مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 9 مارس 2017
موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.
1- فلنكتشف معًا!
طفلة ناجية من المرض "البطّال" الذي تخفو أصوات المحيطين حينما يُعلن وجوده في الجملة فيتهامسون، يميلون برؤوسهم نحو بعضهم البعض يتبادلون همهمة أشبه ببحارة في كابينة القيادة يتعاملون مع رسالة إنقاذ لربما تأتي من شاطيءٍ آخر، ثم يتذكرون حضورها فيلتفتون إليها محملين بوابل من طلقات الرحمة والشفقة التي لم تعيها في سن صغيرة وتأرفضها بالكلية حين فهمت، تتعايش معها بطرق مختلفة حين تصالحت منذ سنوات مع نفس المرض البطال. تلك الطفلة لم تدرك معنى أن يكون لها "نزفًا" كزائرٍ متكرر في سنوات عمرها. وأن هذا "النزف" سيظل صديقها الذي بات عليها أن تقترب منه لتتأكد أن الأمور بخير. لتتأكد أن ما تناولته من جرعات علاج طيلة حياتها لم يؤثر على "طبيعية" جسدها.
تخبرها أمها أنها حين وُلدت، وهي لم تكمل بعد اليوم السابع لوحظ هناك دم في شراشفها، التفت السيدات والأقارب المهنئين ليس بأول طفلة في العائلة بعد قافلة الذكور فحسب، وإنما الطفلة الوافدة ذات "النزف" المبكر جدًا لديها "فائض" أنوثة. مما سيمكنها مستقبلًا من المنافسة بشراسة في معركة التخصيب الكبرى
لم تع تلك الطفلة في سن الحادية عشر بأحد أيام الصيف القائظة، ماذا يعنيه هذا "النزف" ولِمَ يتوجب عليها أن تتوقف عن ملاحقة أخوتها الذكور وبخاصة في ركوب الحمير عند الزيارة السنوية لمزرعة الجد، "ما ينفعشي تركبي حمير كده خلاص" لم تكن هواية ركوب الحمير هي الأثيرة لديها، فهي تحفظ تعليمات طبيبها الخاص جيدًا كما ألقمتها أمها كل تلك التعليمات المبكرة، كما ألقمتها ثديها في مرحلة أبكر. كان ما يزعجها هي أنه تم "منعها" وستصبح وحيدة مجددًا.
العالم الوحيد الذي عرفته هو عالم أخويها اللذين يكبرانها بعشر سنوات، لكنهما كانا من السخاء الكافي لدعوتها لعالمهم الذكوري الفظ، بدءًا من القفز من نوافذ المنزل في الطابق الأرضي، ونهاية بتلقينها ما يتوجب عليها فعله وممارسته إذا ما تحرش بها أحد الصبية في فناء المدرسة (ابقي اديله شلوت في …. وهو هيخاف). كان عقلها يدور كالرحى في تساؤلات لا تجد لها إجابة سوى أعين أمها الممتلئة بالفرح والحزن معًا، حين تفتحت عيناها على حقيقة ما عانته سويًا من قبل، أدركت أن الأم عانت ألمًا مضاعفًا بسبب المرض القديم، فهي كانت تخشى أن يكون أحد تبعاته أن تفقد ابنتها الأثيرة جدًا "فائض" الأنوثة. الطفلة التي يومًا "نزفت" وأرهفت السمع لمكالمة عابرة من الأم لطبيب، أصبح فردًا في العائلة وأصبحت العائلة تصنع منه ملاذًا آمنًا في نوبات الارتداد المحتملة، أدركت أن هذا النزف علامة أن الفتاة تنمو بشكل طبيعي، وأنها تعافت تمامًا من آثار ما خلفته الخلايا المتوحشة في جسدها.
2- فلنحتفل معًا!
