مقالة نقد مجتمعي معاصر تتناول محطات الكاتبة والسيناريست المعاصرة "غادة عبد العال" وقضية الاحتضان والتبني بمصر 2021
المقالة منشورة على موقع شريكة ولكن، وهو موقع معني بقضايا النساء في لبنان، العالم العربي، ومنطقة شمال أفريقيا.
******
"غادة عبد العال" تُغير شروط اللعبة .... كلاكيت رابع مرة!
تابعتُ مثل كثيرات مسلسل "عايزة أتجوز" الذي انطلق في عام
2010. لم أكن أعرف كاتبته، غادة عبد العال من قبل، بالرغم من شهرتها
في عالم المدونات بمدونة تحمل نفس الاسم، ولاحقًا
في كتاب أيضًا. كان مسلسلًا ساخرًا
عن طقوس الزواج في المجتمع المصري، كما تخبر غادة عن نفسها في مدونتها:
"أنا أمثل 15 مليون بنت من سن 25 إلى سن 35 و اللي بيضغط عليهم
المجتمع كل يوم عشان يتجوزوا مع أنه مش بإيديهم".
راقت لي
فكرة المسلسل كثيرًا، فهو يعتمد على أحد القواسم المشتركة بين المصريين في ذلك الوقت،
قاسم بدا لي أنه يحمل قدرًا من الواقعية والصدق يتجاوز كل ما يتمّ تصديره لنا عبر
الأغاني مثل "المصريين هم بالأكيد الذين شربوا من النيل وبعدين غنلوه، أو
لونهم قمحي لون خيرك يا مصر".لربما كان القاسم الوحيد بعد "هم#الثانوية_العامة،
هو معضلة زواج الصالونات، أو كما يخبر الجيل الأحدث كيف يمكننا اختيار شركاء
الحياة ضمن تقاليد وقيم الأسرة!! حين كتبت غادة عبد العال "عايزة أتجوز"
كتبت وهى تجلس بداخل الصالون المُدهب، كانت تحدثنا جميعًا وتتحدث معنا أيضًا،
تُحوّل الخيبات إلى ضحكاتٍ فيصبح ما تٌخلفه تلك الذكريات بكل ما تحمله من غشومية،
جلفنة، وتنطع إلى مساحة آمنة للتندر والفُكاهة. كانت حدوتة "الصالون
المُدهب" تجذبنا جميعًا لأننا كفتيات باختلاف طبقاتنا/ أعمارنا/ اختياراتنا
تعرضنا لها، وكانت جُزءًا من تاريخنا المشترك، تاريخ الطبقة المتوسطة التي يحلم
الشباب بعد التخرج بأن يسير في مسار محدد وواضح، وكذلك الفتاة، الأحلام العادية –
كما يُمليها كتالوج النجاح والتحقق والقبول بداخل نفس الطبقة- بتكوين بيت وأسرة
وما يلي ذلك من أحلام لاحقة مثل إنجاب الأطفال وبقاء العائلة ممتدة.
المسلسل يخبرنا أن بطلته "عُلاعبد الصبور" في الحلقة
الأخيرة- والتي يجب أن تأتي سعيدة كالعادة المملة- تجد أخيرًا فتى الأحلام، الرجل
"المختلف" كجائزة، تظفر بها البطلة بعد تخطيها لكافة الحواجز والعراقيل
التي وُضعت في طريقها على صينية الجاتوه في الصالون المدهب. بشكل شخصي كرهت النهاية،
لكني تفهمتُ أنها جزء من صناعة الدراما ككل، وأنه لربما تلك أحد كواليس العمل
والجمهور يمكن "عايز كده".
أحبطتني النهاية، غير أن شخصية "علاعبد الصبور" تجسدت
في لحمٍ ودم، بعد أن بدأت في متابعة الكاتبة نفسها عبر حسابها الشخصي على وسائل التواصل
الاجتماعي. في كل مُشاركة سريعة عبر الفيس بوك، كان واضحًا أن الكاتبة تود أن
تستكشف حدودها بداخل الإطار المحافظ للمجتمع، وتصبح جزءًا منه، تضع نفسها وأحلامها بداخل شروط اللعبة التي
يقترحها المجتمع، ألا وهى لامواعدة، لا علاقة خارج إطار الزواج، لااختيارات خارج
اختيار الصالون المدهب، فقط البقاء والانتظار والدعاء أن "ياتي ابن الحلال
اللي يعرف قيمتك ويعوضك عن كل اللي فات!". في كل محاولة منها لطرح موضوع
للنقاش، كان جليًا أنها تحاول أن تفهم وتستكشف، أن تصل إلى هدنة مع مجتمع لا يخبر
الفتيات على وجه الدقة ما المطلوب منهنّ بينما ينتظرن أن يطل عليهنّ الفارس بحصانه
الأبيض- مع الاعتذار للسيدة ماجدة الرومي التي أخبرتنا أن النساء
هنّ من سيطللن بالأبيض بالطبع في نهاية المطاف!
(2)
جاءت المحطة الثانية حين أرادت "غادة" أن تتبع نداء
الكتابة مما يتطلب منها ترك مهنتها الآمنة كصيدلانية في مسقط رأسها مدينة المحلة
والقدوم للعاصمة القاهرة لتصبح ترسًا جديدًا تحاول أن تحتفظ بصوتها وسط ضجيج
العاصمة، بل وتجد لموهبتها موضع قدمٍ وسط المنافسة الشرسة داخل صناعة الدراما
والسينما. صمدت الموهبة، ولم يكن المسلسل مجرد ضربة حظ لن تتكرر. ما حدث أنه تكرر
بشكل جميل وباتت الموهبة أكثر وضوحًا بالرغم مما تشاركته مع متابعيها حول عدم
تلقيها الدعم أو المساندة الكافيين، بل وتعرضها في كثيرٍ من الأوقات للتمييز كونها
"الفلاحة" التي أتت من الأقاليم لأضواء العاصمة حتى أدركت أن لاأضواء
بالعاصمة والتشويش يهرس الجميع!
تتشارك "غادة" مساراتها مع متابعينها، تجعل الشخصي
يحتل مساحة من العمومية فينخرط متابعيها معها وكأنهم يعرفونها فهى تبدو
"واحدة منهم". تتنوع شريحة المتابعين بين المؤيد والحانق من آرائها
ووصمها مرارًا بال"تهور" حتى أن واحدًا من المتابعين أخبرها بيقين
العارف بالغيب "أنها ستموت وحيدة"، وغيرها من التعليقات التي تفجر نطاعة
معهودة من متابعي الفيس بوك الذي يتطوعون بإبداء النصح دون أن يُطلب منهم أو
تتلبسهم روح الإله فينظرون للجميع من بروجهم العاجيّة! تستمر"غادة" تكتب، تشارك، وتعلن ما تفكر به. تود أن تفهم،
وتفكر دومًا بصوتٍ مرتفع، يبدو أنه يزعج البعض.
(3)
أما التحول الثالث، حين تخلت الكاتبة عن الحجاب وظهرت على
صفحتها أيضًا. يتقاطع هذا المسار مع مسار العديد من الفتيات- كاتبة هذا المقال
واحدة منهنّ- في تلك الفترة. كانت محطة التخلي عن الحجاب قاسية- للجميع.لم يكن
القيام بمثل هذا القرار بأمر يسير، نتبادل في جلساتنا تاريخنا الشخصي حول ذلك. في
بعض الأوقات نتحول إلى إخفاء الصورة القديمة ليس خجلًا، بل محاولة تقليل الجهد في
شرح أنفسنا والدفاع عن اختياراتنا التي لاتحتاج لكل هذا القدر من الإهدار في الوقت
والجهد. البعض منّا تركز على الصورة الجديدة كمن تبدأ حياة مختلفة بالكلية وتموت
نسختها الأقدم. الكثيرات من الفتيات في تقاطعهنّ مع مسألة الحجاب رفضه/التمسك به/
التخلي عنه/ الزود عمّا يمثله، نتردد كثيرًا في أن تتحول اختياراتنا الشخصية إلى
طرحٍ على المشاع في المساحة العامة يناقشها الغرباء بكافة أطيافهم.
أعلنت "غادة" ذلك على صفحتها ومارسته فعلًا وتفصيلًا.
تلقت الهجمات المرة تلو الأخرى حول ذلك. حين استقر بها المُقام بعض الشىء، كانت
تلتقط بين الحين والآخر ممارسات من واقع نسيج المجتمع وكيف تتحول الممارسات
الدينية إلى ممارسات قمعية بالأساس للنساء. لم تكن داعية دينية تبشر بدينٍ جديد بل
كانت فقط فتاة "تؤمن"، ولنقل أنها تود أن تؤمن إيمانًا يأتي من القلب
وليس من ترديد الببغاوات، هى تلك الفتاة المطيعة التي بالفعل تود أن تتحرك وفق
القواعد والأصول شريطة أن يشير إليها أحدهم أين المخبأ السري لكل تلك القواعد
والأصول التي تمّ الاتفاق عليها ولم يخبرنا أحد!! في كل طرحٍ تُقدمه وتشاركه "غادة"،
تقع حائرة في كل ما يحمله ذلك من تناقضات مع واقعها الجديد. لم تقفز غادة نحو
مجتمع متشدقي الحريات، فنحن نعلم- بفعل السنين والتجارب المًركزة التي تلت ثورة
يناير وكشفت سوءات الحناجر- أن تلك أوهام أخرى لاتلبثُ أن تنفثأ مثل فقاعة صابون
في مجتمعاتنا المكمكمة. "غادة عبد العال" لازلت تحمل الطبيعة المحافظة،
يمكنك بسهولة التعرف على ذلك، اختياراتها واضحة، مسارها غير ملتبس، وبالرغم من ذلك
فهى منبوذة من المجتمع المحافظ ذاته، مما يدعو للعجب!
مثل هذا المجتمع يقف عاجزًا أن يستوعب تحولاتها أو يُفسح مكانًا
لمن تقم بمثل تلك الخيارات التي تلطمه لطمًا في وجهه وفي كل مساراته المحددة وفق
الكتالوج الذي بذل النفيس والغالي ليتمترس أفراده وفق شروطه المحددة بكل دقة. كيف
لفتاة أن تسخر من تقاليد الزواج علانيةً وتفتح "الصالون المدهب" كاشفةً
عُهر كل ما يتم بداخله حتى وإن كان في قالب كوميدي لكننا نعرف أنه من المُضحكات
المُبكيات؟ كيف لفتاة ترك مدينتها الصغيرة حيث الحماية – كإرث عائلي- من الأهل
والأقارب، وتأتي لتعيش بمفردها لتبتلعها نداهة القاهرة؟ كيف لفتاة القفز بموهبتها
فقط في سباقٍ محموم بداخل عالم الدراما والسينما دون أن تتكأ على عائلة فنية أو
شبكة علاقات قوية داخل المجتمع المخملي؟ كيف تجرؤ أن تتخلى عن حجابها لتصبح شبيهة
بفتيات "البندر"، يبقى هتمشي على "حل شعرها". لم أجد يومًا
معنى لمثل هذه الجملة أن تمشي أحدنا على "حَلّ شعرها" ولطالما رددتُ
بيني وبين نفسي "هو فيه أجمل من مشهد واحد ست أو بنت ماشية وفاردة شعرها
ونسمة الهوا بتطير خصلاته". ولكني انتبهت سريعًا أن كل ما يحيط بالفتيات
والنساء من قُبحٍ لا يسمح بمثل تلك المشاهد الرومانسية حتى لو كانت الفتيات
بطلاتها الوحيدات في متعة بسيطة يتم إزاحتها شيئًا فشيئًا لتسكن الخيال فحسب. إذن
ف"غادة" صارت ضمن الفتيات اللواتي يمشين على "حل شعرهنّ"!
مبروك، فلنفعل ذلك، دونما التفاتة ندم.
(4)
يأتي التحول الأعمق والأصدق، حين أعلنت الكاتبة والسيناريست
الشهيرة غادة عبد العال لمتابعيها في الرابع عشر من شهر يوليو للعام الحالي تبينها طفلها "آدم"، يبدو الاسم برمزيته
واضحًا ببداية جديدة وحياة جديدة، بل وقفزة جديدة تعلنها وتسلط الضوء بتجربتها
الشخصية مرة أخرى نحو أحد أهم المنعطفات المجتمعية بمصر، ألا وهو الاحتضان بمصر، ومبادرة اكفل طفل في بيتك. تنهال عليها التهنئة من كل حدبٍ
وصوب، تهنئة لايشوبها شائبة فهى "واحدة" من مجموع نساء يٌعلنّ بكل رغبة
وصدق عمّا يفكرن فيه ويفعلنه دونما التفات.
يُعلق أحد المتابعين أن "عُلاعبد الصبور" يبدو أنها
وجدت نهايتها السعيدة! لازلتُ ارتبك أمام مفردتىّ النهاية السعيدة، فنحن
"نساء" أىّ نهاياتٍ سعيدة تنتظرنا في مجتمعاتنا التي لا تسمح لنا
بالمشاركة في وضع أى من شروط التعايش وفق اختياراتنا. بكيت بينما اقرأ الخبر مرة
تلو الأخرى، علمتُ أني أبكي لأني أعلم جيدًا أن الطريق لصنع اختياراتنا لايُكلل
بالتصفيق، أو الهُتاف أو التشجيع بل العرقلة وحدها هى ما ينتظرنا وبكل صورة ممكنة،
ومن الجهات الأربع. النساء لاا ختيارات أمامهن لا اختيارات على الإطلاق وإنهنّ-
مثل غادة- إذا أردن أن يصنعن الحياة التي تُعبّر عن رغباتهنّ خارج كتالوج المجتمع،
فسيدفعن الثمن لذلك طريقًا طويلًا يقطعنه بمفردهنّ في قاطرة لا تنتهي من
المفاوضات.تتقاطع حيواتنا مع أخريات وآخرين، لكن يبقى الشاهد الوحيد على الطريق هو
ذاكرتنا والخوف الذي ينهش دواخلنا قبل الإقدام على خطوة جديدة خوفا من أن تتحول
قفزًا في الفراغ!
كل شىء حول النساء لا يصفق لهن، لا ينتظر منهن سوى التحرك بداخل
الإطار المرسوم، حتى مع إدعاءات الحرية المهلهلة التي يجب أن تأتي بضوابط وحدود
وشراشيب لاتخدش عين المجتمع الذي يتلصص أفراده كلٌ على الآخر استعدادًا للرجم متى
ما سنحت الفرصة. أبكي فرحًا، أرسل قلبًا عبر الوسط الإلكتروني مصحوبًا بدعاءً أن
يصبح "آدم" ابنا للجميع وأن "تخاويه"#أم_آدم. أكف عن البكاء،
أردد بصوتٍ مرتفع: الأمومة اختيار، الزواج اختيار، العمل اختيار، نسيج الحياة
اليومي وما يحمله من تفاصيل عادية أيضًا خيار شخصي. أمسح وجهي، فلنمحو كلمة
"نهاية" ونضع عوضًا عنها "بداية" إنسانية تصنعها امرأة أخرى
من قبيلة النساء اللواتي ارتضين أن يركضن مع الذئاب.