‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتابة إبداعية، شعر، اللغة العربية الفصحى، قصائد، ديوان منشور.. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتابة إبداعية، شعر، اللغة العربية الفصحى، قصائد، ديوان منشور.. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 14 ديسمبر 2018

ماء وظل وحديقة

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 239- ديسمبر 2018

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الشاعر والروائي زياد عبد الله.

****

ماء وظل وحديقة



كان هناك يقف على الجهة المقابلة لباب الغرفة يطرق بمحبة

كنت أقف على الناحية الأخرى، اختبر مدى صلابتهم، محبتهم، صبرهم

هكذا أتيت إلى الحياة،

لابد أن تأتي المحبة قاسية، غليظة، وشحيحة

وحين لا تحدث فهي خطأهم، هم- فقط- لا يستحقونها

هكذا تمّ التدوين على حوائط بيت قديم

لابد أن نختبر الأشياء جيدًا

فالأشرار بالخارج ينتظروننا دومًا

أنيابهم تقطرُ دمًا

وهم بحاجة ل"دمٍ نبيل" مثل دمائنا المقدسة.

لابد أن أصنع بيدي الصغيرة أفخاخًا طيلة الطريق لاختبر كل شيء،

المحبة،

الصداقة،

المسافة التي تبدو حديقة ممكنة

لابد من اختبار كل شيء

هكذا أتيت إلى الحياة.

 بكفي الصغيرتين انهمك ليلًا في بناء أفخاخٍ محكمة

يأتي النهار، أنسجها كعنكبوتٍ عاش ألف سنة يرتقب وصول فريسته

أهنئ نفسي على شراك

المعرفة،

المهارة،

والرؤية

وتصويب السهم في شغاف القلب بلا رحمة

أعود كل ليلة

الفخاخ تبتلع الجدران المعبئة بصدأ يتوارى عن أصابعي، غير أنه يتكاثر كل ليلة

اللون ينسحب ببطء كرجل أقعدته الحركة، غير أنه يود المغادرة دونما التفات

أمر على البيت، أكاد ألحظ استغاثة مكتومة

اكتمها بكلتا يدي، ثم أعاود الانهماك

يتوجب أن أصنع فخاخاً محكمة

الذئاب آتية لا محالة

هكذا أتيت إلى الحياة.

 كان هناك طفل بعينين يملؤهما فرحٌ لم اختبره من قبل

يقف على الجهة المقابلة من باب غرفتي

يخبرني أن أنظر إلى تعرجات عروق ورقة شجر خضراء سقطت للتو في الخرج

وأن لأمها الشجرة تعرجات باللون البني على بطنها يتغنج كلما تدفق الحليب من ثديها

يكركر بصوتٍ أعرفه، ثم يستدعي السكينة لبرهة ليخبرني:

"خذي يدي ،

"خذي يدي،

"خذي يدي

سترين أن لنا جميعا مسارات متعرجة من التيه والالتقاء والكشف

وأن راحة يدك تتجذر لنفس العائلة"

أوصد الباب بقوة،

أنعق بصوت يرجف قلبه

"هذا هراء!!

الذئب قد يأتي في كل لحظة

يتوجب أن يكن لدي فخاخ كافية"

 بالأمس كنتُ أنصب فخاخا جديدة على الطريق المؤدي للبيت

تعثرت برجلٍ شدني شدًا من ياقة ثيابي

أمسك براحة يدي بكل قوة

استدعيت حيلتي الطفولية القديمة في إدعاء الشجاعة

أن أحدّق في عينيه مباشرة

كان هناك سائلًا أخضر دافئ  يتدفق منهما

يخبرني بسكينة أن أكف عن الهرولة

"لا أحد هناك

لا شيء هناك

لا هناك على الإطلاق

ابقي هنا

لمرة واحدة وأخيرة

ابقي هنا"

كان شيئًا حقيقيًا ينبت من بين عينيه

تركت له راحة يدي

أخذها برفق

-دون أن يشيح بنظره عن وجهي-

أعاد كفي إليّ

أراحها على موضع قلبي

دون أن يشيح بنظره عن وجهي

السائل الأخضر المتدفق من عينيه برفق، انساب على ذراعيه

ككتيبة نمل تعرف جيدًا أين تسير

شيئًا فشيئاً

بينما يتمتم

"أما آن لهذا القلب أن يستكين

ابقي هنا

لمرة واحدة

وأخيرة

لا أحد هناك

لا أحد"

انساب النهر الحبيس من عيني لسنوات ممتدة

أغشتني السكينة

راحة يدي ما زالت تحتضن قلباً يرتجف

غير أني شيئا فشيئا فتحت عيني

كان حولي

ماء

وظل

وحديقة.


الخميس، 15 نوفمبر 2018

مسدس

قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 238- نوفمبر 2018

 مجلة "أوكسجين" مجلة نصف شهرية ثقافية إعداد وتحرير الروائي والشاعر زياد عبد الله.

*****

مسدس



في طريق العودة إلى المنزل يبدو كل شيء بلون براز شخص مريض

حين توقفنا الاشارة الحمراء للعبور نحو الجحيم بعينه

تراودني فكرة أن أوقظك من مخدعك وأنهال تصويباً على كل البشر:

الشخص المتأفف بجوار زوجة لا تخبئ كراهيتها في العربة المجاورة

عامل "الدليفري" المنخرط في سماع أغانٍ ليهز أوتار الخواء بأي فعل أو إعلان للوجود

أطفال يحشرونن روؤسهم حشراَ في نوافذ العربات ليمارسوا فعل الشحاذة

امرأة تقود عربة فارهة بمفردها يتدلي من شفتيها سلك أبيض تختلس عبره ضحكة بين الفينة الأخرى.

سأفرغ معدتك فيهم جميعاً

و سيشكرونني لاحقاً علي جميل صنيعي.

أخرجك بالفعل من حقيبتي،

أنهزم أمام اكتشافي المتأخر للجبن

أصوبه نحو نفسي

يخترقني صوت السائق هل يتوجب عليه أن يسير يمنة أو يسرة؟

أصل المنزل في تمام الساعة التاسعة،

وصول مبكر يليق باستقبال الثقل فأنا لا آوي إلى الفراش قبل الثانية عشرة

إذن هي ثلاث ساعات سنقضيها سوياَ

أضعه أمامي

أدور حوله في دوائر يقصر و يطول قطرها.

أشعر بتنميل خفيف يزحف في قدمي.

أستريح

أعدل جلسته ليتمكن من رؤيتي و أتمكن من النظر في فوهته.

تمنعني هشاشتي وخيبتي من استخدامك.

وتمنعك صلابتك في ممارسة مزيد من القسوة عليّ

يمتد الصمت بيننا طويلاً

تختمر في رأسي فكرة مدهشة

بدلا من أن يصوب أحدنا سهام الترقب نحو الآخر

فلنعقد صداقة مؤقتة

لكن كيف سنبدد الوقت بعبء الصداقة المؤقتة

سأخبرك بما أجيده

سأقص عليك حكاية

وسأسألك أن ترسمها علي هذا الجدار الأبيض

فاستمع جيدا.

لنرسم بالطبشور عل الحائط جسد رجل ..لنقل إنه في السبعين،

ارسمه طويلاً ذا شعر كثيف وعينين عسليتين

بل ارسمه طفلاً في الثامنة

كُسرت للتو لعبته المفضلة فشعر بالوحدة

بل ارسمه كبالون باللون الأصفر أفلته نفس الصبي فلم يلمس أرضاً قط.

لا تضحك عليّ كثيرا

أنا أحاول مساعدتك

فلنعد للبدء

ارسمه رجلاً طويلاً

في السبعين

شعر كثيف

عينان عسليتان

ارسمه وحيداً

يتحسس جراب مسدسه بين الفينة  والأخرى

املأ تجويفه خوفا

لربما تركته أمه يوما ما

ربما تركه الجميع

ربما أنت يا صديقي المسدس، الوحيد الذي لم يتركه

كنت صديقاً وفيا إذن

فلتصنع مكان لك على الرسم أيضاَ

هكذا

تبدو الصورة أكثر وضوحا

رجل وحيد

عيناه عسليتان

يملؤه الخوف

يتحسس مسدسه

اقتربنا كثيراً

لكن لازال هناك ما هو ناقص

شيء حقيقي ناقص!!

لربما شيء حميمي!!

لربما تركناه في خزانة المشفى الخشبية

موقنة أن هناك شيء ناقص في الرسم.

ستأتي أمي بعد قليل

وسيتوجب علينا إزالة كامل آثار الرسم على الحائط

لكن كيف يمكننا إزالة الذي لم يكتمل

فلترسم طفلة في الثامنة

تقف علي باب غرفة أوصدوا بابها جيداً

 تنظر من ثقب الباب

إلى رجل

وحيد

وخائف

ويتحسس مسدسه طول الوقت.

اكتمل الرسم

فلنزيله سريعا

ونغسل أيدينا جيداً

لنبدو أطفالا مهذبين

تفوح منهم رائحة الديتول

ويربعون أذرعهم حول صدورهم  ضرورة الأدب

أمي قادمة

وسيكون لزاما أن أخبرها أنني ما زلت أتقلد المنصب الأول في المدرسة

ليس هذا فحسب

سأخبرها بأنه تمّ اختياري لأداء دور البطولة في المسرحية النهائية

و أني قمت بحفظ النص كاملا غيبا

ستأتي أمي بعد قليل

سأخبرها كل شيء

سيتوجب علينا أن نمحو الرسم من على الحائط

يجب أن يكون المنزل نظيفا

وضيقا

حين يرن جرس الباب

سأهرع إلي الشراعة لأتبين وجهها

سأستعير وجه أبي

وأحباله الصوتية

سأغلق الباب في وجهها جيداً

سأعود منتصرة إلي أبي لأخبره، كي استحق محبتي

أخبره بالفعل

هو لا يراني

لا زال يتحسس مسدسه

هناك بصمة أصابعه و أصابعي و فوهة مصوبة نحوها

فلننتهِ من الرسم سريعا

بل نزيل بأسرع

يتوجب أن يكون كل شيء نظيفا

وضيقا

كمنزلنا

أو كمشفي

اللون الأبيض ينبعث برائحته العطنة من كل صوب

ها نحن ذا انتهينا من الرسم

فلنحتفل

سأطلب مراقصتك

سأعيد توجيه فوهتك هكذا نحو الأرض

سألف ذراعي حول خزانة الرصاصات الممتلئة

أي نوع من الموسيقا تحب أن نرقص عليها؟

آه تذكرت ليس بإمكاننا تشغيل الموسيقا

فأبي يرتبك حين يحضر اللحن

أبي يرتبك حين تحضر الحياة....أو تتخلى عنه

فلنرسم إذن

رجلاً وحيداً

وخائفاً

يرتبك

فيتحسس مسدسه بين الفينة و الأخرى.

أتعلم

لطيف أن تكون من دون أذنين

أنا أيضاً مولودة بعيب خلقي أسماه الأطباء بعد فترة "بعثرة الحواس"

أذني تحتل مكان عيناي، بينما عيناي تتجولان في مكان آخر.

فلنصنع لحناً إذن و ليكن لحنا سرياً

لا اغضب به أبي

ولا أريد أن تنهمر أمي في نوبات بكاء مستمرة جراء اتساخ الجدران

ولأن سجادة الصالون الذي لم ينفتح لأحد لم تبسط بطريقة لائقة

أو لأن اللحن يشي بقصة حب لم نخبرها بها

لنرقص إذن في لحن سري

دقت الساعة

إنها الثانية عشرة

لقد عبرنا يا صديقي

الساعة الثانية عشرة!!

الثقل يعلن حضوره المستبد

المنزل نظيف جدا

وضيق

أنت لا تزال محتفظاً بالعدد ذاته من الرصاصات.

رسمة الطبشور علي الحائط الأبيض لن يراها سوانا

ورجل وحيد

وخائف

يرتبك

يتحسس مسدسه بين الفينة والأخرى.

الاثنين، 15 أكتوبر 2018

كان طفلًا

  قصيدة منشورة بمجلة أوكسجين عدد 236

مجلة أوكسجين هى مجلة نصف شهرية ثقافية برعاية الشاعر والروائي السوري زياد عبد الله


كان طفلاً في الأربعين خلفت له الحياة تجويفاً أبدياً

وضع الأطباء أحباله الصوتية في كف يده

وحفروا بمناشيرهم تجويفاً في منتصف عنقه

لم يعرف بيديه العاريتين كيف يردم حفرة

استيقظ ذات ليلة

كوّر أطرافه الأربعة

انسل داخلها

لربما صادفه أشرار قابعين هناك سلبوه طعامه وصوته

لربما ارتكن إليها كهفاً آمناً يكفيه نبذ العابرين

لقد ابتعله تجويف عنقه عشرون عاماً أو أكثر.

استيقظت اليوم باكرأ لأسرق سلماً لأصعد إلي عنقه

حين وصلت إلي مبلغ تجويف رقبته

نظرت طويلاً

غمرتني العتمة

هممت بالنداء عليه

لم تتحرك شفتاي

صوتي سقط وأنا أتسلق سلماً لعنق أبي

مددت أطراف أصابعي علني أجده في تجويفه

أصابع كفي يدي صغيرة جدا

وهو يعلم ذلك

أصابعي لا تصل إليه حيث يرقد في عتمته

ليتني استطيع أن استحضر أليس من عالم عجائبها

فتمنحني مشروباً سحريا لتستطيل أصابعي

علًني أصل إليه

أو لربما ستمنحني يداً أخرى تمتد لتربت علي جبينه

وتخبره أني آتية بعد قليل.

فلتخبروه أني أتيت

وأني مارست أولي السرقات

وأولي خيباتي

وطرقي الأبدي علي باب حزنه

وأني أتيت

وبحثت عنه

وعدت بلا صوت ((ه)).

***

كان طفلاً في الخمسين

كان يحلم أن يصنع ماكينة لصنع الآيس كريم

أتاني صوت سيدة تدعي أنها أحبته

لقد ترك لها وعاءاً معدنيا ضخماً و ملعقة خشبية

وحلماً مبتوراً يحول فيه الغيمات إلي غزل بنات

ثم يستخلص السكر من طياتها ليغزل منه حلمه القديم

أتاني صوته يخبرني أن أحمل الوعاء و الملعقة الخشبية

وأن أكمل ما بدأه

صيد الغيمات بلون الحليب

إضافة قطرات من سكر المحبة

التقليب لما يقرب من عشرين عاماً

الاختفاء حتى ينضج المزيج

في كل ليلة أنظر إلي وعاء معدني

وملعقة خشبية

وغيمات تفوح منها رائحة قطن دم متخثر

ولا أجده

أعيد الاتصال بصوت المرأة

لا تجيب

لا أحد يخبرني ماذا أفعل كل ليلة

بوعاء معدني

وملعقة خشبية

وغيمات يتساقط منها هو

لا أحد

أستجمع أطرافي الأربعة

وأتكور في الوعاء

أمارس لعبته الأبدية في الاختفاء.

***

 كان طفلاً في الستين يحلم أن يبني بيتاً

حمل ماء قلبه، أحباله الصوتية في راحة يده

ختم والده من أربعين عاماً من التيه والشتات

استجاب لنداء قلبه في أرض عارية كروحه

غرس قدميه فأنبتتا شجرة صنوبر كبيرة

تقبع على مدخل بيته

خلع عنه كل ما لايشبهه

لم يكن حداثياً، كان يكذب

لم يكن متحضراً، كان يعي أنه يكذب

لم يكن مناضلاً، كان عاجزاً عن أن يكذب.

لم يكن...كل ما ظن أنه هو

أربعون عاماً من التيه

أربعون عاماً يرتدي وجوهاً لا تشبهه.

حفر مقبرة في الباحة الخلفية

أقام حفلاً يليق بالجلد المتساقط عنه

ردم بعظامه المقبرة

في الصباح تحولت لأشجار مانجو تطرح ثمارً لم يتذوقها أحد.

كان طفلاً في الستين يحلم أن يبني بيتاً

يسير فيه عارياً ووحيداً.

***

 كان طفلاً في السبعين يحب الله كثيراً

جمع كل ما آمن به أهل الأرض في حقيبة سوداء

أسكنها أسفل وسادته

يستيقظ كل صباح ليتناول جرعته الإيمانية

يردد في صمت تعاويذ الصبر

يحرك ما تبقي من أطرافه بإيقاع منتظم

يطوف حولها باتجاه عقارب الساعة بلا ملل

أحب الله

وما أحب نفسه

أحب حقيبة الإيمان خاصته

حين منحوني الحقيبة ذات صباح

بحثت طويلاً

لم يكن يحب نفسه

وما أحب الحياة

كان يحب الله كثيراً

كان يحب الموت أكثر.

***

 في الخامسة والسبعين بتوقيت انتظار ما لايجيء

يستيقظ صبيحة كل يوم

ماداً ذراعيه في الهواء

ظهرت السيدة صاحبة الصوت

تخبرني أن أصنع من أصابعي جسراً علًني ألتقي معه.

أتأفف من وجودها بالأصل

أكاد أخبرها

أنه يمد يديه مستقبلاً أشخاصاً قادمين

فلتصمت للأبد

وجودها دوماً غير مُرحب به

أجرجر ساقيّ وأغادرهما

أتعثر بظله حين أهمّ بعبور الشارع

يسحقني صرير عربة مارقة

في تقرير الجثة النهائي

هناك كدمات زرقاء علي الجسد

وعاء معدني ضخم

ملعقة خشبية

حقيبة سوداء

وعبارة كتبها الطبيب

"مصابة بتجويف في العنق...

يبدو أنها فقدت أصابعها في محاولة الإمساك بشيء."

***

الصورة من مجموعة أعمال بعنوان "لوحات العلبة" للفنان والكاتب المصري محسن البلاسي