السبت، 6 فبراير 2016

يعني إيه عواجيز؟

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 9 فبراير  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة: يعني إيه عواجيز- موقع زائد 18- 2016


        في أوائل نشوة الانتصار الأولى لثورة يناير، دعتني إحدى الصديقات للمشاركة في وقفة احتجاجية لدعم إضراب الأطباء في ذلك الوقت. بالرغم من أني لا أمتهن الطب، إلا أني أذكر أن ما حدث وقتها هو إعادة تخليق مساحات رحبة بداخل كل منا مفادها أن كل شيء ممكن فقط إذا ما تمكنا من الإشارة بأصبع اليد إلى موضع الألم وأن الاشتباك في حلم التغيير يجب أن يتعدى ما تعرفه، إلى ما تؤمن به حقا، وأن ترسم دائرة أكبر من "شيل الهم" اللي طالنا كلنا بعد كده.


أذكر حينها أني كتبت علي ورقة إيه فور بالعرض "ارحلي يا دولة العواجيز"، تلك الجملة السحرية التي تختصر مفهومي عن الثورة وقتها، المناطحة في كل من تعدى الخمسين وتحميله وحده ما نعانيه من العجز والفشل والهزائم المتتالية. 

كنت أحمل ما أؤمن به، "ثورتي الصغيرة" وأستعد للتقدم بها في صفوف من لاأعرفهم ولم تجمعني بهم مفارق الحياة.
في الوقفة الاحتجاجية قبل التصعيد لعقد جمعية عمومية لاحقاً، أتذكر أن هناك شخصا مال على كتفي قائلاً "أنتي لازم تجيبي اليافطة بتاعتك دي وتحضري معانا الجمعية العمومية الجاية علشان العواجيز" وانطلق ضاحكا مخلفا وراءه جملة بلا أية علامة ترقيم. لم ألب دعوته في حضور الجمعية العمومية متعللة إنها هتبقى دكاترة في بعض، أنا بقى إيه اللي هيحشرني في وسطيهم، انخرطنا في دوائرنا الصغيرة والمختلفة للتوعية بأهمية الإضراب، واشتبكنا في مناقشات عن جدواه، وهل من حق الطبيب أن يصحو صبيحة يوم وأن يعلنها أنه لن يقدم رعاية طبية لمريض يحتاجها؟ كان لدينا من الأمل الوفير الذي يحدونا لأن نصطبر ونستمع ونعيد على الأذهان ما نؤمن به من حق وبيئة آمنة للعمل كحق أصيل بديهي.

منى مينا نقيب أطباء مصر 2016


        في مساء أحد الأيام التالية أرسل لي نفس الشخص الحساب الشخصي لدكتورة تسمى "منى مينا" مذيلة برسالة لطيفة "مش كنتي تيجي علشان تقابلي العواجيز". حين وقعت عيناي على دكتورة منى من وراء الشاشة لأول مرة، أنارت في ذهني الأخت سيمون إحدى الراهبات اللاتي كرسن حياتهن لتدريس الأطفال في مدرسة الآباء اليسوعيين بمدينتي النائية في الصعيد، فهي لديها نفس الشعر القصير الرمادي، ملامح الوجه الهادئة، القرط المستدير الذهبي، ولأنني كنت في أولى مراحلي لرفض قداسة البشر، أزحت صورتها كـ "قديسة" من ذهني وبدأت في التلصص عليها ومتابعة ما تقوم به فيما يتعلق بإضراب الأطباء. كنت أتلصص عليها لأستخدمها كوسادة أوجه لها لكمات غضبي المتراكم من كل ما يمثله جيلها في ذهني، و"فعل خذلان" متكامل الأركان خذل الثورة حين تمسك بالعمل من داخل أروقة نظام قامت الثورة بالأساس عليه، فإذا بي أفاجأ أن هناك ثورة "عواجيز" وأنا المعتدة بسنين عمري الأقل لم أفهمها حينئذ.