أصبح النزف في بداية الأمر بالرغم مما يسببه من مضايقات جسدية وتضييقات مجتمعية لم تفهم معناها، وسيلة الأم وطفلتها للاحتفال أنهما صنعا من تجربتهما الخاصة جسرًا وعبرا من خلاله إلى أقصى وأقسى مناطق الهشاشة في روحيهما وإلى كهوف الغضب القابع بداخلها تراكمات الخوف من أن يجيء ما لا نشتهي. ولأنهما عبرا معًا فقد اصطلحا على أن يصنعا معًا احتفالًا يضمهما فقط حيث يلتقيان كل "نزف" ولا تتم دعوة أحد سواهما. يدلفان إلى غرفة الأم التي تفتح لها خزانتها المحرمة على الآخرين، تترك ابنتها "الأثيرة" ترتدي ملابسها وتشير إليها بركن سري حيث ترى الطفلة أكوام من رؤوس بشرية مفرغة في قصات شعر متنوعة وألوان عديدة، تدعوها الأم كهفها الآمن وتبدأ مراسم الاحتفال بمقولة الأم: "ما تجربي تلبسي الباروكة دي". تنطلق الفتاة كالسهم ترتدي الرؤوس فوق بعضها. تنظر إلى ما أصبحت إليه في المرآة. تنخرط في ضحك هستيري وتلمع عينها بالسؤال لوالدتها: "إيه رأيك، أنا كده حلوة!".
تجيبها الأم: "لأ. انتي حلوة بشرطتين" وتعيد عليها قصة "فائض الأنوثة" الأولى. تتركها تلهو بـ"مكملات" الأنوثة. وتنهمك الأم في ترديد لحنها المفضل "أمورتي الحلوة". وتستمران حتى تبدأ قرعات الأعضاء الذكور المنبوذين خارج نطاق الاحتفال، يبدأون بالضرب على الباب المغلق الذي تتصاعد من خلفه ضحكات لا يعلمون مصدرها، فتدرك حينئذ الأم وابنتها أنه قد حان الوقت لإسدال الستار على حفلهما "فائض أنوثة".
3- فلنبُح بما أردنا صدقًا أن يُقال. وبخلنا به!
تشب الفتاة المكيرة عن الطوق، تنطلق في معارك الحياة ترفض ما يُقدم لها من وجبات معلبة سابقة الطهي حول تعريف "الأنوثة"، تتذوقها وتلفظها جميعًا. تشعر أنها لا تنتمي إلى عوالمٍ تبدو فيها النساء متشابهات، يرددن نفس العبارات المجوفة دون أن تخبرها إحداهن هل كان لدى أي منهن يومًا حفلة كالتي دشنتها والدتها "فائض أنوثة"
تتحاشى الفتيات في عمرها التحدث عن "نزفهن" الشهري، ينزوين في صمت يستسلمن لموجات التهكم من أقرانهم الذكور بالمقولة الخالدة "آه هو القمر بيعيط". حين ألقاها على مسامعها حبيب عابر من قبل استوقفته، كانت العبارة تبدو وكأنها مألوفة لكنها لم تسمعها من قبل وأجابته "أيوة والقمر يعيط ليه، جزمته ضيقة مثلا!" كانت تتهكم على ضحالته بإطلاق إيفيها ساخرًا تعلم جيدًا أنها بذلك تريد أن تُفسد عليه متعته في تحقير ما تمر به، لكنها لم تعلم على وجه الدقة "لماذا يقولون مصطلح الذكور القمر يبكي، دون أن يذكروا -صراحة- النزف؟"
في كل قمرٍ، وكل حبلٍ سري أرادت أن يمتد بينها وبين من أحبتهم -أو هكذا توهم لها ذلك- كان الطرف الآخر يخبرها دومًا أن عليها أن تتبع "مكملات الأنوثة" كتلك التي ارتدتها يومًا من خزانة والدتها. فعليها أن ترتدي تاج الحياء "وتبص في الأرض، وبلاش تبصي في عين اللي بيكلمك، ابقي وطي صوتك".
صوت البنت لازم يبقي رقيق كده: "الانسحاب من الحياة". "الغموض كشرط أساسي لترقب ولهفة الصياد". "ابقي ضمي رجليكي محدش يقعد ويفرشح روحه كده". "ماتقوليش رأيك بالقوة دي. أومال أنا هقول إيه". انتقلت من علاقة إلى أخرى وكان يبدو أن جميع الأطراف الأخرى أصروا على ارتدائها "“بورايك" تمّ الاتفاق عليها مسبقًا لتحصل على صك المحبة. كان الأمر يبدو مغريًا أمام خزانة والدتها. كان الأمر يبدو وكأن هناك كثيرًا من المرح حينئذ. لكن ما يطرحه من يفترض أن يكن رفيقًا كان مصطنعًا أشبه بالوقوف أمام قفص ببغاوات يتسابق كل منهم على ترديد أصوات مزعجة لكي تقتنع وتدفع فيه ثمنًا لتضعه معك في قفص لا ضرورة له. كان إغراقًا مبتذلًا في "مكملات الأنوثة". حتى إنها لم تذكر لأحد منهم من قبل حدوتتها الخاصة عن "فائض الأنوثة" لديها.
4- فلنصنع جسرًا!
كيف يمكننا أن نفهم ذواتنا دون أن نلتصق بأقرب إطارٍ يحملنا ويرسل إلينا طيلة الوقت رسالة لا نفهم كنهها في حينها، ألا وهو الجسد؟! نتمترس خلف معسكراتنا الدينية المختلفة التي تذكرنا دومًا بأن هذا "النزف" يجعلنا "ناقصات غير مكتملات". فهي لا زالت تحمل في روحها “احتفالية فائض الأنوثة” كما علمتها والدتها. تستنكر أن يتم فرض عزلة عليها جسديًا وكأنها تُعاقب بسبب صديقها "النزف". تصر على لمس القرآن وتلاوته وممارسة عادتها الأثيرة في تدوين ملاحظاتها الهامشية، تصر على ألا تنقطع صلتها بالله بطريقتها، فهي تحدثه كثيرًا وتعلم أنه في كثير من الأحيان ينظر إليها ويضحك من فرط سذاجة ما تقول، تعلم يقينًا أنه لن يتخلى عنها إذا ما هاجمتها الخلايا الشرسة مرة أخرى، تعلم أنها أثيرته وأن "النزف" العابر لن يقف بينهما فهي تراه وتعلم يقينًا أنه يراها. وحين تنادي فهو يستجيب. وتوقن أنه إذا ما تخير يومًا العيش على الأرض فسيختار أن يحضر أحد حفلاتها مع والدتها فهو قطعًا لن يمانع أن يكون مدعوًا لحفل “فائض الأنوثة”.
ترفض أن تنساق وراء خبرات معلبة عن الحياة أو أن تقتني كتالوجًا معدًا سابقًا عن "النزف" تقرر أن تصنع معرفتها بمفرداتها وأدواتها الوحيدة لتعلُّم ذلك. أن تبني جسرًا لترى ما يوجد على الناحية الأخرى. حين توحشت خلاياها في البدء علمتها والدتها أن تتحدث مع تلك الخلايا، أن تتخيل أنها مثل تلك العرائس ذات الشعر الطويل الملون المرصوصة بعناية على حافة سريرها بانتظارها بعد العودة من رحلات التعافي الطويلة، فلتتحدث مع الخلايا. تحدثي معها. أخبريها أي موضعٍ على وجه الدقة يؤلمك. أخبريها أنك تريدين العودة للعب والقفز من النوافذ وتحضير أسلحة قشر البرتقال. اصطحبي تلك الخلايا يدًا بيد والعبا سويًا لربما تلك الخلايا تريد أن تلعب أيضًا. علينا أن نجد طريقة آمنة لجعل تلك الخلايا تلعب بلا توحش. هكذا فعلت يومًا استخدمت نفس الآداة. تصاحبت مع “النزف”. أخبرته مرارًا ما تشعر به. أعلنت عليه الغضب مرارًا لأنه يعيقها عن ممارسة الحياة ملء رئتيها فهي لا يزال هاجسها أن الحياة لن تمنحها سوى القليل. وأن كل يوم يمكن أن يصنع فارقًا. شاركته خوفها المحتمل بعد أول قبلة مختلسة مع حبيب، فقد توهمت أنها فقدت ما لا يمكن استرداده. وأن النزف لن يزورها مجددًا معاقبًا على فعلتها الشنعاء. وفي أول زيارة لصديقها "النزف". رحبت به. وأقسمت ألا تعيد الكرة مرة أخرى. وصدقت. عبرت هناك. واطمأنت. وعادت محملة بالحكايا التي حين ترويها تصفها صديقتها النسوية جدًا قبل أن تعلن غضبها منها. “عليكي أن تتعلمي أن تضعي مكابح لكل ما تروينه. فهو "فائض أنوثة".
تستمع إليها. تبتسم. تعلمت العبور بخفة على جسور تبنيها بمفردها ترقص فيها بإيقاع يشبهها هي فحسب. تعلم جيدًا متى تتقدم لتكتشف. متى تقبع صامتة لتنصت لبوصلتها الداخلية. ومتى تستجيب لنداء غامض يدفعها للمضي نحو ما لا تعرفه لكنها لا تخشاه. فتبني جسرًا وتمضي.
5- فلنكتمل معًا!
في دوائر الحياة تتقاطع مع سيدة في منتصف الأربعين تبدو وكأنها إلهة خرجت للتو من مجلد عن أشهر آلهة الأساطير الإغريقية القديمة، تحدثها عن خوفها المحتمل من أن تفقد "النزف"، فتستشعر خواءًا بداخلها من غياب الصديق الذي رافقها طيلة ما يربو على الثلاثين عامًا وأنها ليست مستعدة بعد ألا يكون لديها "أنوثة".
في تلك الليلة، كبرت الطفلة ذات الأعوام العشرينية المتناثرة. كبرت كثيرًا. تفتح وعيها. أن هناك "أنوثة"” قد تختلف تمامًا عن كل ما تم تدجينها عليه طيلة حياتها وما تم العبور فوقه من "مكملات أنوثة". كانت تتصادق مع النزف في معركتها الخاصة جدا مع خلايا تتوحش بداخلها. وكانت صديقتها تتصادق مع النزف لأنها ترى فيه "فقط" دليلًا دامغًا أنها لا زالت أنثى. كلتاهما كانت تعبر إلى الأخرى. عبورًا آمنًا. مفاده أن ما نخشاه. ما نشتبك معه طيلة حياتنا. يستحيل ليصبح جزءًا منا. يصنعنا. يصيغنا. يعيد تشكيلنا وتخليقنا لنصبح ذوات أكبر من أن تصب في قالب سيضيق حتمًا بقاطنته يومًا ما. ويوضع عليه من الخارج: هنا يُباع "برطمان الأنوثة". هل من مشترٍ؟! كلتاهما تأتي من أرض مختلفة. الأولى من أرض الاحتفاء بـ”فائض الأنوثة” لأنه كان يومًا تلك الخشبة التي طفت عليها الأم وابنتها في معركتهما معًا ضد شيء أكبر من أن يستوعبا كيف أعاد تشكيل حياتهما. والأخرى من أرض كانت تقاتل نحو إثبات وإعلان الوجود -حتى وإن كان ضيقًا. محدودًا. شائهًا- لازالت "أنثى". أو هكذا اختزلت نفسها حين التصقت بتيكت "فائض الأنوثة" دون أن ترى أن كل منّا لها أرض مختلفة. كل منّا قطعنها جيئة وذهابا. كل منّا لها ما تفهمه وعاشته من مفهوم خاص بها، بمفرداتها وبما منحته الحياة لها أو ما ضنت عليها به. كل منّا لها عبور يستحق أن يُروى نحو “نزف” يبدو غاية في الطبيعية عند البعض، وغاية في السخرية عند البعض الآخر. لكنه جرح، حين ينفتح، تنفتح معه أراضٍ شاسعة من الحكايا التي لم تُرو. فقط عاشتها من رقصن يومًا في خزائن الحكايا المنسية لحفلات الترحيب بـ"فائض الأنوثة"، حيث كل منا لها إيقاع، تحمله دون أن تكرهه أو تنبذه.. جسدها أو ما يرسله إليها من جسور لتعبر فوقها وتكتمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق