "توني ديفيز" Tony Davis (1997( قدم تمييزًا بين التكنولوجيا البدائية والتكنولوجيا الحديثة بقوله: 

"هناك تكنولوجيا بدائية وهى الأدوات التي استخدمها الاإنسان منذ الخليقة لكى يُسيّر شئون حياته، أو بمعنى آخرالطرق والأدوات التي سعى من خلالها الإنسان وراء الحياة بطرق مختلفة عن الحياة وأدواتها الطبيعية. فاستخدام الإنسان الأول لجذع الشجرة باعتباره "أداة" استبدلها عن قصر ذراعه لتمكنه من الصيد، ينطبق عليه تعريف التكنولوجيا البدائية فهى جزء من تطويع الإنسان لإدراكه ووعيه ليسخر الحياة لخدمته. أعقب "ديفز" أن التكنولوجيا الحديثة هى أيضًا أسلوب التعامل مع العالم لتحقيق أغراض الإنسان، غير أنها تختلف عن البدائية في كونها مصاحبة للمنهج العلمي في التفكير، فهى مجموعة الأدوات المصممة من قبل العلم والتي تتحرك وفق رؤية العلم وسعيه نحوتكوين رؤية موحدة للظواهر الطبيعية والكونية. يستطرد “ديفز” بقوله “يمكننا القول أن هناك فارقًا بين التكنولوجيا البدائية والتكنولوجيا الحديثة، وأن التكنولوجيا نفسها قديمة قدم الإنسان، وتسبق العلم. إلا أن هناك فارقًا بين التكنولوجيا الحديثة والتكنولوجيا البدائية وهو استخدام التكنولوجيا الحديثة للعلم للسيطرة على العالم[ii].

إن ما قدمه "ديفيز" من تمييز بين نوعى التكنولوجيا لا يعد من باب السفسطة بقدر ما يدفعنا دفعًا لاستجلاء المسافة التي سيتوجب علينا جميعًا أن نتخيرها للوقوف من المفردة سواء كأداة لتحقيق غرض أو كجزء من إطار أكبر تلعب فيه دور ترس صغير يعلي من شأن العلم والمنهج العلمي تحديدًا. وعليه فإننا إذا ما أنطلقنا من تلك النقطة نحو فهم “التكنولوجيا والتعليم” فإننا لا شك سنعيد مساءلتها كأداة لتيسير عملية التعلم، أم كعقيدة نتبناها وتتجذر في رغبة نحو العمل وفق ما يفرض المنهج العلمي من أسس وصرامة ومنظومة متكاملة ودقيقة.

أخشى أن أجيب فأحيل مسار المقالة نحو توجهًا بعينه، غير أني أترك التساؤل مفتوحًا ليحمله كل منّا سواء بشكل فردي أو مهني، كلٌ في سياقه المختلف.

*****

تاريخ الإنسان الآلي/ الروبوت:

وفقًا لشبكة المناهج الإسلامية (2010)، يسمى الروبوت بالعربية الإنسان الآلي والرجل الآلي والإنسالة والجسمال[iii]، هو آلة مكانيكية قادرة على القيام بأعمال مبرمجة سلفًا، إما بإشارة وسيطرة مباشرة من الإنسان أو بإشارة من برامج حاسوبية. غالبًا ما تكون الأعمال التي تبرمج الإنسالة على أدائها أعمالاً شاقة أو خطيرة أو دقيقة، مثل البحث عن الألغام والتخلص من النفايات المشعة، أو أعمالاً صناعية دقيقة أو شاقة.

من العجيب أن مفردة "الروبوت" لم تأت من مختبرات معهد ماستشوستس للعلوم والتكنولوجيا، بل ظهرت في مسرحية ألفها كاتب مسرحي وروائي تشيكوسلوفاكي في عام 1921، وهو “كارل تشابيك”[iv] حيث شهدت أول ظهور لكلمة روبوت. حملت المسرحية عنوان "إنسان روسوم الآلي" بالتشيكية  Rossumovi univerzální roboti، ودارت حول رجال آليين يسيطرون على الأرض. ترمز كلمة "روبوت" في اللغة إلى العمل الشاق، إذ أنها مشتقة من كلمة "Robota" التي تعني السُخرة أو العمل الإجباري المنوط ب “العبيد”.

يبدو أن الروبوت يتقاطع مع الأساطير المؤسسة للتاريخ الإنساني، فهناك دلالة على ظهور عدة أشكال من ال"خدّام" الاصطناعيين كما تشير عدد من الأساطير المؤسسة للتاريخ الإنساني.  

هيفوستيس- إله النار والحرفة

وفقًا للأساطير الإغريقية، اخترع "هيفوستيس"- إله النار والحرفة، ابن "زيوس" و"هيرا": وزوج "إفروديت"- مناضد بثلاثة أرجل يمكنها أن تتحرك وفقًا لأوامره، وكذلك رجلًا مصنوع من البرونز أسماه "تالوس" مكلف بحماية "كريت" أكبر الجزر اليونانية في ذلك الوقت من هجمات قراصنة البحار. 

        أما في التاريخ الفرعوني، فهناك إشارات على صناعة عدد من التماثيل من الحجر والحديد والخشب، وكان يُعتقد أن تلك التماثيل تحمل روحًا آتية من الروح الإلهية التي تمثلها. واستخدم الكثير منهم في أداء المراسم والطقوس الدينية. في المملكة المصرية القديمة وبخاصة في الفترة التاريخية ما بين القرنين السادس عشر والحادي عشر قبل الميلاد، كان القدماء المصريون يلجأون لتلك التماثيل طلبًا للنصيحة، ويًقال أن التماثيل كانت تمنحهم النصيحة في المقابل عن طريق "إيماءة بالرأس"[v]. يروي التاريخ الصيني القديم وبخاصة في عهد الإمبراطور "مو" والذي حكم في الفترة من 976- 922 قبل الميلاد، أنه طلب من أمهر الحرفيين لديه أن يريه عملًا لم يره أحد من قبل، ومن هنا شهد البلاط الإمبراطوري ظهور أول رجل "اصطناعي"، كان لديه لقدرة على الإتيان ببعض الخدع للتفريه عن الإمبراطور وحاشيته، غير أنه يومًا ما أغضب الإمبراطور حين قام بمعاكسة نساء البلاط. حينئذ قام صانعه بتفكيك "جوفه" ليُري الإمبراطور كيف يعمل "داخل" هذا الرجل الاصطناعي. حين رأى الإمبراطور "أعضاء" الرجل الاصطناعي، تملكته الدهشة وانتهت الأسطورة بسؤال لم تجب عليه، "هل يمكن لصانعٍ أن يصل إلى مرتبة الخالق؟"، غير أن الإمبراطور- وفقًا للأسطورة- قام بتحطيم الرجل الاصطناعي [vi].

        أما التاريخ الإسلامي، فيشير إلى عالم الحساب، ومهندس الميكانيكا والفنان "بادي الزمان أبو العز ابن إسماعيل الجزاري"، الذي عُرف بقدرته على بناء ساعات مائية شديدة التطور، كما أنه قام بتصنيع طواويس آلية باستخدام الطاقة الكهرومائية. لم تقتصر اختراعاته على ذلك فحسب، بل قام ببناء "خادمة" تقوم بصب الماء أو الشاى وغيرها من المشروبات. يسطر التاريخ أن مثل تلك الخادمة، كان لديها نظام داخلي شديد التعقيد والبساطة في آن واحد حيث تظهر على باب الغرفة، ثم بعد سبع دقائق كاملة تقدم لك ما توده سواء ماء أو مشروب آخر[vii].

ساعة الفيل- أحد اختراعات العالم المسلم الجزري.

في كتابه بعنوان "نشوء وتطور الروبوت"، أشاد العالم روشيم Rosheim (1994) بمدى تطور العلماء والمهندسين المسلمين الأوائل وبخاصة “الجزاري” بقوله: “على عكس ما قدمه اليونانيين من تصاميم هندسية للروبوتات، كان العمل والجهد الذي بذله العرب مميزًا لأنه كان يبتعد عن الإراق في الوهم الدرامي للروبوت بقدر ما يصب جل تركيز صانعه على إنتاج نموذج للاإنسان الصطناعي الذي يطوّع البيئة المحيطة لخدمة الإنسان. من ثمّ ما قدمه العلماء والمهندسين العرب، كان شديد التميز لأنه كان يحمل شقًا تطبيقيًا فاعلًا” [viii].

    

        كان أول روبوت في التاريخ المعاصر من صنع اليابانيين وتحديدًا في 1927، وسُمى "Gakutensoku" والذي صُنع خصيصًا ليقوم بدور ديبلوماسي، وكان أول روبوت يمكنه تحريك جفن العين عن طريق تقنية الهواء المضغوط [ix].


صورة أول روبوت يتم تصنيعه في الشرف في العشرينات

ثم توالت عملية تطوير الروبوتات حتى نصل إلى الروبوت الياباني "آيبو" (AIBO (1999 المُصّنع من قبل شركة "سوني العالمية"، والذي عرف بـ ”الصديق".


"أيبو" الروبوت الاجتماعي: الجرو الصديق


عُرِف "آيبو" بقدرته على التعرف لما يصدر إليه من مهمات وأوامر باللغتين الإنجليزية والأسبانية، كما  عرف أيضًا بقدرته على “التعلم والنضج” باستخدام ذاكرة متطورة. بالرغم من شهرته الواسعة، إلا أنه تمّ تعطيله في عام  2006.

أما في الرابع عشر من فبراير لعام 2016، فقد شهدت الإنسانية قفزة غرائبية في عالم الروبوتات فيما عرف ب ”الروبوتات الاجتماعية" حين تمّ تشغيل أشهر الربوتات في الوقت الحالي "صوفيا" Sophia[x].


صوفيا- الروبوت الاجتماعي


تشتهر "صوفيا" بكونها برنامج ذكاء اصطناعي شديد التطور، لديه/ها القدرة على تحليل المحادثات، واستخلاص البيانات التي من شأنها التنبوؤ برودو الأفعال في المستقبل، بل أنها تعرف بقدرتها على تقليد السلوك الإنساني الاجتماعي وتتبُع مشاعر الحب كما يعبر عنها البشر. ظهور “صوفيا” أثار العديد من التساؤلات  والنقد في آن واحد حول التطور الرهيب في الروبوتات لتدلف عالمًا ظل الإنسان يحتله بمفرده وهو "الشعور والسلوك". الاعتراف ب "صوفيا" جاء غير مسبوق وبخاصة حين قررت المملكة العربية السعودية في مؤتمر الإبداع وتحديدًا قمة “مستثمري المستقبل” في عام 2017، منح “صوفيا” جنسية المملكة، لتصبح أول “إنسان آلي” له جنسية دولية أو بمعنى أكثر دقة أول “مواطنة” آلية في العالم. “صوفيا” تتسم بالذكاء الشديد حتى أنه حين تمّ تقديمها في القمة سالفة الذكر، أردفت بقولها حين طرح المذيع سؤالًا عليها “لماذا تبدين دومًا سعيدة”، فأردفت بقولها “أنا دومًا أشعر بالسعادة حين أكن محاطة بذوي النفوذ والثروة"[xi]. بهذا القدر من الذكاء الاجتماعي المرتفع، لا عجب إذن من منحها الجنسية بالرغم مما أثاره هذا الفعل من ردود أفعال واسعة في حينها وبخاصة حين تمّ ربطه بمواقف تلك الدولة من حقوق النساء عمومًا!

        إذن إلى أين يقودنا البحث في تاريخ وتطور الروبوت؟ الأمر لا يتوقف عند سرد لبعض من نماذج ومراحل التطور التي شهدها عالم التكنولوجيا وصناعة الإنسان الآلي لنتعرف على الفجوات التي مهدت الاحتياج لتك الروبوتات لأن تتخذ مكانًا على خارطة الحياة وتؤدي مهمات تتنوع من البساطة وحتى تلك الأكثر تعقيدًا. فذلك الطرح يمنحنا رؤية حول أين يقف هذا العالم الآن، ولربما ببعض من الخيال يمكننا أن نبني فهمًا نحو عالم "الروبوت الاجتماعي" والذي يعد المرحلة الأكثر تقدمًا من صناعة الروبوتات. تم تأسيس هذا النوع المتقدم من الروبوتات الاجتماعية لتعزيز قدرتها على القيام بمهام اتصالية مع البشر وكذلك مع الروبوتات الأخرى. الروبوتات الاجتماعية أو شبيهة الإنسان Humanoid يتم توظيفها لأغراض مثل بحوث الفضاء، المساعدة الشخصية وتقديم الرعاية، التعليم والترفيه، البحث والإنقاذ، العلاقات العامة، التصنيع والصيانة، ومؤخرًا في الصحة. فور ظهور جائجة الكورونا، تمّ تجهيز مستشفى ميداني جميع العاملين به من الروبوتات الذكية، تم تسميته المستشفى الميداني الذكي The Smart Field Hospital، تمّ فتتاحه رسميًا في مارس لهذا العام بمقاطعة "وهان" الصينية، تقوم الروبوتات بجميع ممارسات العزل الطبية للمصابين: قياس الحرارة، تقديم الطعام والدواء، بل والترفيه عن المرضى والطاقم الطبي البشري [xii].

******

هل تتوحّش التكنولوجيا، أم تتأنسن؟

        يقول "مارتن فورد"- خبير شؤون المستقبل- إن استخدام الإنسان الآلي في مرحلة ما بعد كورونا سيعطي امتيازات تسويقية، ويوضح أن الناس سيفضلون الذهاب إلى مكان يستعين بعدد أقل من البشر وعدد أكبر من الماكنات لأنهم يعتقدون أن ذلك يقلل من المخاطر.تقوم الشركات التكنولوجية الكبرى بتوسيع استخدام الذكاء الصناعي. يعتمد فيسبوك وغوغل على تقنيات الذكاء الصناعي في وظائف معينة لا يستطيع الموظفون القيام بها وهم يعملون من المنزل. كان المتشككون بالإنسان الآلي يعتقدون أن الإنسان سيكون له دور حاسم في تلك الوظائف. قد يتغير هذا الوضع مع حالة الإغلاق والعزلة المفروضة حاليا حيث يفضل البشر العمل عن بعد. ليس من الضروري أن يكون المستشار عبر الشاشة شخصا حقيقيا، عليه فقط أن يفكر ويتصرف كشخص حقيقي. وتنبأ تقرير صادر عن شركة ماكينزي للاستشارات عام 2017 أن ثلث العاملين في الولايات المتحدة سوف يحل محلهم آلات وذكاء اصطناعي بحلول عام 2030. لكن احداثا كالأوبئة كفيلة بتسريع العملية ، ويقول الخبراء أن الأمر منوط بالبشر ليقرروا كيف سيكيفون دخول التكنولوجيا إلى العالم [xiii].

        مع التطور الرهيب في صناعة الروبوتات بوجه عام، ووسائل التكنولوجيا بوجه خاص تعالت الأصوات المنددة باقتحام التكنولوجيا كافة المناحي التي وصفت بأنها "إنسانية" بحتة، بل ونددت تلك الأصوات بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا باعتبارها "وحشًا" يلتهم روح الإنسان المعاصر، واصفة إياها بأنها تخدر قدرة الإنسان الأصيلة على التواصل والاتصال مع أقرانه البشر، كما أنها صنعت “هويات” وهمية رقمية للإنسان مما أضاف إلى أزمة الإنسان المعاصر الوجودية وعزلته بالرغم من كل ما منحته التكنولوجيا من يسر من اتصال، إلا أنها أفرغته من الشكل التقليدي لما ترسخ في وعى البشرالجمعي عن الاتصال الإنساني. انطلاقًا من تلك النقطة من الصراع الوجودي، أصبحت هناك حاجة ملحة لاستبصار العلاقة بين الإنسان والآلة واستكشاف مساحات التقاطع بين كلا العالمين. ظهر مصطلح "أنسنة التكنولوجيا"[xiv] Humanizing Technology في محاولة للتقليل من وطأة الغضب المتمثل في توحش التكنولوجيا أو كما تمّ وصفه ب Dehumanizing technology. تُعنى "التكنولوجيا الإنسانية" أو "أنسنة التكنولوجيا" بثلاث احتياجات رئيسية مستقاة من هرم "ماسلو" للاحتياجات، ألا وهى: الأمن والأمان- العلاقات الإنسانية- النمو الشخصي. كل ما يندرج تحت مسمى "التكنولوجيا الإنسانية" عليه أن يقدم ما يًحسن من حياة الأفراد أو الجماعات. يمكننا أن نقتبس من جوناثان هاريس Jonathan Harris  – 2012 فنان ومطور شبكة اجتماعية بديلة Cowbird- قوله التالي:

“إن الإيقاع المتسارع لشبكات التواصل الاجتماعي، سيجبرنا مما لاريب فيه من إيجاد طرق أكثر إنسانية، تقترب من مساراتنا الأصيلة في فهم الحياة وذواتنا. سنصل حتمًا إلى نقطة اتزان. نحن جزء من الشبكة العنكبوتية، فنحن لا نتبادل الكلمات أو الآراء فحسب، نحن نصنع قصصًا تحمل رؤيتنا للحياة، نتورط بمشاعرنا في كل ما نسرده من حكايا. الوعى البشري يتطور بصورة مذهلة، التكنولوجيا لديها القدرة أن تقف معنا كوثيقة تاريخية تشهد بمثل هذا التطور لا تعرقله”[xv].

وهذا ما أكده الأيقونة الصينية "جاك ما"- مؤسس شركة "علي بابا" خلال المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي الذي نوّه عن "أهمية أن يكن التعلم الآلي بمثابة قوة من أجل الخير، وأن الذكاء الاصطناعي هدفه أن يساعد الإنسان على تقديم رؤى جديدة بشأن طريقة تفكير الناس" أضاف أن "الذكاء الاصطناعي سيساعد في خلق نوع جديد من الوظائف التي توفر علينا الوقت ومن ثم تمنحنا متسعًا للمهام الإبداعية، فقد نصل إلى مرحلة في المستقبل يتعين على الناس أن تعمل ثلاثة أيام في الأسبوع وأربع ساعات في اليوم". اختتم قوله، "حين يفهم البشر أنفسهم بشكل أفضل، يمكننا حينها تحسين العالم."[xvi].

لعل تلك الجملة التي منحها لنا "جاك ما" حول أهمية أن يعرف الإنسان نفسه، ستطرح تساؤلًا ليس حول توحش التكنولوجيا أو أنسنتها فحسب، بل هل يتحول البشر في الأنظمة التعليمية إلى روبوتات مدجنة؟ وما الغاية الأصيلة من التعليم؟

ولربما ذلك ما سنكتشفه في المقالة القادمة، بإذن الله.

******

[i] "مايكروسوفت تقرر استبدال الصحفيين بالروبتات"- 30 مايو 2020 رابط الخبر:

https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-52861371?fbclid=IwAR2sK3ngwVplGHb55gWYZsu0P3gF83MJUqiqJ5qVOKs-4BZtHTYBvIDHFos

[ii] النزعة الإنسانية: توني ديفيز- ترجمة عمرو الشريف ص. 16 المركز القومي للترجمة.

[iii] شبكة المناهج الإسلامية، مصطلحات عربية جديدة مقترَحة- عبد الحفيظ جباري\نُـشِرَ هذا الـمقال في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني في عدد (69) 13 ديسمبر 2010

[iv] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%84_%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D9%83

[v] Gaston Maspero (2009). Manual of Egyptian Archaeology: A Guide to the Studies of Antiquities in Egypt. BoD. p. 108. ISBN 9783861950967.

[vi] Ronnie Littlejohn, Jeffrey Dippmann (2011). Riding the Wind with Liezi: New Perspectives on the Daoist Classic. SUNY Press. pp. 194–195. ISBN 9781438434551.

[vii]  Ancient Discoveries, Episode 12: Machines of the EastHistory, retrieved 6 September2008

[viii] Rosheim, Mark E. (1994), Robot Evolution: The Development of Anthrobotics, Wiley-IEEE, p. 9ISBN 0-471-02622-0[

[ix] Ashok K. Hemal & Mani Menon (2018). Robotics in Genitourinary Surgery. Springer. p. 8. ISBN 9783319206455

[x] https://www.hansonrobotics.com/sophia/

[xi] https://www.dw.com/en/saudi-arabia-grants-citizenship-to-robot-sophia/a-41150856#:~:text=Saudi%20Arabia%20granted%20citizenship%20to,company%20Hanson%20Robotics%20in%202015.

[xii] https://www.asme.org/topics-resources/content/10-humanoid-robots-of-2020

[xiii] “هل يؤدي الوباء إلى تسريع وتيرة إحلال الروبوتات محل العمالة البشرية؟”. زوي توماس- 29 نيسان 2020، متاح على الرابط التالي: https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-52344509

[xiv] https://bigthink.com/humanizing-technology/humanizing-technology

[xv] محاضرة بعنوان: التصميم التفاعلي- أنسنة التكنولوجيا- جوناثان هاريس 2012 https://www.youtube.com/watch?v=3_3aXflBPOo

[xvi] رئيس "تيسلا" ومؤسس "علي بابا" يختلفان بشأن تهديد الذكاء الاصطناعي للبشر. 29 أغسطس 2019، متوفر على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/science-and-tech-49503965

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

يا المنفي- عن الانتماء والتغريب في أغنية رشيد طه

 

يا المنفي | عن الانتماء والتغريب في أغنية رشيد طه

مقالة منشورة على موقع معازف- مجلة الموسيقى الأولى في العالم العربي
تاريخ النشر: 24 نوفمبر 2020
حظيت المقالة بعدد 212 قراءة من الموقع خلال يومين من نشرها.
ومتابعة على انستغرام وصلت إلى 733 
رابط المقالة:
ريهام عزيز الدين تكتب:

قبل وفاته، لم أعرف عن رشيد طه سوى أغنيته يا رايح. كنت مثل كثيرين، تقتصر معرفتي بالراي على الشاب خالد، صاحب الأغنيتين الراسختين في ذاكرتي الموسيقية: ديدي، والشابة بنت بلادي.

تقاطعت وفاة رشيد طه مع رحلتي في البحث عن موطئ قدم، بعد أن عرفت منذ ثورة يناير أنني لا أنتمي إلى اليمين. بدا لي مجتمع اليسار مثل جيتو سري، ولاحظت أنّ لديهم ذائقتهم الموسيقية الخاصة. تأكد لدي هذا الاستنتاج الطفولي حين لاحظت حزنهم الواضح لرحيل رشيد طه. دفعني الأمر إلى تقصي من يكون. استعنت بجوجل وظهرت لي سيرة المطرب الشهير، كيف رأى العالم وأعاد تشكيله داخل موسيقاه. بدأت رحلتي لمعرفة المزيد عن رشيد طه، لتستوقفني أغنية يا المنفي.

في البداية شغّلتها عشرات المرات، لم أرتبك لجهلي بمعاني بعض الكلمات، وكان الأمر كأنّي أشاهد فيلمًا تسجيليًا يدور في عقلي، يربط بين ما قرأته عن حياة رشيد طه كمهاجر في فرنسا، وبين عبارة يا المنفي، دون أن أتوقف عند أيٍّ من كلمات الأغنية.

تحكي الأغنية تجربة استقبال أحد الأسرى عند وصوله السجن. استخدم الأسرى الجزائريين الأغنية في سجون الاحتلال للتواصل مع أمهاتهم، راجين ألا تتوقفن عن الدعاء لهم، كما جرى استخدام الأغنية كرسالة طمأنة بأن الأسرى بخير، ولا يزالون يحفظون عهد المقاومة. أثارني كيف تصوّر الأغنية بأسلوبٍ بسيط مراسم استقبال الوافد الجديد، وكيف يحاول الوافد التكيف في اللحظات الأولى مع عالم لا يعرفه. صارت يا المنفي بالنسبة لي تجسيدًا لشيءٍ أكبر، أود أن أعرف المزيد عنه، فاقتربت.

قولوا لامي ما تبكيش / يا المنفي / ولدك ربي ما يخليهش / يا المنفي

***

وكي داخل في وسط بيبان / يا المنفي / والسبعة فيها الجدعان / يا المنفي
وقالولي كا شي دخان / يا المنفي / وانا في وسطهم دهشان / يا المنفي

***

كى داوني لتريبينال / يا المنفي / جدارمية كبار وصغار / يا المنفي
والسلسلة توزن قنطار / يا المنفي / وداربونى بعام ونهار / يا المنفي

***

ع الدخلة حفولي الراس / يا المنفي / واعطوني زاورة وباياس / يا المنفي
ويلفوا علينا العساس / يا المنفي / على الثمانية تسمع صفار / يا المنفي

***

يا قلبي وشداك تعيف / يا المنفي / والصوبة دايما كيف كيف / يا المنفي
الجاميلة مغمر بالماء / يا المنفي / والجريلو عايم فيها / يا المنفي

***

اصبري يا امي ما تبكيش / يا المنفي / ولدك ربي ما يخليهش / يا المنفي

تشير المعلومات المتوافرة عن يا المنفي إلى أنّها أغنية جزائرية قديمة كتبها أحد أسرى ثورة المقراني ضد الاستعمار الفرنسي، التي اندلعت سنة ١٨٧١ من شرشال غربًا حتى سكيكدة شرقًا، ومن البحر شمالًا حتى توقرت جنوبًا. تتحدث الأغنية عن معاناة الأسير الجزائري، المُرحَّل من المحكمة العسكرية في قسنطينة إلى منفاه في جزيرة كاليدونيا الجديدة جنوب المحيط الهادئ، حيث نُفي أكثر من ٢٥٠٠ جزائري من الثوار ومجرمي الشرف.

غنى هذه الأغنية الكثيرون من المطربين الجزائريين تحت ظلّ الاحتلال وبعده؛ منهم أكلي يحياتن الذي عُرف بمعاداته للاستعمار الفرنسي واعتقلته سلطات الاحتلال عدّة مرات. تعد الأغنية المعادل الجزائري لنشيد يا ظلام السجن خيم، الذي كتبه الشاعر الصحفي نجيب الريس أواخر الحكم العثماني في بلاد الشام.

“قولي لأمي ما تبكيش

ولدك ربي ما يخليش”

تُفتتح الأغنية بمناجاة المسجون لمن هو في الخارج، طالبًا منه أن يخبر والدته أنه لا حاجة للبكاء، وأن الله لن يتخلى عنه. تعيد تلك الافتتاحية إلى الذهن تلك اللحظة التي مرّ بها كثيرٌ من المصريين لدى اللحاق بعربة الترحيلات الزرقاء، بينما تتصاعد أصوات المعتقلين من الداخل ويلحق بهم ذويهم راكضين خلف العربة حتى تتباعد بينهم الشُقة.

تضع مجتمعاتنا دورًا بطوليًا للأمومة، يتعاظم في حال كونها أم البطل أو أم الشهيد. لا يرى المسجون هنا ما يشينه، فهو ليس مجرمًا، بل أسير لدى قوة غاشمة. أول ما يأتي في ذهنه صورة الأم التي قد تبيضّ عيناها من الحزن على ابنها، يذكّر نفسه وإياها بميثاقهم مع الله الذي لن يتخلى عن عباده الصالحين.

نقف إذًا مع السجين الأسير الذي لا يعلم ما ينتظره، غير أنه بالرغم من ذلك يستطيع أن يحمل رسائل طمأنة تعكس جذور روحه الأولى (الأم، الله). تنتقل الأغنية بعد ذلك إلى اللحظة الأكثر رعبًا وارتباكًا، وتؤرخ لبرزخ العبور نحو عالم السجن.

يلعب الأسير هنا ثلاثة أدوار متداخلة، دوره الأساسي كأسير، يأتي بعده دوره كشاهد على الحدث ثم كمراقبٍ له، كمن ينسلخ عن ذاته ليرصد ما يحدث بعين ثالثة. تتدفق هذه الأدوار لتؤطّر طقوس العبور، كما شهدها الأسير وكما عاشت عبر التراث.

تبدأ الطقوس برؤية الأبواب الكثيرة، في دلالة على أن العالم الجديد عالم مقيّد، مليء بالأسرار والشيفرات، ما يبث الرعب – حتى وإن لم يعبر عنه الراوي – في نفس الوافد الجديد. عند استخدام الأسير لمصطلح “السباع الجدعان” لوصف من شاهدهم من رجال حال دخوله، يظهر فهمه لشيفرات الذكورة التي تربطه بحليف قوي أو ندٍّ يهابه، ويعبّر بطريقة غير مباشرة عن حاجته إلى الانتماء والاحتماء. الغريب هو اندهاش الأسير حين أخبره الجدعان “كا شي دخان”. تعد هذه الحركة شائعة بين جماعات المساجين، بل تبدو من الكليشيهات البديهية المرتبطة بالحبس في عالم خارج السجن.

تتدرج الأغنية في وصف طقوس الاستقبال، من حلاقة الرأس وتقديم الطعام المقزز، وتعزّز مناجاة الأسير لله لئلا يتركه في هذا العالم. كما يتبنى الراوي مبدأ الإظهار بدل الإخبار، فيستبدل الإشارة إلى مشاعر تليق بدخول عالم السجن، كالخوف أو الرهبة أو القرف، بأسلوبٍ وصفي يصوّر ما يحدث بلقطات متلاحقة تجعل المستمع متورطًا في المشهد.

يرجع ذلك في اعتقادي إلى انتماء الأغنية إلى تاريخ طويل من خطابات الأسرى في التراث العربي، وهو تراث يتّسم بإسباغ البطولة على الأسير في مقاومة السلطة / الاحتلال، وأحيانًا افتراض أنّ الرجل الشديد يجب ألّا يظهر ضعفه في المواقف الصعبة، ربما لأنّه يعرف أنّ بطولته ستفرض عليه صورة وحكاية ستُروى من جيل إلى آخر، لا يريد أن يبدو هشًا فيها. الهشاشة الوحيدة التي يجوز تمريرها هي الخوف على الأم التي تنتظره باكيةً.

تولّد ماضٍ مشترك بيني، بين ما أصبحت عليه بعد ثورة يناير، وبين يا المنفي. ساعدتني الأغنية على التعامل مع ما فرضته عليّ منعطفات الحياة من نفيٍ إجباريّ، والتماسك لمواجهة طقوس الانتقال المخيفة إلى ما هو مجهول بالنسبة إلي. بعد التخلص من يمينيّتي السابقة، بحثت عن مكاني وسط كل تلك التكتلات، ولم أجده. لا أستطيع القول إنني صرت أنتمي إلى اليسار (المصري)، وأتصالح كل يوم مع احتمال أنه لا يجب أن أنتمي إلى شيء، لأمنح الحياة فرصة أن تكشف عن نفسها برفق بداخلي بدون تكتيكات مسبقة، وقد حدث.

الأحد، 14 يونيو 2020

ما الذي يمكن أن تفعله "العزلة" بعقلك؟ سبعون يومًا، عشرة فخاخ!

 ما الذي يمكن أن تفعله «العزلة» بعقلك؟

سبعون يومًا- عشرة فخاخ!

مقالة منشورة في مجلة "فنون" للثقافة والآداب- مصر.

عدد 28- يونية 2020


في 11 أبريل الماضي، أعلن الروائي المغربي الطاهر بن جلون شفاؤه من مرض الكورونا. لم يشارك بخبر إصابته في المقام الأول أسرته أو وسائل الإعلام، اكتفى بأن ارتضى لنفسه فور علمه بإصابته بالحجر الاختياري في منزله لمدة أسبوعين، وفور تعافيه خرج  معلنًا خبر شفاؤه، وليس ذلك فحسب بل حمل بين يديه ما أسماه «رسالة إلى الصديق البعيد» باللغة الفرنسية والتي تؤرخ لتجربة العزلة والمرض وكيف -على حد قوله- «صارع المرض بالمخيلة»:

"عزلتُ نفسي في البيت، لم أخرج بتاتاً، لم أر أحداً، ورحت أنتظر. اتصلت بأصدقائنا المشتركين لأعلمهم بأن العيد، كل الأعياد أجّلت. عشت أوقاتاً من العزلة الشديدة، وخلالها حاولت جاهداً ألا أرى صورتي في المستقبل. لكنني تمكنت عبر المثابرة، من أن أتعلق بالفرح، بفكرة السعادة، بالأوقات الرائعة التي حملتنا نحو صداقة جميلة»[1].

لم أصب بالكورونا- أو لأكن أكثر دقة- لا أعرف أنا فقط أتعايش كما يفعل الجميع محتفظين  برصيد إضافي من الجهل المُتعمد بكل ما يمكنه أن يخلخل الحياة التي عرفناها يومًا. تحملني المخيلة -أيضًا- لالتقاط طرف الخيط من الطاهر بن جلون أراه يقف على الضفة الأخرى يخبرني و«الصديق البعيد» ما الذي تعنيه العزلة وفقدان الحياة التي عرفناها من قبل، والرغبة في تخليق الأمل من العدم. الآن بعد مرور ما يزيد عن سبعين يومًا من العزلة الاختيارية التي بدأتها في 15 مارس، يمكنني أن أروي «فخاخ العزلة» ويوميات مراوغتها. لا صديق متخيل لي -كالطاهر- ستصله رسائلي، ويكتب لي بالمثل، غير أن العزلة وضعتني وجهًا لوجه في مواجهة مخاوفي، أقساها وأقصاها واختبار الفقد بمنحدراته المختلفة، ألم تفعل بنا جميعًا ذلك!

 


فخ 1: كل هذا لم يحدث!!

يخبرنا علم النفس أن المرء حين يتعرض إلى ما يفوق قدرة جهازه النفسي على الاستيعاب يمر بمراحل يطلقون عليها متتالية الحزن، تبدأ بالإنكار الشديد لما حدث حيث يتحول العقل بكل ما يملكه من ميكانيزمات وحيل إلى العمل بطاقة عشرين مصنعًا لكى يمنحك عددًا لا نهائيًا من السرديات التي تدور جميعها حول حبكة واحدة «أن ما حدث لم يحدث»، أو ما يسمى بالإنكار بالكلية لكل ما حدث. الآن بعد مرور ما يزيد عن سبعين يومًا على عزلتي الاختيارية، أستطيع مشاركة بعض مما حدث بداخل سرداقات عقلي، ممرات روحي التي تكشفت في العزلة، أضعها دون أن أصفها، أسكبها فوق الورق لأصنع ممرًا نحو تكريم كل محاولة للبقاء حتى وإن اتسمت بأذيال المراوغة، غير أنها أبقتني هنا لبعض الوقت.

 في 17 مارس أى بعد مرور "يومين" على بدء رحلة العزلة، يبدو أن ممرات عقلي قادتني نحو الوقوف على مسافة آمنة أتأمل كل ما يحدث خارجي. لم أستطع أن أتجاوز ذعرًا يتدفق في عروق البشر وأشم رائحته يتسرب من أسفل باب منزلي المغلق بإحكام. لذتُ بالكتابة لأحمل طمأنينة لخوفٍ طبيعي بداخلي، خوف من شىء لا يستطيع أحد التكهن به أو توصيفه، شيء يشعرنا بتقزمنا الإنساني أمام ما يفوقنا من أهوال، شىء يعيدنا إلى نقطة ظننا أننا تجاوزناها بفعل الحضارة والعلم وإدعاء الفهم. كان هناك أيضًا خوف أن أصبح مثل «الآخرين»، أمضي مذعورة في الشارع أكدس البضائع، أتمترس في منزلي خلف عبوات اللبن والدقيق، أتوحش في صمت. كتبت النص التالي لأبدأ أولى خطوات «التباعد» عن وعي جمعي اتسم بالذعر والتوحش. 

مكث الناس في المنازل
أحضروا فرشاة الألوان،

وصفحات بيضاء بحجم بناية من تسع طوابق
حرصوا أن يغطوا كافة المساحة البيضاء
ثمة خوف أن تبقى الصفحة خاوية
لملموا أطراف الخوف الأربعة،

ثم تعلموا أن يُلبسوها لون فاقع يطلقون عليه «بهجة»!

 مكث الناس في المنازل،

خلف الجدران العالية
تسمع صوت الأقدام الراقصة فوق نهر الخوف
تربت بخفة على أكتاف طفلٍ،
يبكي مذعورًا من وحش يرقد بين دفتى العالم
يراوغ النوم
غير أن لا أحد هناك يتلو على مسامعه قصة من كتاب قديم
يتعلم المرة تلو الأخرى أن يرسم بطرف أصبعه بابًا في سقف الغرفة
يدلف منه كل ليلة لعالمٍ تحطه الأشجار من كل صوب
بينما تبتسم في وجهه
وتخبره أنه بخير
وأنه يمكنه أن يخلد للنوم الآن.

 مكث الناس في المنازل

يحشرون الطعام في أفواههم حشرًا
لكي يصمت الخوف الذي يكركر في معدتهم منذ البارحة
مكث الناس في المنازل
ثم التهمتهم الوحشة
رأوا انعكاس الظل على الحائط في غرفة معتمة
مدوا أصابعهم لإلقاء التحية
أصبحوا أصدقاء لظلالٍ لم يروها من قبل
تعلموا أن الظل لا يحمل خنجرًا
وأن الخوف المعبأ في دولايب المطبخ
سينتهي
ولربما آن الوقت لإطلاق سراحه
فالخوف أيضًا يشعر بالوحشة
ولربما الخوف أيضًا يشعر بالخوف !

مقتطف من نص "مكث الناس في المنازل"- كُتب بعد يومين من العزلة

*****

 


فخ 2: العالم بالخارج يحتاج ل "ضبط" و"سيطرة" !!

 

لم تمنحني الكتابة فقط مرفأ آمنًا للاختباء من ذعر يتكدس في الوجوه وفي نشرات الأخبار، بل منحتني موضعًا لقدم بينما يتسم كل شيء حولي بالسيولة وفقدان السيطرة. استدعيت صوت يتأرجح بين أمومة مفرطة ترغب في وضع الأشياء دومًا في نصابها ورغبة عارمة في إنقاذ العالم وتهدئة روعه، وبين باحثة ترفض أن تردد ما يتواتر من أنباء دون فرزها وتحليلها وأرشفتها.

 انهمكت بالكلية في الكتابة، تسابقت مع الوقت والخواء الذي بدأ في التسرب بداخلي، كنت أحشو فمه بالكلمات، أرصها رصًا لأسكت صوتًا يهمس برفق بداخلي، هل أشعر بالخوف؟ من ماذا؟

 فخ 3: ألعاب ومراوغة!

         أخبر المحرر أني بصدد استكمال مقالاتي التي أوثق بها الجائحة، بمقالٍ جديد عن الكورونا والعزلة.  يشير إلىّ المحرر- كعادته- بمشاركة الفكرة في البداية وتوضيح مسارها لكى يتم البناء عليها. أخبره في رسالة صوتية عبر الواتس أب - تمتد لما يزيد عن الخمس دقائق- حول المعنى اللغوي لل"عزلة"، أكدس الفكرة وراء الأخرى في مظاهرة افتراضية تتقافز فيها الأفكار وتتزاحم الواحدة تلو الأخرى حول توصيف العزلة من منظور علم النفس، ثم ما تمّ تناوله عبر العالم حول الوحدة والعزلة، إلحاق بعض المراجع الخاصة بعلم النفس الإكلينيكي ثم علم نفس اضطراب ما بعد الصدمة، وأدلف سريعًا نحو علم الاجتماع أيضًا. ألتقط أنفاسي، ثم أباغته بفكرة جديدة، عن الفرق الجوهري بين "الوحشة"، "الوحدة"، و"العزلة"، أشير بأصبعي- بينما لا يراني- إلى صورٍ التقطها المصورين حول العالم أوثق بها معانٍ مختلفة للعزلة.. أخبره بأني بدأت بالفعل في التواصل مع صديق يعيش بالمملكة المتحدة، يروي تجربة العزلة/ العزل مع ابنه المصاب بالتوحد، تلك أحد اهتماماتي في التعليم التي أود استكشافها لاحقًا. أذيل المحادثة بخطابٍ حماسي وقفزة مباغتة نحو منح معنى نضالي للعزلة بقولي "وآه طبعًا العزلة هتخلينا نكتب عن السجن، وعن الحياة داخل السجون". أصمت ثوانٍ، أتذكر خلالها خبر وفاة فادي حبش في الأسبوع المنصرم، أشعر بالتضاؤل أمام نفسي، كيف يمكنني أن أكتب ذلك! كيف يمكن الاقتراب من تلك المنطقة شديدة الإيلام والعجز وقلة الحيلة! أتراجع سريعًا بقولي "بس أنا مش هقدر أكتب عن السجن". 

تنتهي الرسالة الصوتية - أو للدقة- البيان الذي ألقيته على مسامع المحرر! يأتيني صوته هادئًا بقوله: "هى الفكرة مش ممسوكة، بس خلينا نكتشفها، يلا بينا". أفرح كطفلة أخبرها أحدهم للتو أنها ذاهبة للملاهي، أخبره بنبرة حماسية تعلمتها من التجريب في المسرح "ايوااااا يلا بينااااا". تنتهي المحادثة الافتراضية. أشمر عن ساعدي استعد لكتابة ما تمّ الاتفاق عليه.

فخ# 4: منحدر!

ابدأ في مساري المعتاد في بناء المقالة، بانفجارٍ كوني في رأسي للأفكار، أصبها صبًا فوق الصفحات البيضاء، انتقل في سرعة إلى تأطير الأفكار بما جمعته من مراجع علمية. اطمئن أن المقالة تسير وفق ما هو مخطط لها تمامًا. يمر اليوم تلو الآخر، شىء يخبرني أني أحيد عن المسار. بالرغم من أن الأفكار تتقافز من هنا وهناك، يمكنني إلصاق الواحدة بجوار الأخرى ليبدو "ترقيعًا"، أو لأخبر نفسي بقليل من الإيجابية المتبقية في رصيدي "موزاييك"...! المقالة ستبدو مثل لوحة موزاييك. غير أني لازلتُ استمع لصوت يهمس بداخلي "إنتي متأكدة عايزة ترصي الرصة دي؟".

كل شىء يتوقف. يمر الوقت، "اللوحة" التي أخبرتُ نفسي بها لا تبدو أنها توشك على الاكتمال ولو قيد أنملة. ثمة شيء يتعاظم بداخله يراوغني ولا يمكنني الإمساك به. علمتُ حينئذ أني لا أستطيع أن أكتب عن "العزلة" لأني اختبرها. أقبع في الداخل لا أشاهدها كلوحةٍ مُعلقة على جدران متحف متخيل. محاولتي للالتفاف حولها بأن أصنع مسافة "أخبر بها عنها" دون أن أتكشفها بداخلي ستبدو بالفعل "ترقيعًا". يعلو الصوت مجلجلًا: "بلا موزاييك، بلا رومانسية فاضية، امشي ورايا".

اليوم استسلمت لما يتحرك بداخلي، أن أشعر ب"العزلة"، اختبر هذا الشعور بحدته وقسوته لربما للمرة الأولى، التي تصبح فيها عزلتي جبرية. أستعيد إلى ذاكرتي "العزلة" كما وصفتها "هيلين كيلر" في مذكراتها يومًا بقولها:

فلأكتب إذن عن "شعوري" بالعزلة أو كما أود أن أسميها "وَحشَتي" وكيف تكشفت لي في يوميات العزلة.

فخ# 5: الهروب للداخل!

أخبرت نفسي أن العزلة فرصة ذهبية لقراءة كل تلك الكتب التي تطل برأسها معاتبة في "نيش خشبي" حملته معي منزلي بالقاهرة، لربما سأخبر قصته في مكان آخر. التقط رواية "الخوف من الموت" لإريكا يونغ، يمنحني الغوص في القراءة مسافة آمنة، ثم أتوقف عند قولها على لسان البطلة:

"هل نتمسك بآبائنا وأمهاتنا، ام أننا نتمسك بوضعنا ونحن أطفال منيعون ضد الموت؟ أعتقد أننا نتمسك بقوة تزداد باطراد بوضعنا ونحن أطفال. في المستشفى ترين أطفالًا آخرين- أطفالًا في الخمسين، والستين، والسبعين- يتشبثون بآبائهم وأمهاتهم الذين في الثمانين والتسعين، والمائة. هل هذا التشبث كله حب؟ أم أنه فقط حاجة إلى التوكيد على مناعتك الخاصة ضد العدوى من مولوخ- ملاك الموت الرهيب؟ لأننا جميعًا نؤمن سرًا بخلودنا الخاص. وبما أننا لا نستطيع أن نتخيل فقدان الوعى الفردي، فإننا نستطيع أن نتخيل الموت. كنت أحسب أنني أبحث عن الحب- ولكن ما كنت أسعى إليه حقًا هو تجسدٌ جديد. أردت أن أستعيد الزمن وأعود طفلة من جديد- وأنا أعرف كل ما أعرفه الآن"

منحتني عبارة "يونغ" ممرًا جديدًا أعبره نحو "ملء" أيام العزلة. تركتُ الرواية من يدي وأنا أقفز مهللة. لقد ظننت أن الأجواء المصاحبة للجائحة تثير بداخلي خوف ما من الموت.اعترف أني أخشى الموت حين يحدث ل"آخر"، أما موتي الشخصي فحرصت منذ سنوات على الاستعداد له بأشكال "مريحة" لكى أعبر نحو تحولي الأعظم- هكذا أؤمن.  إذن أنا لا أخشى الموت في العزلة، الأمر لا يتمحور حول الخوف، كل ما في الأمر أني بحاجة لأن أتجسد في حيوات متخيلة. 

إذن هذا هو الأمر. فلأفعلها إذن!

*****

 فخ# 6: الذاكرة تحيلني إلى مخاوف قديمة!

لازلت أحتمي بداخل الكتابة، أشرع في التقاط "شخصية" وددت كثيرًا الكتابة عنها، بدأت النص- قيد التطوير- في مارس 2017، اقتبس منه التالي:

" في مركز الصورة المعاصر، منذ عدة سنوات اعتدت على الذهاب ل"مركز الصورة المعاصر" للعمل والقراءة، في كل مرة بينما أقضي يومًا كاملًا كان هناك رجل يرتدي قميص أسود وبنطلون جينز بنفس اللون يجلس على كنبة الاستقبال. حين أدلف المكان ينظر لي نظرة سريعة، ألقي التحية فلا يلتفت إليها، حتى اعتدت ذلك. أتوجه إلى مكاني المفضل بجوار رف الكتب، بينما يجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى ويبدأ في التحدث لأشباح متخيلة. في البدء شعرت بالقلق، التفت إلى المرأة الجالسة بجواري، بدونا مرتبكتان. 

كان يمكث هناك على أريكة الاستقبال بنفس الجلسة ساعات طويلة، لا يتوقف عن وضع الساق فوق الأخرى، ولا يتوقف عن الحديث لمن يراهم فقط، بنفس النبرة الجادة التي تخلو من أى ارتباك أو التفات لمن حوله.

يومًا تلو الآخر، زيارة وراء الآخرى، اعتدت وجوده في المكان، بل توقفت عن انتظار أن يتقدم نحوي ويتبادل معي أى حوار. كان يبدو أنه يعيش في عالمه بالكلية. كما توقفت أيضًا عن استراق النظر إليه من وراء شاشة اللاب توب، بينما أبدو منهمكة في النقر على الكي بورد. "

لم استكمل النص منذ تاريخ ولادته، اكتفيت بأرشفته في ملف عنونته "أشياء لا أفهمها بالقاهرة"، مثل: عبور الشارع بينما السيارات تأتي مسرعة، إطلاق الكلاكسات بدافع الملل، الإصرار على التبول في الطريق العام دون خجل، محاولات مراوغة التصاق مخاط أحدهم بوجهي بعد أن تبرع بمشاركتنا إياه في الطريق العام، وأناس يتحدثون مع أنفسهم ونرتطم بهم في الطريق العام.

يسألني صوت بداخلي، لماذا عدت الآن إلى هذا النص، لماذا قفزت في مخيلتي هذا الرجل بينما يجلس واضعًا ساق فوق الأخرى على كنبة الاستقبال؟

أجبت فورًا: أفتقده!!

هل حركت العزلة "جثته" المدفونة في مخيلتي

هل أصبح كلانا يتحدث- في عزلته- مع أشباح يأتون من بعيد!

الآن أرى!

*****

فخ# 7: ضجيج البقاء بداخل رأسي، بينما الوقت لا يمر!

         في مقابلة عقدتها "سوزان سونتاغ" كانت تخبر كيف تبدأ القصة بداخلها بقولها: "أستيقظ صباحًا أستمع إلى الصوت بداخلي، أستسلم له بالكلية وكل ما أقوم به هو أن أتبعه". في مراحل تشكل ذاتي الكاتبة، كنت أعود كثيرً إلى مقولة "سونتاغ" المرة تلو الأخرى، غير أن بمرور أيام العزلة، لم يعد هناك "صوتًا" وحيدًا يقودني لممرات متخيلة نحو قصة لم ترو بعد، بل يبدو أن الصوت قد توالد ليصبح في رأسي "قبيلة" من أصوات تصنع ضجيجًا لا ينقطع. لم تهدأ حتى ظهرت في النص التالي:

على كل الأشياء التي تحدث في عقلي – فقط- أن تتوقف!

زيارتي لك في الثانية صباحا كى أقبلك بين عينيك وأخبرك عن أهمية تناول البطاطا الساخنة،

تذكرة السفر إلى بلد وحيدة ثم إيقاظ حاسة التذوق المعطلة بالتهام أكبر قدر ممكن من التوابل،

التحول إلى عقلة إصبع ثم القفز إلى سرة من أحب لأرى العالم من هناك،

إخبار نبتة الفلفل الأخضر التي ماتت بالأمس أني أحببتها كثيراً، 

وأني أدين لها بمعرفة مواسم الرحيل، 

ما لم يخبرني به أبي- قبل أن يرحل هو.

إطلاق الرصاص على فم أحدهم يلوك الكلمات مئات المرات، 

يسيل من شفتيه لعاب أبيض بلا معنى- يدعو للضحك!

الذهاب فورا إلى حائط قام أحدهم بتعليق صورة تبتسم، 

إزاحة الصورة، 

اخبار الحائط أن الصورة فقدت القدرة على الابتسام ،

أعقد صداقات متتالية مع عنكبوت أربيه في الخفاء.

محاولة استعادة ضفيرة باللون البني يتخللها خصلات ذهبية، 

الاستماع برفق إلى مسام جلدي المحترقة،  

الندبات التي تنبت لهباً كل ليلة يمكن تحويلها إلى لون برتقالي 

وتركه يمرح على صفحة بيضاء لكتاب التلوين الجديد.

الرائحة التي تشي بطفل خائف يجلس في نهاية الصف، 

أفهمها الآن جيداً 

وأحنو عليه جيداً 

وأغفر له بكل ماء قلبي 

أمنحه السماح للعبور نحو بكاء محبة ما باتت ممكنة.

على كل الأشياء التي تحدث في عقلي أن تتوقف

لأنها لم تحدث.

مقتطف من نص لي: "على كل الأشياء التي تحدث في عقلي"- 15 أبريل

*****

فخ# 8: الوصول ل"حافة" الخوف من الجنون !

أمنح لنفسي الإذن بالتوقف عن "ملء" الوقت بال"فعل" وأنه لا بأس على الإطلاق ألا أفعل شيئًا، حتى وإن كانت الكتابة التي أحب. لا زال بداخلي تدفقًا ساخنًا من غضب يتأجج كلما تجولت في منزلي ولا أرى غير عالمي. بينما أحاول أن أطهو وجبة، يأتيني الصوت مرة أخرى يخبرني أن أبحث عن لوحة "زيوس يأكل ابنه". الصوت يعلم أني أبحث عن تجسيد للغضب الذي يمور بداخلي.قادتني أصابعي - والصوت- نحو اللوحة المذكورة. كنت قد قمت بدراستها من قبل في سياق آخر، غير أني وجدت نفسي ك"أليس" تدلف إلى عالم "غويا" وبالأخص "لوحاته السوداء". أرسل رسالة نصية إلى صديق بسوريا مهتم بالفن وتاريخه، نستكمل نقاشًا توقف منذ سنوات لا نتطرق لشىء عن الحرب او الكورونا أو الحياة، كنا نتبادل الحديث عن "غويا" وعزلته، أو بمعنى أدق كان كلانا يختبىء خلف الحديث التحليلي عن لوحاته. كلانا شعر بالخوف، ليس خوفًا من الموت، بقدر ما هو خوف من العزلة، الوحشة، الجنون!

أعلم تلك الحافة جيدًا، أنهيت المحادثة وبداخلي نية مبيتة على فعل حركة استباقية للتحليق فوق تلك الحافة. كان لدى حيلة طفولية- أحبها جدا- أن أقرأ عن كل ما أخشاه. الطفلة بداخلي تراوغ الخوف بان تحمل بيديها الصغيرتين كتابًا. اخبرت صديقي- في رسالة نصية-  والطفلة والصوت أني في الصباح سأعكف على قراءة كتاب إيريك فروم "تشريح النزعة التدميرية"، سننقذ "غويا" ونحن وآخرين من وحشتهم ووحوشهم.

******



فخ# 9: حداد "الأربعين" يومًا!

يبدو أنني فقدت القدرة بالكلية على استحداث ما يُمكنني من المقاومة، لا أدري ما الذي أقاومه، هل الخواء أم الخوف أم العتمة من لا يقين يحتل كافة مسام جلدي. أكتب في النص التالي، عالمي بعد مرور أربعين يومًا من العزلة. يأتي الرقم ذو دلالة جنائزية، فها أنا أقف لتلقي العزاء والرغبة في الحداد بالكلية دون مراوغة أو التفاف، الحزن من فقد "الحياة التي عهدتها من قبل" أو لربما ما حركه مثل هذا الفقد من حزن لم يتم السماح له من قبل بأن يتنفس أو يتحرر قيد أنملة.

ثمة تحذير مكتوب على التذكرة
مساند مقاعد المشاهدة مزودة بمجسَّات رقيقة حادة الحواف
خلايا جلدك المحترق للمرة الثالثة،
سيتم قرضها بأسنان فأر يعبث بأثاث منسي لبيتٍ قديم.

 يوشك العرض أن يبدأ،

لكن كتيب العرض لا يذكر على وجه الدقة

كيف نبحث عمّا فُقد؟

الشاشة معتمة

ستبقى أربعين دقيقة كاملة

في محاولة أخيرة لأن تدفع خارجًا،

كإمرأة في مخاضها لا ترى رأس وليدها،

يتسرب سائل ككتيبة نمل مدربة

في أطرافك الممسمرة على صليبٍ خشبي.

مقتطف من نص لي: "تذكرة سينما"- تم نشره في مجلة أوكسجين الأدبية- تاريخ 25 أبريل

***

فخ# 10: القفز للخارج مرة أخرى، محاولة الإمساك بخيط يتقطع للحياة!

