مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 9 مايو 2016
موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.
يتسم شارع البحر الأعظم ليس باحتضانه فحسب أعداد كثيفة من نازحي الصعيد المنسي الذين استقر بهم المقام في أول محطة لتدريبهم وتأهليهم للالتحاق بمصاف شعب مصر العظيم، (واللي بالمناسبة يعني أهل الصعيد بيقولوا على القاهرة والجيزة "مصر").
بل يتسم بقدرته على تجسيد تناقضات مصر، فيكفي أن تترجل من سيارتك لتمارس رياضة المشي، لتجد نفسك تائها بين عدد العمارات ذات المداخل كثيرة البهرجة المؤذية للعين والتي تعيد للأذهان طقم الصالون المدهب مكللة بعبارات جميلة من نوعية "ادخلوها بسلام آمنين".
حين تحاول أن تتعافى من أثر دهشتك المؤقتة بالخروج من مطار "العمارة" المحلي وتخرج لتلتحم بالشعب حبيبي وشرياني، سيكون في استقبالك عدد من قطعان الأغنام والماعز التي تتجول بحرية تحسد عليها في الشارع الأعظم.
ما يثير الدهشة ليس تواجد الأغنام في الطريق العام حيث ركنة واحدة بالعربية وأنت سايب شباكك مفتوحا ممكن تلاقي راس معزة بتبصلك باستغراب:
إنت بتعمل إيه في عالمها يا كائن يا بشري،
يا متوحش يا مختبيء في علبتك الصفيح؟!
اطلعلي بره!
ما يثير الدهشة هو القدرة على التعايش من المحيطين في درجة عالية من الاتساق النفسي والتصالح مع كل شيء، ولربما تلك آفة ليس هذا الشارع فحسب، وإنما هذه البقعة الموبوءة المسماة مجازا الوطن.
قد تأخذك الدهشة فتجد سيدة في منتصف الخمسينيات اختارت الزي الرسمي حيث العباءة السوداء.. تلتزم بما يفرضه عليها قانون الشارع بارتداء حجاب يغطي مفاتنها، وتنثر عليه عددا لا بأس به من كائنات مجهولة الهوية، لكنها مشعة وبتنور في الضلمة في محاولة تستحق التحية للاجتهاد للوصول بأزمة الهوية الإسلامية لـ”لباس” يليق بالمعاصرة والحداثة، فتجدها تسحب كلب "لولو" وبتتمشي بيه بكل طمأنينة، فينتهي بك الحال في مشهد ولا أروع عن تناغم جميع عناصر الطبيعة من كلاب أليفة ومعيز وأغنام تتقافز بين السيارات وبنايات شاهقة تتراكم لتصنع قبحاً أسمنتياً لا خلاص منه.
سأسمع صوتاً وطنياً مألوفا:
"ما تعيشوا عيشة أهاليكوا، ما دي بلدكو اعرفوها بقى وبلاش تقرفونا بنظرتكم ليها زي السياح اللي بتنبهر لما بتلاقي حمار معانا في الإشارة"
(الحمار لا يقصد به أي مواطن صميم واقف معانا على الدائري وقرر في لحظة تجلي إنه يجرب كلاكسه مع أن الإشارة واقفة، المقصود بالطبع الحمار اللي قدره التعيس خلاه يجر عربية كارو في وطننا الجميل جمال مالوش مثال، لربما المقصود به الكائن الـ"حمار" القادر على الاتساق بكل طمأنينة مع كل ما لا يمكن التصالح معه.
وبناء عليه، فقد قررت أن "اتسق" أنا كمان هي يعني جت عليا. أكمل جولتي الليلية في شوارع ودهاليز البحر الأعظم، أقف أمام "مقلة" يبدو من جلباب صاحبها ذي الفتحة السبعاوية من على الصدر أنه نموذج صعيدي واضح، وأحن إلى "عسلية أمي" (معلشي يا درويش ترف مخل). العسلية ذلك الاختراع المصري الأصيل مهضوم الجناح، فهو نوع من الحلوي ليس بنغاشة البسبووسة أو الكنافة و ليس ببرستيج التورتة أو الجاتوة وأنت لافح العلبة من عند الحلواني الشهير ورايح تخطب (تخيل قررت في يوم تخش على بيت العروسة في أول لقاء تعارف بدستة عسلية، بلاش أحسن وافتكر إني قولتلك).
اعلن انتمائي الأبدي للعسلية كحلوى مصرية تصنفها أمي في بند “رمرمة الشارع” والتي لجأت إليها كثيرا لإعلان محاولات تمردي البكر على سلطة والدتي في تحديد أوجه إنفاق مصروفي.
أسعى لتثبيت كادر كاميرا عقلي على لحظة عثوري على "هويتي" وانتمائي أخيرا.. اتقدم لرجل الـ"مقلة" طالبة علبة بحالها: يمد يده قائلا: "اتفضلي يا مدام".. اتجاوز حواراً داخليا ملح في مناطحته: "مدام مين؟!"، واتلقف بيدي علبة العسلية لأفاجأ أنها الصورة أدناه:
أضع افتراضا عقليا مبهرا، اترجمه بقولي للرجل: "الله.. هو حضرتك للدرجة دي بتحب الثورة؟"، فيباغتني قائلاً: "ثورة إيه يا حجة؟ مشي حالك؟"
اتجاوز للمرة الثانية رغبة لساني في التلطيش له: "بقى يا راجل من مدام لحجة، كده مفيش تمييز خالص"، لكني لا اتجاوز حكمته الأخيرة "مشي حالك".
لا زلت اتحسس طريقي في اكتشاف الـ"مصر" اللي بيحكوا عنها واللي مابيحكوش، ولازلت اتأمل عن بعد قدرة تلك الـ"مصر" على ابتذال الكثير من الأفكار والمفاهيم وغربلتها وتقييفها لتناسب المزاج غير المفهوم والملقب بالمزاج "العام"، ولازلت اشهد يوميا جماهير غفيرة ارتكنت إلى عبارة صاحب المقلاة، وبقت "تمشي حالها" وبقت بتطور مهارتها في الاتساق مع كل شيء، والتضحية بكل شيء، فيجعلني اتساءل لنفسي قبل أي أحد آخر: "يعني إيه ثورة؟" وقبل أن أباغت نفسي بإجابة سطحية عن هذا التساؤل، تمر بخاطري عبارة الكاتب الراحل هاني درويش حين كتب:
"ثمة قيمة صافية في الوصول بملل المعارك الخائبة إلى حد السكين، حيث على الحواف نتأمل صورتنا المشوشة وصور الآخرين من حولنا بعدسة خالية ونقية للحظة نادرة، فيصبح كل ما لدينا هو الصمت العاجز أمام كل هؤلاء الأبناء المخلصون للزمن العشوائي"- إني اتقادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق