‏إظهار الرسائل ذات التسميات #شعر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات #شعر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 5 يناير 2023

مغفرة- نصٌ شعري

 قصيدة مغفرة، العدد 185 يناير_2023

بمجلة الكلمة



الصورة من المشهد الافتتاحي لفيلم فورست جامب


مغفرة

الأشجارُ التي اختبأتُ خلفها تمَّ اقتلاعُها اليوم

أخبرتني أمي أنَّه يتوجب علينا إنقاذ ما تبَقى من حديقتِك.

بدا الأمرُ لي أشبهُ بمزحة ثقيلة.

أيُّ حديقةٍ ستبدو بدون أشجارك يا أبي!

وكيف ستبيتُ أشجارُك ليلتَها الأولى دونك!

مُخيلتي مُمتلئةٌ بحكايا عن النمل الزاحف إلى جُحره كُلَّ شتاءٍ ينهرُني كُلَّما اعترضتُ طريقَه صُدفة

عنكبوتٌ يتسلَّقُ زوايا الذاكرة بخِفةٍ ويستكين، يُراقبُني بصبر

 ثُعبانٌ يتلوى في بطني كُلَّما هَممتُ بمُعاودة الغضب، أبتلعَهُ كُلَّ ليلة

وطفلٌ يصنعُ رقصةً فوق غيماتٍ تطل برأسها على وسادته كُلَّ صباحٍ، أتعرفُ عليه ببُطء.

أتخيلُ أشجارَك يا أبي التي تمَّ اقتطاعُها اليوم، تُلملِمُ جذورَها وتلعنُ الفاعل.

سأنام مُبكرةً الليلة، سأدعو جُنودَك المُخلِصين إلى الحُلُم

أعجزُ حتمًا عن قيادة كتيبة أشجارك في الحُلُم يا أبي

تعلمتُ مِنكَ الاختباءَ أزمنةً، وعجزتُ عن تعلُّم الصرامة

كعادتي سأخترع احتفالًا صغيرًا في التو، بعد أن أُحكِمَ إغلاقَ بابِ الغُرفةِ جيدًا

سأستجدي النملَ أن يكُفَّ عن العمل ويأتي مُبكرًا كعادته

أمَّا العنكبوت فلا أجزم أنَّه سيُشاركنا الرقصاتِ خِشيةَ أن تَتَقَطعَ أوصالُه

والثعبانُ الذي يَسكُنُني طِيلةِ النهار، بحثتُ عنه طويلًا الليلةَ فلم أجده.

سأحرص على ألَّا تبدو أشجارُك مُرتبكةً يا أبي بعد أن تُغادرَ صُفوفَ الكتيبة

سأدعو فتياتٍ يافعاتٍ يرقُصن في دوائرَ لا تنتهي

يرقُصن بإيقاعهن، تتلألأُ نجومٌ مخفيةٌ بأعينهن، وتفوحُ منهُنَّ رائحةُ اليَاسَمين كُلَّما عَبَرن.

أشجارُك ستعبرُ فوقَ ارتباكِها الرجولي المُحبب  

تستطيلُ أذرعُها لتتلمس أطرافَ شعرِ فتياتٍ مُنسدلٍ على الخاصرة

سنضحكُ سويًا حين تنفرد إحداهنَّ بأحد جنودِك القابعين بالزاوية وتميل على كَتِفِه تنفحه إيماءةً مُحببة

الفتياتُ ترقُصن باتجاهِ عقاربِ الساعة

الأشجارُ تتماوجُ باتجاهِكَ أنت

الدوائرُ تتناغمُ كموجاتِ نهرٍ يتدفقُ دون أن يُحدث أدنى جَلَبَة

أقفُ في المنتصفِ تمامًا

أراقبُ سَيرَ الحفل

وأراقبُك حين تبتسم فأُلقي التحيَّةَ على تجعيدةِ عينِك اليُمنى

أتدَثَّرُ بطانيةً مُطرزةً بمحبةٍ مُمتدة ستجدُ طريقها إلىَّ

أتلمسُ بأطرافِ أصابعِ قدمي أرضاً أتجذّرُ بها كُلَّ يوم

قبل أن أُغلقَ عينيَّ بإحكامٍ

مُبتسمةٌ لدفءِ حكايا لم تروِها لي قَط.

 


الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

أما آن لهذا الضجيج أن يستريح

 نصٌ منشور بموقع نخيل عراقي

ديوان الشعر



أما آن لهذا الضجيج أن يستريح

أمقتُ الصوتَ المرتفع 

أتخيَّلُ أحبالَه الصوتية قد توقفت عن اللعب   

واستدارت لتوجه لكماتٍ في الهواء. 

أمقتُ الصوت المرتفع 

يُذكرُني بصَخَبٍ لم أعد أنتمي إليه. 

أمقتُ الصوت المرتفع يعيدُ لي بضاعتي من كلماتٍ لم يكن علىَّ قولها   

وأخرى ابتلعتُها حين توجَّب علىَّ تقيؤها. 

أمقتُ الصوت المرتفع  

يجرني من يدي نحو صمتٍ 

يختبئُ باكيًا خلف باب موصد  

تتلصص من ثقب الباب 

على جسدٍ مُسجى على الطاولة 

يتم اقتلاعُ أحباله الصوتية ببطء 

يهرولُ سريعًا في الاتجاه المعاكس 

يتأكدُ من إلصاقِ ابتسامةٍ بحجم الكون  

مرددًا بخشوع 

كل ما أخشاه قد حدث. 

أمقتُ الصوتَ المرتفع 

يُضيف إلى روزنامتي سبعَ سنواتٍ عجاف 

لطفلٍ بلا صوت 

يُحرك العالم بعينيه ومخيلته 

غير أن لا أحد هناك يلتفت. 

أمقتُ الصوتَ المرتفع حتى صراخ المحبين "أُحبك" لتقطع الوحشة 

تجلدني بخطأ قديم غفرته لي، 

كما غفرت له كلّ شىء. 

أمقتُ الصوت المرتفع 

يُلصقني بعالمٍ لا أقف بداخله منذ أزمنة، 

لا أراه  

أطفو فوق ريشة بيضاء  

سَقَطت للتوِّ من حمامةٍ باللون الرُمادي 

كلما سرتُ 

أراها تبتسمُ لي وحدي.



السبت، 19 نوفمبر 2022

تاريخٌ مُشترك

 نص "تاريخٌ مُشترك" منشور بجريدة أخبار الأدب، عدد 1530

، النص أيضًا اُستُقبِل بحفاوة من جريدة أخبار اليوم المصرية

الرابط


تاريخٌ مُشترك

 

حين تفقدُ صديقًا تفقدُ عُضوًا في جسدك لاتعلمُ على وجه الدقة أين موضعه

الرأس، القلب، القدمين، المعدة أم عمودك الفقرى الذي تتكئُ عليه؟

حين تفقدُ صديقًا يلتهمُك فراغٌ أبديٌّ يُنبىءُ بضياع تاريخك الشخصي  

ارتدادٌ مُباغتٌ نحو قبورٍ لم تزرها قط

السيرُ عاريًا بينما أعينٌ تذبحُك، تطلُّ من ذاكرةٍ مُشوشة.

حين تفقد صديقًا، يتشوش انعكاسُك في المرآة

لا تملك يقينًا صادقًا مَن كُنتَ في زمنٍ سابق

ولمَن هذا الوجه الجديد

ماذا أنتَ فاعلٌ به؟

حين تفقد صديقًا، تتأملُ مساراتٍ مُتعرجةً حَفِظَها كلاكما كراحةِ يده  

مُمتلئةً ببعضٍ منكُما  

مُمتلئةً بصمتٍ لايتطلَّبُ الامتلاء.

حين تفقد صديقًا، تفقد معه الصوت

ذاك الصوتُ الغاضبُ الذي يشي بأفعَاكَ غيرِ المُروَّضة.

كان لطيفًا دومًا أن نُفرِغَ أحشاءنا على مائدةِ الآخر.

حين تفقد صديقًا، تُعاني فقدًا مُستمًرا في اتزان البُوصلة  

في جدوى المسعى

في التأكُّدِ أن ما سيحدث لا بأس أن يحدث  

نحنُ معًا.

حين تفقدُ صديقًا، تُعبئُ الفراغَ القابعَ بينكما بمزيٍد من الألوان الفاقعة  

مزيدٍ من الحكايا المؤجلة  

مزيدٍ من كلِّ مزيد  

غير أنَّ المقعدَ فارغٌ  

الحياةُ تتراكمُ كحقائبِ سفرٍ مُمتلئةٍ بالغياب

تتخبطُ كوليدٍ عارٍ

تتلقفُه كلُّ يد

تُهدهده كلُّ محبةٍ عابرة

تَرفِقُ به عيونُ الغُرباء

يصنعونه على أعينِهم

غير أنَّه كلَّ ليلةٍ يتحسسُ مَوضِع السُرَّة  

ينمو كلَّ يومٍ متوسدًا ألمَ الانسلاخ.

حين تفقدُ صديقًا، تفقد بعضًا منك

لا تعلمُ على وجه الدقة أين موضعه

القلب

بين العينين

في منابت الشعر

خلف أذنك اليسرى

مُختبئًا أسفل أظافرك الملونة؟

حين تفقد صديقًا

تتبعثرُ حواسك

تلتصقُ قدماك موضع عينيك

تهرولان كلَّ مساءٍ إلى ذاكرةِ رأسين  

تأتنسُ بلهبِ المعرفة

أنَّ بعضًا مِنكَ لصديقِك

وأنَّ البعضَ لا يسقطُ بالغياب.

 


الثلاثاء، 1 نوفمبر 2022

أرنبٌ أبيض

نصٌ جديد منشور على منصة أنطولوجي، وهى فهرس جمالي يُعنى بمتابعة وأرشفة الأدب العربي

أرنبٌ أبيض- شعر عربي مُعاصر


نحتاجُ أن نصَل سويًا إلى هدنة

أن تكُفَّ عن تذكيري أنَّ الجوَّ بالخارج يبدو رائعًا

أن تتذكر ما أخبرتُك به من قَبل أنِّي فقدتُ عدسة عيني في الطريق.

يُمكنك أن تبقى بجانبي طِيلة يومين أو عامين لا أعرف على وجه الدقة

لم يُخبرني أحدٌ متى سينتهي الأمر لأني لا أعرف أيضًا على وجه الدقة كيف بدأ.

يُمكنكَ أن تمسحَ بِمنشفةٍ مُبللةٍ بماءِ الزَّهرِ على جبيني حين أُعاودُ ادعاء المرض.

في حقيقة الأمر لا أدَّعي المرضَ على الإطلاق كما تقول أمي 

بل أقاومه بكل طريقةٍ مُمكنة لئلا يقترب مني.

تُخبرني الذاكرة أنِّي قبل الذهاب إلى النوم قمتُ بابتلاع حبتين أو ربما أكثر، لا أتذكر!

مكتوبٌ على العُلبةِ الصفراءِ أنها للتخلُّص من كركرةٍ بالبطن تُورثني الحَرَجَ باستمرار.

في الصباح، العُلبةُ الصفراء ذاتها تُخبرني أنها مُسكِّن لآلام العظام الحادة.

الذاكرة لا تُخبرني على وجه الدقة لِمَ ابتعتُ العُلبةَ الصفراء، في أي زمنٍ حدث ذلك؟

لربما جاءت إلىَّ العُلبة من دُرجِ أبي بمكتبه الصاج القديم.

لأبي ساقين طويلتين لا بد أنَّه ابتاع العُلبةَ في زمنٍ ما ليدرأ عنه الحسد!

أو لربما كانت لأمي؟

فهي تُخبرُنا دومًا أنها تُخزن الغضبَ في جيوبٍ سريَّةٍ بقفصها الصدري 

وحين ينهمر، يكن الوقتُ مُتأخرًا للغاية أن نصُد الركلاتِ المتتالية.

لا تُخبرني الذاكرة أي شيء 

هناك تجويفٌ يتسع

تستقرُّ مكانه عُلبة صفراء.

لا أتذكر على وجه الدقة كَم حبةً ابتلعت!

غير أني أشعرُ أن لا عظام لي بالمرَّة

واللحم يتمترسُ أعلى الحُنجرة.

يُمكنك أن تبقى دون أن تخبرني أنَّ اليومَ مناسبٌ للغاية لتمشيةٍ لاستنشاق رائحةِ المطر.

دخانٌ مُتصاعدٌ من الذاكرة يُشوشُ على مراكزِ الشم بداخلي.

أُعيدُ تذكيرك أنِّي ربما لبعض الوقت سأفقِدُ حاسَّة الشم أيضًا

غير أنَّه يُمكننا التوصل إلى هدنةٍ هذا الصباح.

لنضعَ العُلبةَ الصفراء جانبًا 

سأعيدُ تلاوةَ حكايا عن حبةِ ملفوفٍ زارتني في الحُلُمِ البارحة 

طبقاتُها مُحكمةٌ للغاية غير أنَّ البعض منها معطوب 

لديها قدرةٌ مُرعبة على إخباري بما سَقَطَ من الذاكرة.

في كُلِّ مرةٍ تتعرى حبَّةُ الملفوفِ أمامي

أتشبثُ بذراعِكَ أكثر

أغرِسُ أظافري في جسدك

أخبُرَك برغبتي أن تبقى

يُمكنُك الاستلقاء بجانبي طيلة يومين أو عامين لا أملك بُوصلة لذلك.

سأعيدُ تكِرارَ الحكايا عن حبَّةِ ملفوفٍ مُذهلةٍ بلا انتهاء  

ستغفو بجانبي 

سأتأكد أنِّي راوغتُ الرَّغبةَ المتكررةَ في استدعاءِ العُلبة الصفراء

أريد أن أخبرَكَ أنِّي أريدُ أن أغفو أيضًا 

لبعض الوقت.

غير أنِّي في كُلِّ مرةٍ أغمضُ عينَيَّ، تنتظرُني حبَّةُ الملفوف في الحُلُم

وأنَّ الحكايا كُلَّها صارت مُوجعة.

أودُّ لو أخبرك

أننا بحاجةٍ لهدنةٍ هذا الصباح

وأن تكف عن تذكيري أنَّ الجوَّ بالخارج صار رائعًا

أودُّ أن أُحكِمَ قبضتي علي كفَّيك

فأنا ارتعبُ حين تُفلت يدي

غير أن لا عِظامَ لي تمنحني قوةً كافية

ومحاولة الإبقاء المتعمدة تبدو واهية

في الصباح نحنُ بحاجة لهدنةٍ بالفعل

لربما علينا أن نقصدَ الصيدليَّ ونخبره أنَّ كلينا بحاجةٍ لعُلبةٍ صفراءٍ جديدة

وأنَّه يتوجب على العلبة الصفراء أن تُعيدَ إنباتَ العظامِ في راحة يدي.

سيصبح لديَّ حينئذٍ يدٌ قويةٌ

ستُمكنني من إزاحة المقاعد الفارغة حَول المائدة

وأن أكفَّ عن انتظار ما لا يجيء

وأن أمنح مُتسعًا لحبَّةِ ملفوفٍ مُذهلة فلا يتوجب عليها الاختباءُ في ثنايا الحُلُمِ مُجدَدًا.

نحنُ بحاجةٍ لهُدنة في الصباح

هذا كلُّ ما في الأمر

تتوقف عن إخباري أنَّ الجوَّ يبدو رائعًا بالخارج

وأعدُكَ أن أحاولَ مُجددًا

أن أُراوغَ العُلبةَ الصفراء

وأُراوغَ الذاكرةَ أيضًا

أتشبثُ بما بَقِي في يدي مِنك 

أو أُفلِتُك مرَّةً واحدةً

وأخيرة.

اللوحة المُصاحبة للنص للفنانة الأمريكية "كاثرين هايد"


الاثنين، 3 أكتوبر 2022

جسر

  نصٌ جديد منشور على منصة أنطولوجي، وهى فهرس جمالي يُعنى بمتابعة وأرشفة الأدب العربي

جسر- شعرٌ عربي مُعاصر


جِسر

يُمكننا أن نصنعَ جِسرًا يعبُر فوقه أحدُنا نحو الآخر
نجمعُ كافَّةَ الأغصانِ الناتئةِ من شجرةٍ لا تشيخ أحملها دومًا بين كتِفَيّ
نضعهم جميعًا متلاصقين كأسنانِ المُشط
نتأكدُ أن يكفوا عن الثرثرة فلا تلتهمُهم الكلماتُ التي تَرمِي بشَرر
ينبتُ عشبٌ أخضرُ له رائحة الليمون على الجسر
تتفتحُ زهراتُه الورديةُ شيئًا فشيئًا في كل مرةٍ يمنحُها الكونُ إذنًا لإيقاعٍ آمِن.
يفصلُ بيننا ثلاثون عامًا من النبوَّة
نحشو السنواتِ في الفراغ القائم بين أغصان الجسر الناتئة
هكذا أخبرنا ذو القرنين
سنصُبُّ عليهم مِلحَ المسافةِ صبًّا فلا تستبين الهُوّة بيننا
أرسُم خريطةً تتدلى من عُنقي يعبرُها نهرٌ تتدفق مياهُه بسكينٍ في ثنايا الخاصرة
الخطاباتُ التي أرسلتَها إلىَّ مُذيلةٌ ببعض منك أسميتُها: “وَصل”
الرائحةُ التي خَلَّفتَها أعلى ياقةِ درعِك المُنتصب ستشي بنا لا محالة
الأحرفُ التي تسابقت لتشدُّنا من أطرافِ أثوابِنا
تُشيرُ إلينا نحو موسيقي شارعٍ خلفي
يا عتمتي المُتوهِّجة
يا قَسوتي الهشّة
يا اقترابي البعيد
يا شكِّي الموقن
يا خوفي الرابض كأسدٍ جَسور
يا أُنثاي المُتشِحة بأعضاءٍ تُؤطرُكَ
يا خلِّي وخليلي
يا أنيسي
يا ناري التي اهتزت لها جبالٌ شامخات
واستكانت لها الريحُ العاتية
واستغفرت من ذنبها النَّخلاتُ الباسقات
فلا مريم لترتكن
ولا يُوسُف في غياهب الجُبّ
جِسرٌ يفصلُ بيننا
تهاوى صبيحةَ اليوم
فيا كلَّ كلِّي
قد عبر أحدُنا للآخر قبل ثلاثين عامًا من النبوَّة
فاخلعْ عنك كلَّ ما ليس لي
إنكَ بوادٍ مقدس "هنا".


الخميس، 11 أغسطس 2022

ذاكرة الحب

 ذاكرة الحب


(1)

 

صندوقٌ خشبي مُغطى بقماش أخضر،

بينما يتمدد في زواياه الأربع،

تنفلتُ قبضة يده للتشبث بي،

تستجديني ألا أفلت عروق يده.

 

أَوصَى أن أمشي جنباً إلى جنب بجوار صندوقه الخشبي،

يغمرني اللون الأبيض،

غير أني لا أتوحد بأي طقوسٍ جماعية للحزن.

أتذرع بقصر ذراعاى،

 اترك أذرع  العائلة تمتد لتحمل عني جسده أو ما تبقى منه.

 

للطريق لمقبرة العائلة،

عليك أن تقطع عشرون ألف هيكتارًا من أرض رملية من أرض لم تنبت سوى الوحشة والغياب.

 

عائلة أبي يطلقون عليها "جبّانة"،

ظننتُ أنهم يخبأون بداخلها نوعاً مميزًا من "الجُبن".

سيتحول أبي إذن إلى قطعة "جُبن"!

جدي  ذو العينين الزرقاوتين كبحر لم يره قط،

وعمي الذي جاب البلاد طولها وعرضها دون ابتسامة واحدة،

وجدتي ذات السن الذهبي حين تبتسم وثعبانٌ يأكل ذيله عضها ذات عُمرٍ في قدمها اليسرى.

لم يخبرني أحد ما الذي ينتظرنا هناك،

نتحرك كجنودٍ عائدين للتوّ بخسارة لاتُحتمل.

 

أود أن أقطع المسافة إلى المقبرة ركضًا، أخبره بما لم أخبره به من قبل.

سبعة عشر عاماً من الحكايا المؤجلة

الأذرع الممتدة تقبضُ على الحُنجرة،

تجبرنا على ترديد كلماتٍ أعجز عن مضغها،

يخبرونني أنها أنشودة جماعية للتخلي،

لحنًا يحمل صوتًا أعلمه، يأتيني من بلد بعيد أُحب.

يتناوبون اللحن بينهم كبكرة خيط ٍ تتلمس طريقها حتى نهاية الخيط.

يستمر اللحن، كى يعبر وحده دونما التفات نحو أرضٍ الجديدة.

أتساءل كيف يعبر دون أن يحمل معه حكايا تحمل بعضاً مني،

منه،

وما كبُر بيننا في الغياب!

 

الطريق نحو المقبرة لم يستغرق سوى دقيقتين أو لربما سبعة عشر عاماً!

تنسحب مني الذاكرة كقلم جاف فرغت أنبوبته للتو تجبره مرات متتالية أن يكتب شيئاً،  ينظر إليّ يائسًا

امراة تشبهني- كراحة يدي- تتكور أيضًا مع ساقيه الطويلتين

في الصندوق الخشبي المغطي برائحة المانجو الذي لم يتذوقه.

شريط أبيض بلا صوت،

بلا حركة،

بلا ذاكرة.

 

 

(2)

 

استيقظ في الثامنة أقف قبالة  باب دوّار يأخذني إليه برفق،

يتلاشى  صوت أمي  كأن لم يكن.

حين يعود في الظهيرة،

يتخلى عن قميصه المُبلل بعرق المحاولة،

يُريني عضلة تبرز على استحياء أعلى ساعده،

كنت أتشبت بها،

وبه،

أصنع منها أرجوحة كي أرفس العالم كعادتي ضاحكة !

 

بعد سبعة عشر عاماً أو أكثر،

كانت عضلة ساعده البارزة هي انتصاره الأخير،

محاولته المتهكمة لمعاودة الرغبة في الحياة،

قبل أن يكور ساقايه الطويلتان في صندوق خشبي،

مُغطي بالقماش الأخضر،

يتجه وحيداً نحو حافته.

 

(3)

أتوسل إلى الأحجار العالقة بروحي كلّ صباح،

أن تعود إلى موطنها في حديقة منزلي حيث تنتمي.

أمضغ مئة كتاب عن كيفية الزراعة وتجاوز الفقد،

أود أن أزرعك  في مواسمٍ لانهاية لها.

استيقظ صبيحة كل يوم،

أدعو أن تُنبت في شرفتي يومًا ما.

يخبرني المتمرسين في مواسم الرحيل

أنّي لن أستطيع معك صبرا،

كي أعيد إنباتك يتوجب علىّ أن أدفنك بطريقةما،

أبحث عن أرض تُحبك

تمنحك ذراعيها بلا قيدٍ،

بلا غيابٍ مُحتمل،

 بلا وعدٍ ينكسر.

 

في رأسي،

أُعيد إليك الحياة في اليوم ألف مرة

لم تمتلك يوماً هاتفاً خُلويا،

غير أني أهاتفك بلا انقطاع:

أنشأتُ مشروعاً باللون الأخضر،

أمضي في مسارات الكشف مُغمضة العينين،

احتفظ ببقايا صوتك في ملف الكتروني أخشى أن أفقده إن انقطع التيار الكهربائي!

غادرتُ خوفي القديم من الغرق،

لا زلت أتذوق المحبة على مهل.

ينقطع الخط.

عاجزة أن أفلت يدك كي يغادر أحدنا الآخر،

محاولات إنباتك في شرفة المنزل باءت بالفشل!

احتفظ بك أسفل وسادتي كسنٍ لن تبصره الشمس الشموسة،

لن ينبُت

سيبقي فراغ أعلى اللثة

ليذكرني بما فقدت

وأني أمارس فعل الحياة بقسوة كيلا يبتلعني الغياب.

الندبة الموشومة بأعلى الكتف تمسك بي بكلتا ذراعيها

تنهرني  كيلا أتوقف عن المحاولة.

 

 

(4)

 

أحدق بثقبٍ  يتسع داخلي،

يعج بكتيبة نملٍ تمشي بحوافٍ مدببة فوق جلدٍ يحترق،

ثمة صقيع يُجمّد أطرافي الأربعة كصليبٍ دُق للتوّ على الناصية.

تتخدر حواسي بالكلية

بلا أدنى مقاومة،

أهمس:

من غير العدل أن يحدث كل ذلك،

غير أن كل ذلك قد حدث بالفعل.

أحدنا مات مرتين،

كيف السبيل للململة الخسارة!

أغفر لك!

 

 

(5)

البيت مُعتم،

لا رائحة طعامٌ يُطهى أو مائدة تُعد،

لا صوت طمأنينةٍ يُخفف وطأة جُدرانٍ أسمنتية بُنيت على عجل.

ألقم مفاتيح البيت فم الباب الجائع،

أسير على أطراف أصابعي خشية أن أوقظ من سكنوا البيت في غيابي الممتد.

أسترخي على أريكة وضعتها أسفل شباكٍ يطل على ذاكرة الطفولة، 

لا ستائر تحجب الرؤية.

البنايات الأسمنتية وحدها تراني.

أتحسس ضفيرتي البُنية التي أحببتها دومًا ممتدة نحو سرتي،

تستحيل إلى حبلٍ سًري يُعيدني في كل مرة إليك.

 

(6)

جدتي ذات السن الذهبي حين تبتسم،

تهب لي ثعبانها الذي يأكل ذيله، وتبتسم!

خط يدك بالأزرق والأخضر" كل من عليها فان"، 

فوق المقبرة

دليلًا أبديًا للتيه والحنين،  

يقترب ببطء.

أغمض عيناىّ.

العتمة تُغلف الزوايا الأربع لصندوقٍ خشبي،

مُغطى بقماش أخضر.

يأتيني صوتٌ أعرفه:

"حديقتك  أنبتت شجرتىّ ليمون غرائبيتين بحجم البرتقال!"

ابتسم،

أوشك أن أخبر الصوت  أن تلكما ساقيك  الطويلتين

هاهما أنبتتا في البلد البعيد الذي أحببت،

لا أفعل.

احتفظ بسرٍ صغير ينمو بيننا،

ابتسم

تدق على النافذ حمامة رمادية،

تترك ريشة بيضاء توقيع محبة ممكنة.

أفتح عيناىّ ببطء.

تفوح رائحة حليب طازج،

أتحسس ثدياىّ

ينسل منهما سائل باللون الأخضر

ثمة عينان تنظران لي بفرح

يشب برأسه خارج الصندوق الخشبي،  

أزاح القماش الأخضر بأسنان نبتت بخجل

يشاكس الحمامة التي حطت على النافذة

يكركر ضاحكًا بغنج.

أُسميه "أنت"،

نتعاهد أن نبني معًا ذاكرة جديدة،

ذاكرة للحب.

أليس الحب أن يصبح أحدنا ذاكرة الآخر؟

****

(7)

إليه.

(8)

الغريب:

11 أغسطس 1944- 16 سبتمبر 2017

(9)

.