الأحد، 12 يونيو 2016

صراصير يا هانم.. صراصير!

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 12 يونيو  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة "صراصير يا هانم صراصير"- ثقافة ومجتمع


نقف ثلاثتنا أمام البناية الشاهقة في إحدى المستعمرات الجديدة بداخل القاهرة، نحمل عيونًا تلتمع ببريق الحلم، حقائب ظهر معبأة بطاقة للحياة لا تنضب، أحذية رياضية تشي بأقدارنا التي ارتضيناها في الهرولة نحو ما نحب ونؤمن به، وجاكيتات رسمية لتخفي أعمارنا الضئيلة، فلا نبدو كهواة.
نقف ثلاثتنا أمام البناية وأكاد أجزم أننا تحولنا إلى أربعة حين انضمت إلينا سناء جميل في أحد أفضل مشاهدها في فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" لتبوح بعينيها الصادقتين: 

"إحنا صغيرين أوي يا سيد".

تخطينا البوابة الأمنية مصحوبين بنغمات جهاز التفتيش الذي وشي مرارًا وتكرارًا بكل تفاهاتنا التي قد تشكل تهديدًا لحياة قاطني المستعمرة كقلم رصاص، أو بنسة شعر ضلت طريقها في الحقيبة.
أولى خطواتنا داخل المستعمرة، يلفحك الهواء البارد بفعل التكييف المركزي من ناحية وبفعل الردهة الواسعة المنتهية بباب المصعد الذي يذكرك بالباب السحري الذي تنتقل منه "أليس" إلى عوالم غرائبية. نصعد الطابق المحدد تستقبلنا المزيد من الأبواب الزجاجية التي تنفتح إلكترونيا معلنة وصولك الآمن من عالم النمل إلى عالم العمالقة.
سيدة المجتمع “الراقي، بل “سيدة القلوب” تطل علينا أخيرًا بعد أن عبرنا كل تلك البوابات، تقف مرحبة بنا تضغط على أكفنا بحرارة مصطنعة، فتهتز معها أساور متكومة كأصفاد تعتني بها جيدًا فقد تذكرها دومًا أنها قد دفعت ثمن الانتماء إلى عالم العمالقة.. كاملًا.
يظهر من خلفها دكتور "ج" يتقدم نحونا بابتسامة باردة، وأشم في كفيه روث بقرة جدي.
أجاهد نفسي ألا تفلت من شفتاي ضحكة مختلسة، فأذكره على وجه اليقين، هو نفس الشخص الذي تدرج في المناصب الجامعية معتمدًا على قدرته غير المسبوقة أن يصبح "مداسًا" لكل من يفوقه منصبا، ولا يجد غضاضة في ذلك، وهو الشخص ذاته الذي تعثرت به لحظي السعيد في سفارة أحد البلدان البعيدة وظللت أنظر إليه كثيرًا وهو يلهب الحضور بحديثٍ يجيده للغاية عن "مصر أمي"، ولأني -وقتئذ- لم أكن أعرف أن هناك قائمة من السباب ستطال السيدة التي أنجبته، كنت اكتفي دوما بتخيله "محجوب عبد الدايم" في القاهرة 30 وبخاصة في مشهده الأثير وقد نبت في رأسه -تتويجًا لجهده الحثيث- ما يستحق.
ها هو الآن أستاذنا الجهبذ ينضم إلى عالم العمالقة، فلنستمع لوصلة أخرى من العبث قادتني إليه أقدار مبهمة معه.
يحدثنا بنبرة لا تخفى عليّ عن كيف حصل على الدعم لمشروعه الضخم من أحد الجامعات العريقة في العالم الأول، وكيف أفنى شمعة الليل سهرًا وكدًا على فكرة المشروع والتي أكاد أجزم أنها لأحد طلابه المغمورين في دراسة الماجستير. يستطرد في السرد الملحمي عن كيف استقبلته الوزارة المعنية في البلد التعيس استقبال الفاتحين وكرمته اعترافًا بمجهوده المتميز في السرقة. عفوًا في دفع عجلة الإنتاج وتزييتها وتشحيمها بنقود السماسرة الذين يجتمعون حوله وهم يمارسون طقوس الولاء والطاعة الليلية، يسكرهم بأن يمنحهم ما يبحثون عنه، السيدة التي تبحث عن "قضية" تتبناها لتبدو ممتلئة أمام عالم العمالقة التي أدركت مبكرًا أن جمالها بمفرده قد انتهت صلاحيته فعليها أن تمارس عهرًا مختبئًا هذه المرة.. عهر تعيد صياغته بكل مفردات الحداثة والتنوير ولا بأس من التحدث بكثير من المصطلحات باللغة الأجنبية عن حقوق الإنسان وبخاصة هذا الإنسان ذو الملابس الرثة التي تغلق نافذة عربتها دونه وتنهره حين يقترب لأنها تخشى أن تتسخ. أو أن يفضح وسخه اتساخها التي حاولت جاهدة أن تخفيه بعدد لا بأس به من عمليات التجميل خلفت ندبة واضحة فوق أنفها، فلا تستطيع أن تحدد هل هي ممتعضة أم تعتليها الدهشة باستمرار.
يسترسل قرابة الساعة في استعراض رؤيته للتطوير التي تتعلق بإحداثي رأسي يرتبط بقوة من يدفع وإحداثي أفقي يتمثل في أن نمهد الطريق لكل من لديه القدرة أن يدفع فقط عليه أن يبرز ما لديه من قدرة مالية فتنتفح أمامه كل الأبواب المغلقة.
عليه أن يتوغل وينشر كل ما يؤمن به من قيم دون الاعتبار بالبقية.. البقية من وجهة نظره هم جحافل النمل. والنمل -كما يتراءى له في أبجديته- "كسول" لا يعمل بالقدر الكافي ولا يهتم سوى بإنجاب المزيد من النمل للحياة.
يبالغ في وصم ووصف من يقبعون على الناحية الأخرى من المستعمرة، متناسيا أنه ذات عمر كان هناك. وخيل إليه أنه عبر. ولم يدرك أن عالم العمالقة لازال يكدسه وسط جحافل النمل بالضفة التي جاهد كثيرًا ليتملص منها.
أحاول جاهدة أن استمع إليه دون أن أرى أسرابا من النمل تتدفق على جسده من كل حدب وصوب.
أكاد أهم أن ألفت انتباهه أن هناك خيطًا من النمل ينهمر من فتحة أنفه التي يعلوها كيس دهني كفنارة لوجهه، لكنني أتراجع.
يظل يرغي ويزبد عن انتصاراته الواهمة داخل مصر وخارجها، أتطلع إلى وجهه علّ أسراب النمل تغادره، لكن بلا جدوى.
يختتم قوله بأن يكشف لنا سر نجاحه المدوي: 
"أنا نجحت ببركة دعا أمي وعلشان ناس وقفوا جنبي.. 
أنا بقولكم ده علشان انتوا لسه صغيرين، 
أصلي خايف عليكو تعيطوا بعدين. 
لما تيأسوا"

ابتلع السر المقدس الذي باح به للتو مع مرارتي ورشفات متتالية من عصير الليمون المصنوع بعناية في أحد الكؤوس الكريستالية التي تليق بصباحية العروسة. ابتسم ابتسامة باهتة، انهمك في رسم دوائر تضيق على صفحة مفكرتي الصغيرة، ارفع رأسي فجأة موشكة أن أخبره بحقيقته في وجهه وليكن ما يكون، فإذ بي أجد التالي.
يقف عاريًا على مكتبه الزجاجي الأنيق الذي لا أدري كيف يتحمل عبء ثنيات جسده المترهلة، لازال النمل يحتل كل مساحات جسده المشعر العاري. ورقة توت أخيرة تغطي سوءته. يبدو كمن يهم أن يتبول على ثلاثتنا. يزيح ورقة التوت عن ثعبانه الأقرع وسط شهقاتنا واتساع أحداقنا. يتوقف في لحظة ذعر سرمدية. تسقط ورقة التوت. وقد التهم النمل أعز ما لديه. يعوي ككلب بُتر ذيله للتو.
"ريهام.. مقولتلناش رأيك إيه؟"
“متهيألي إحنا محتاجين نقرر إحنا فعلا محتاجين نعمل إيه دلوقتي، 
وعلشان نعمل ده لازم نفهم إحنا مين ورايحين على فين"
ينظر إليّ بابتسامة ماكرة "إيه ده هو أنتي ممكن ترفضي العرض بتاعنا.. لا قولي كلام غير ده”
يستأذن ثلاثتنا في الرحيل بعد أن انتهى الجميع من استعراض ما لديهم من فقرات بهلوانية، ألوذ بالصمت كمهرب آمن، أسارع بالخطى نحو البوابة الأمنية. أشعر أن الصالة الرحبة تضيق وأكاد اختنق. اتدفق مع أسراب النمل العائدين إلى منازلهم بعد أن انتهى عملهم بمستعمرة العمالقة، اتكور خلف مقود سيارتي. تطالعني صور مشوشة عن "عبد الحميد شتا". أشعر به على الرغم من أنني لم التقه من قبل. فقط أشعر به حاضرًا بقوة من خلف المقود.. أتعجب.. وأرى حبلًا سُريًا. يتشكل بيني وبين صورة "عبد الحميد".. بيني وبين أسراب النمل أينما كانت.
أرفض أن أردد ما يمليه قانون المستعمرة الأول "صراصير يا هانم.. صراصير".
*صراصير يا هانم صراصير: عبارة مقتبسة من الفنان سيد رجب مسرحية
العشاء الأخير- 2016: جسد من خلالها شخصية لواء شرطة يرى أن مصر تتعرض لمؤامرة من اليابان وأمريكا وفنلندا تحديدًا وفي عاقبة كل قصة تتعرض لأشكال القهر في مصر يختتمها بقوله "صراصير يا هانم.. صراصير".


مسرحية العشاء الأخير- الجامعة الأمريكية بالقاهرة- 2016

اللغة والثقافة المعاصرة- "شاومينج" و"الدوندوو".. وأشياء أخرى

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 12 يونيو  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة "اللغة والثقافة المعاصرة- الشاومينج والدوندوو وأشياء أخرى"


طُلب من الحاضرين في أحد ورش العمل أن يجدوا معنى لكلمة "شالوفة".. هرع المشاركون في الورشة البالغ عددهم أكثر من خمس وعشرين خبيراً لغوياً في الكشف عن هوية تلك الكلمة.
لم تكن "شالوفة" موجودة في القاموس، فعادوا بخيبة أمل يلومون على المدرب غريب الأطوار إعطائهم مثل تلك المهمة المبهمة، فما كان منه سوى أن أعاد عليهم صياغة المهمة مرة أخرى بقوله: “عليكم إيجاد معنى لكلمة الشالوفة، فلا يوجد بالأصل لها معنى”.
وهكذا انخرط المشاركون في إيجاد معنى للكلمة اللغز.
انقسمت مجموعات العمل إلى أربع مجموعات، وبعد عمل أكثر من ساعتين، كانت النتيجة كالتالي:
مجموعة#1: الشالوفة هي آداة يستخدمها المزارع لتجميع الحشائش الضارة.
– وكيف توصلتم لذلك؟
– قمنا بسؤال بعض المزارعين في الجوار، فتردد استخدام كلمة “جاروف”، فظننا أنه بالإمكان أن يصبح لدينا كلمتان “جاروف” و”شالوفة”.
مجموعة رقم#2: الشالوفة هي صفة يتم استخدامها لوصف السلوك المشين، وبخاصة للسيدات.
– كيف توصلتم لذلك؟
– لدينا كلمة عامية يتم استخدامها، وتبدأ بحرف الـ “ش”، فظننا أن الشالوفة هي إحدى الكلمات الأخرى التي يستخدمها العامة لوصف ذلك السلوك، كما أن وجود تاء التأنيث بنهاية الكلمة، أوحى لنا بما لا يدع مجالأ للشك أن الكلمة تنتمي لعالم النساء لا محالة.
مجموعة #3: الشالوفة هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى السلام النفسي الكامل.
 كيف توصلتم لذلك؟
 كنا سمعنا من قبل أن هناك النيرفانا، فافترضنا أنها إحدى تلك المراحل المتقدمة التي يخوضها الإنسان المنهك في الحياة ليصل إليها.
 هل لديكم إثبات لذلك؟
 لا لقد افترضنا ذلك، طرحنا الافتراض ولاقى قبولاً في المجموعة.
مجموعة#4: الشالوفة هو نبات يتناوله المناهضون لتناول اللحوم، ويمكن طهوه بإضافة الماء أو المرق أو الحليب.
 كيف توصلتم لذلك؟
 قاربنا المفردة مع مفردة الـ”شوفان”، كما أننا طرحنا نقاشاً في المجموعة حول المسميات المختلفة الغريبة التي نسمعها يومياً عن أنواع الحميات الغذائية النباتية.
 هل لديكم إثبات لذلك؟
 لا.. لكننا كمجموعة اتفقنا تماماً أن نستخدم كلمة “شالوفة” من الآن وصاعداً كما ذكرنا سالفاً.
انتهى التدريب، ولم يتوصل المشاركون لإجماع حول معنى لكلمة “شالوفة”، ولم يكن هدف المدرب منذ البداية التوصل إلى معنى محدد، وقاطع لتلك الكلمة المبهمة، بقدر ما كان يهدف إلى الإشارة إلى عملية إضفاء المعنى على الكلمات، وطرح جدلية لم تحسم في ذلك التدريب “من يأتي أولاً.. الكلمة أم المعنى؟ وكيف تشكل الكلمات الوعي الإنساني” (1)
*******************
ظهرت مؤخراً على الساحة المصرية مفردتان لا تبتعدان كثير عن موقعة “الشالوفة” المذكورة أعلاه، ألا وهما “شاومينج” و”الدوندوو”.
على عكس “الشالوفة”، لم تكن المهمة هي البحث عن معنى لكل مفردة، بل كان فض الاشتباك الناجم حول ما تمً تحميله لكل منهما من جدالات ونزالات فكرية، تنتهي دوماً بسيف الأخلاق البتّار، الذي يفاجئنا هذا الشعب العظيم في هذا التوقيت الأعظم باللجوء إليه طيلة الوقت، وكأنه ورقة التوت الأخيرة التي ستضمن له عبورا آمنا فوق صراط يراه -وحده- للجنة الموعودة، أو هكذا يظن.
“شاومينج” مفردة لا تنتمي للغة الصينية، بعكس ما سيظن من يسمعها للمرة الأولى، بل هي في واقع الأمر تنتمي إلى عالم من الفانتازيا الذي قرر صاحبه الذي لم يتجاوز العشرين ربيعاً أن يستخدمه في التعبير عن غضبه وسخطه من منظومة لا يختلف اثنان على مدى بؤسها وترديها يوماً بعد آخر، ألا وهي منظومة امتحانات انهيار الإنسانية في الثانوية المصرية.
“شاومينج” تعيد إلى الأذهان تلك القصة الخيالية التي كتبها “كوري دوكتورو” بعنوان “الأخ الأصغر”، والتي تحكي قصة “ماركوس”، الذي تمكن من اختراق النظام الإلكتروني الصارم الذي وضعه مدير المدرسة الفاشي، والذي يتمثل في وجود شريحة إلكترونية في أحذية الطلاب ليتمكن من تتبع مساراتهم داخل المدرسة و خارجها، ولم يكتف ماركوس وأصدقاؤه من اختراق هذا النظام، بل حين تعرضوا للاستجواب والتحقيق لاحقاً بسبب مصادفة عجيبة، قرروا أن يفرغوا شحنات غضبهم في السلطة القاهرة متمثلة في وزراة الأمن الوطني ذاتها.(2)
فلنعد إلى القرصنة بالنكهة المصرية الخالصة، حين ظهرت “شاومينج”، ظهرت كتطور طبيعي لوسائل الغش المتعارف عليها، ففي وقت الانفجار التكنولوجي تزلزل عرش البرشامة التقليدية، وتمكن أحد ضحايا الثانوية العامة من تسريب الامتحانات مرفقة بنماذج الإجابة لغيره من البؤساء في المارثون السنوي لتكديس الدرجات. فما كان من متحدث وزارة التربية والتعليم إلا أن يخرج معنفاً الجماهير العريضة أنه حان الوقت للغلق الفيس بوك، مستكملاً مسيرة الدولة الرشيدة في معالجة الأزمات (3).
إن ما يثير التأمل في موقعة الـ”شاومينج” هو محورا الخير والشر اللذان يسارعان دوماً لصب اتباعهما في معسكرات مستفزة للانقضاض على الآخر، ففي معسكر الخير، والذي يجمع بعض رفاق الثورة الحائرين الذين لم يتعافوا بعد من أزمة انهيار الملحمة، يرون أن “شاومينج” هو فعل ثوري يستحق التمجيد، فليبارك الرب تلك المحاولات الضئيلة لزعزعة الأنظمة المتعفنة الكبرى.
لكن ما يغيب عن هذا المعسكر الـ”نقي”، أن “شاومينج” قد فقدت ثوريتها -بالنسبة لكاتبة هذا المقال- يوم أن أعلن صاحبها عددا من المطالب المهترئة التي تليق بأحد بيانات مؤتمرات إصلاح التعليم، والتي تبدأ بافتتاحية ضخمة حول واقع التعليم المأمول للمستقبل وتحديات العولمة، وتنتهي بسؤال الحاضرين عن أين ومتى سيتم افتتاح البوفيه!
كان يمكن لصاحب “شاومينج” أن يعلنها بسيطة.. بلا أي عمق أو ادعاء.. فقط يعلنها صراحة: “طز فيكو يا بتوع الثانوية العامة”، وستكون تلك رسالته في تثوير قطيع الثانوية العامة البائس، وستكتمل نبوءته، ولربما سيصبح لها مريدون.. لكنه لم يفعل.
في حين أن الجانب الآخر رأى في “شاومينج” فعلاً لا أخلاقياً بكافة المقاييس، وما يغيب عن أصحاب هذا المعسكر الـ”نقي” أيضاً، أن المشهد برمته لا أخلاقي من بدايته، وحتى تقوم الساعة.. ما يغيب عن هذا المعسكر المتعالي دائما بقبضته على جمر الأخلاق وأن الذين يقبلون هذا الفعل “قليلو الأدب”، و”قليل الأدب” هي الصفة التي التصقت بشريحة عمرية بأكملها، وهي علامة على انهيار الدولة المقدسة.
ما يتغافل عنه أصحاب هذا المعسكر -وكثيرا منهم يمارسون هوايتهم المفضلة في إصلاح “التعليم” من داخل منظومته المهترئة- أنه في نفس الوقت قامت الدولة المقدسة بتخصيص لجنة “مميزة” كعربات القطار لأبناء الفئة الناجية من هذا الوطن بمحافظة أسيوط، ليتم تمرير الغش لهم بكل أريحية، وتم التغاضي عن ذلك تماماً.
وبين هذا وذاك يقف باقي القطيع حائرين بين ما يمكن أن يكون صائباً في موقف لا يحتمل الصواب أو الخطأ.. يمارسون أدوارهم بكل اتقان في مهزلة الثانوية العامة عاماً تلو الاخر.
ولم يتوقف أحد ليمنح “شاومينج” دلالة واضحة يمكن الاتفاق عليها، فلربما في عام 2050 سيصبح لدينا نظام تعليمي متطور يقوم باحتضان المقرصنين، ولربما سيكون لدينا عام دراسي يدعى “شاومينج”.

*******************
من ناحية أخرى، فإن التشابك بالألسن حول “الدوندوو”، يحمل قدراً من الطرافة  والخفة، تليق بحفلة التفاهة.
بين عشية وضحاها، تمّ تحميل كلمة “الدندوو” -تلك الكلمة التي حملها أحد إعلانات فقرة رمضان الاستهلاكية- دلالة ومعان وسياقات وقضايا تستحق النضال، أكبر مما تتسع له الكلمة ذاتها، وانبرى كل معسكر في إجلاء الغشاوة عن أعين الجماهير المغيبة عن عمق المأساة.. هي بالفعل مأساة لا تتحملها كلمة الـ”دوندوو”، بل نتحملها نحن كأبناء مخلصين لحقبة الانحطاط التافه في كل شيء.
كان يمكن أن تمر.. فقط لو وجد كل منا قضية بحق للدفاع عنها، وأن يسير فيها خطوات حقيقية دون أن ينصب نفسه حامي حما الأخلاق الذي لا تفوته شاردة ولا واردة.. كان يمكن أن تمر، دون أن ننزلق في معارك بلا لون أو طعم سوى الخسارة التي بتنا نجيدها تماماً.
*******************
شالوفة.. شاومينج.. الدوندوو.. ثلاثتهم انتصار لخيال أصحابهم.. ثلاثتهم استطاعوا أن يلقوا حجراً في المياه الآسنة، في حين أن الأولى أثارت ملكة التفكير والتساؤل، إلا أن الاثنتين الأخيرتان لم تفعلا شيئا سوى زيادة حالة إعادة إنتاج الفراغ الذي بتنا بارعين في تشكيلها ومنحها قبلة الحياة بين الحين والآخر، وحين يبلغ بنا اليأس منتهاه، نضفي صفة “الأخلاقوية” على جدالاتنا، لتكتمل المأساة، والتي تليق بها مقولة عبد المنعم مدبولي مخاطباً زوجته، التي تصر على أن تبدو مائدة الطعام عامرة بالرغم من فردة شرابه المقطوع: “أهم حاجة البوفتيك.. الناس هتقول إيه.. لازم البوفتيك”

______________
هوامش:
(1) تمرين الشالوفة: تدريب الأستاذ صوما بنجامين: التفكير الابتكاري في التعليم – لبنان- 2012″.
(2) الأخ الأصغر: كوري دوكتورو -ترجمة أميرة علي عبد الصادق – مؤسسة هنداوي للثقافة والتعليم 2014.
(3) “إحنا هنقفل الفيس بوك بكتيبتين” – أقوال خالدة 2016 (مش هنقول مين علشان الأشرار).