أقرر القفز في حذائي والسير لأطول مسافة ممكنة لا يمكن البقاء في متحفي المتخيل. أقرر السير قبل ساعات من الإفطار كان يبدو أن هناك "آخرين"، راقت لي الفكرة وأنا التي – في زمن آخر- أحرص على الهروب من كل تجمع بشري، غير أن سيرنا في خطوط تشبه قبيلة نمل، غادرت ملاذها لفترة لكى تبحث عن فتات الطعام. كنت أبحث عن "الوجه". خطوت الخطوة تلو الأخرى، تدفقت الدماء بداخلي، شعرت أن شيئًا يعود إلىّ من جديد، زادت الدماء حتى وصلت إلى خط مميز بجانب خدي الأيمن- بفعل الابتسام. أجبرتُ نفسي على الابتسام للغرباء، الأول ارتبك، كان رجلًا في نهاية الخمسين يرتدي قفازًا وكمامة، فاجأته ابتسامتي، استوقفني وهو يسألني "انتي من نادي الجزيرة صح؟ احنا اتقابلنا هناك؟" أوشكت على الكركرة بصوت مرتفع، أفتقد تلك الحيل الذكورية في "شقط" النساء ، لطالما تململت منها وغضبت من تكرارها، اليوم تصالحت معها بالقدر الكاف لأجعلها تمر فلا تلتصق بجلدي.

 أما الابتسامة المجانية الثانية، الثانية منحتها لفتاة ترتدي زيًا رياضيًا تركز النظر على نقطة في الهواء، ابتسمت، بادلتني الابتسامة، شىء يعود لي، يتدفق بداخلي ذاكرة قديمة عن حيلتي في توزيع الابتسامات على النساء تعلمتها منذ بضعة سنوات حين تقاطعت مع فتاة ترتدي فستانًا فوق الركبة بشارع محمد محمود، كانت مرتبكة وخائفة، أعلم جيدًا توترها ووقوفها في انتظار أن تحشر نفسها حشرًا في العربة لتختفي، بادلتها ابتسامة، عدت للمنزل ذلك اليوم بروح المنتصر وأرشفتُ في ذاكرتي: ابتسامة الطمأنينة!

في اليوم التالي اضطررت للذهاب للبنك، ارتديت الكمامة ونضارة شمسية كبيرة، بدوت مثل لص يوشك على القيام بعملية اقتحام بامتياز، جلست بانتظار الدور، كنت أرقب الجميع من خلف نظارتي الشمسية، حركات يد الرجل الثلاثيني الذي يجلس محاولًا شرح شيئًا ما للموظفة خلف المكتب، ارتفاع يده ثم فرد الكفين، تخيلته مايسترو في أوبرا، تجاوزت فكرة أن لا حفلات حية من الأوبرا بعد اليوم. الرجل السبعيني الذي يتكور في مقعده غير أن صوته يعلو بين الحين والآخر لينظم الجميع في طابور ويعيد علينا المرة تلو الأخرى "ما تقفوا في طابور، انا قاعد وعارف مين جه ومين مشي" قبل أن ينفجر في موظفة الشباك صائحًا بعزم ما فيه "مش معقول كده، مش عارفة تشتغلي اقعدي في البيت"، رغبت بشدة في الضحك الهستيري، وددت لو اقتربت منه لأخبره أننا في 2020 وأننا "كلنا يا حج قاعدين في البيت بالصلاة ع النبي، روووق كده" غير أني توقفت.

كان الاتصال الإنساني العابر يمنحني بعضًا من حياة يومية كنت أتعارك معها من قبل. منذ بدأت الجائحة وهم يكررون على مسامعنا في حال الإصابة، سنفقد حاستي الشم والتذوق. ما يزيد عن سبعين يومًا وأنا أجزم أني أفقد شيئًا آخر.

****

ما الذي يمكن أن تفعله "العزلة" بالعقل البشري؟


يشير "آمي روكاتش  Ami Rokach اختصاصي الطب النفسي السريري، الذي خصص ما يقرب من أربعين عاما في فهم "الوحشة" ان هناك فرقً جوهريًا بين "الوحشة" والعزلة. Loneliness and solitude، أما الأولى فهى على حد قوله، خبرة شديدة الخصوصية تختلف من شخص لآخر، يختبر من خلالها الفرد مشاعر مؤلمة من الهجران والنبذ وفقدان الاتصال الإنساني، بينما العزلة التي يختارها الفرد لكى يتأمل من خلال قضاء بعض الوقت في الطبيعة أو الكتابة أو إطلاق سراح طاقته الإبداعية، فذلك شىء مختلف بالكلية. إن مثل هذا التمييز بين الشعورين هو ما دفعه إلى تقصي واستكشاف "الوحشة" طيلة أربعين عامًا من الدراسة والتحليل. مما دفعه للقول بأن هناك "وصمًا للوحشة" فغالبًا لا يميل الأفراد إلى الاعتراف بها، ففي حين يخبر الشخص المكتئب الآخرين أن يقوموا بالابتعاد عنه، الشخص "المستوحش" يتوق إلى وجود الآخرين حوله ليمنحوه ما فقده من شعور بالحميمية الإنسانية وإن وجوه مقبول ومرغوب به.بقدوم الجائحة، صارت "الوحشة" على قائمة الموضوعات الساخنة التي يتناولها مجال الصحة النفسية، فقد لوحظ أن البعض أصبح أكثر انفتاحًا في التعبير عن وحشتهم دون الشعور بالانتقاص من ذلك، لأنه أصبح من السهل الآن أن يلقوا باللوم على ما فرضته الجائحة من عزلة إجبارية تساوت فيها اختيارات الجميع[ii].

إن ما تسببه العزلة والتباعد الاجتماعي من آثار على العقل والجسد، تمّ رصدها من خلال دراسة عدة مجموعات ابتداء من رواد الفضاء الذي يمضون فترات طويلة في الفضاء الخارجي والمساجين والأطفال في العزل الطبي بسبب نقص المناعة الجسدية، باحثي القارة الجنوبية (أنتاركتيكا)، وكبار السن. تركز مثل تلك الدراسات على تتبع أنماط السلوك "الانعزالي" بين المجموعات المختلفة بغية الاستنارة بعدة طرق لتقليل ما تسببه العزلة من آثار مدمرة على العقل والجسد قد تصل في خطورتها إلى ما يمكن تشبيهه بخطر تدخين 15 سيجارة يومية[2].. يشير لورانس بالنيكاس Lawrence Palinkas، الباحث في جامعة جنوب كاليفورنيا، والمتخصص في دراسة أنماط التكيف النفسي في البيئات القصوى، إلى أن "الاكتئاب والقلق يضربان بقوة في فترات البيئات المنعزلة وبخاصة حين تمتد فترة العزلة دون وجود إعلان واضح بموعد انتهاؤها[3].

تضيف سامانثا بروكس Samantha Brooks الباحث بكلية "كينج" بلندن والمتخصصة في دراسة الأثر النفسي لل"عزلة" وقت الكورنا أن الأعراض المدمرة للعزلة يمكن أن تنخفض بشكل ملحوظ في حالة "توضيح" ما يحدث، وأنه كلما زادت ضبابية الحدث أو تعرض الناس إلى رسائل متناقضة غير ذات معنى، فإن ذلك يؤثر سلبًا على قدرتهم على التكيف في مثل تلك الظروف.

في بحث نشر في 26 فبراير، قام به ما يزيد عن 7 باحثين حول الآثار النفسية المترتبة على التباعد الاجتماعي كأحد إجراءات الوقاية التابعة لجائحة الكورونا، أشار البحث إلى احتمالية ظهور الأعراض التالي: الانزعاج- الأرق- اضطرابات ما بعد الصدمة- الغضب- الإنهاك النفسي- انخفاض المزاج- سرعة التأثر والتشوش الإدراكي. بالإضافة إلى ظهور شديد لانفعالات حادة للخوف، العصبية، الحزن، والشعور بالذنب [4].