        في تقاطعات الحياة التالية، حين تهاوت الملحمة وسقطنا جميعا معها، حكت لي صديقة طبيبة قررت بشكل قاطع أن تبدأ في إجراءات الهجرة وانخرطت في بكاء مرير لأنها اليوم شعرت أنها مثل الجرذ الهارب من بالوعة الشارع حين حاصر مستشفاها التعليمي عدد من أهالي المرضى، لم يكن هناك مجال لتقصي حقيقة الأمر.. من المخطيء؟ أتراه الطبيب أم أهل المريض؟ ولم يكن هناك مجال للخوض في حديث جدلي لا طائل منه، ربما سينتهي إلى أننا سنصل إلى إلقاء اللوم كله على آدم اللي أكل التفاحة ونزلنا الأرض كما تتغنى إحدى المهرجانات الشهيرة حالياً.

        كانت لحظة هزيمة صفرية بامتياز، وكانت الصديقة تحمل خيبة مضاعفة من الإهانة والعجز.. ذكرت لي الصديقة أنها قبل البدء في خطوات الهجرة  قابلت دكتورة منى مينا، وها هي تعود لأضواء ذاكرتي تارة أخرى "منى مينا"، وأخبرتها أنها بصدد الهجرة. تقمصت شخصية دكتورة منى وقمت بالرد الفوري على صديقتي "وطبعا قالتلك لأ متسافريش وخليكي في البلد وابنيها"، لكن ما حدث والعهدة على رواية الصديقة، أنها أثنت على قرارها بجملة مقتضبة "سافري يا بنتي.. أنتوا تستاهلوا حياة أحسن من كده، سيبونا نحاول نلحقها".

        كنت لا زلت اتأرجح في بندول الانتماء والوطن واختيارات الرحيل والبحث بلاجدوى عن سبب للبقاء، فجاء ردها باترا حاسماً، فهي ترى أننا جميعا "نستحق خيارا أفضل". استوقفني أنها بالرغم من تشجيعها لسفر الصديقة، إلا أنها لازالت تؤمن أن من لم يستطع الخروج، فلا مجال للمساومة على خيار الحياة الأفضل.استوقفني أنها اختارت أن تنحاز لمعسكر "الخسرانين" الذي تم وصم معسكر الثورة به لاحقاً.. المعسكر الذي يتجرع هزائمه ويعترف بها ويتطهر منها كما لم يفعل ممن دشنوا لتلك الهزيمة المروعة.


        ما جعلني التصق بها كقديسة هذه المرة، أنها صفعتني على وجهي بالحقيقة التي لابد من الاعتراف بها: هناك عواجيز مؤمنون أن هناك خيارا أفضل، وأننا جميعا نستحقه، وأن الثورة لم تكن مقتصرة على من يستطيع الهرولة في الشوارع فقط وقت الاشتباك، بقدر ما تعنيه لي الثورة الآن: القدرة  على المقاومة، الاختيار الواعي، المحاولة المتتالية إننا "نحاول نلحقها".

        ما اكتبه ليس تمجيداً في دكتورة منى وإن كانت تستحق وأكثر، لكن تمجيدا لما يحدث في نقابة الأطباء التي ستشهد حدثا مهما يوم الجمعة المقبل. لسنا بحاجة لأن نكون أطباء أو متضررين بشكل مباشر مما يحدث من انتهاكات جسيمة بحق الأطباء في مستشفى المطرية وغيرها من الانتهاكات التي يتم تمريرها بدون أدنى محاسبة. 

لسنا بحاجة لأن نخوض ذلك الجدل البيزنطي "الأطباء ماينفعش أصلا يعملوا إضراب"، لأننا بصدد اختيار واضح، أن الأمن على حياة الطبيب يجُب كل ما يليه من تبريرات واهية.


لسنا بصدد التذكير بممارسات القوة.

لسنا بصدد السقوط في بالوعة الأفواه التي تلقت أمرا شفاهيا ارتدته ما تيسر لها من بدل الرقص، وانهالت على آذاننا في غناء نشاز عن إهمال الأطباء في هذا التوقيت تحديدا، لكننا بحاجة لأن نعلنها واضحة صريحة مدوية #ادعم_إضراب_الأطباء.

قد نكون مجرد أفراد عابرين هامشيين على مشهد الحدث، لكننا لا زلنا قادرين علي رؤية "ثورة" تشبهنا هنا في هذا الكادر من الفيلم، ولدينا اختيار واع للانتصار لها، لسبب أبسط مما يتخيله الكثيرين "علشان نحاول نلحق البلد دي"، لو نقدر، 

وإلا هنبقى "عجزنا" فعلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق