الأحد، 18 مارس 2018

إشكالية الاحتفال باليوم العالمي للمرأة- #2

  مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 18 مارس  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة- إشكالية الاحتفال بيوم المرأة العالمي#2


"المرة اللي واكلة كلاوي النمل"

مشهد 1
أتوجه إلى موقف المنيب للميكروباصات، حيث يتم إعادة مشهد تحميل أفراد التراحيل من الفيلم العظيم “الحرام” لنجدد الذكرى لعام 2016. حدثنا الفيلم أن عمال التراحيل في مسار العودة تعلوهم البهجة والغبطة، فها هم محملين بالرزق من البلد البعيد اللي اسمها "مصر" (آه بنقول على القاهرة مصر)، وها هم عائدين إلى الديار تارة أخرى لحين أن تتكرر دائرة القسوة من جديد. كنتُ أحمل كتاب فاطمة المرنيسي "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، وقد حددتُ لنفسي هدفأ واضحاً، ليس أن أنسج حولي فقاعة تعزلني عن مشاهد القسوة المعتادة في المكان، ولكن لكي أفهم أكثر ما الذي تعنيه النسوية بعيدا عن حزقيات ومشاحنات السيدات من جمعية المرأة المتوحشة، والرجال العاجزين عن فهم وتفهم حجم المأساة التي نعيش بها يوم أن وصمنا بالخانة البمبي في البطاقة.
تسير الأمور بملل ورتابة لم يقطعهما سوى صوت "فرقعة" قلم! اندفعت الجماهير من الميكروباصات كـ"النمل" الذي يهرول خارج جحره. لوهلة تخيلت بأنها صفعة لرجل يتلقى صفعة من سيدة لربما تحرش بها. أحمل مخيلتي وأدور برأسي في المكان لأجد أن الـ"فرقعة" كانت قلما فعلا، لكنه هوى على وجه فتاة، والأكثر دهشة أن من وجهت القلم ذاته هي سيدة أخرى، لربما هي خناقة نسوية معادة ومعتادة لانتزاع سبع البرمبة، لربما هي خناقة أم وابنتها قررتا أن يضعا حدا لعلاقتهما المتوترة، فلم يجدا بداً سوى موقف المنيب.. استوقفت سيل المشاهد السينمائية في رأسي، وقررت أن أزق كتفا في الخناقة، بامتيازي الوحيد "إني واحدة ست". أُصبح أكثر اقترابا من المشهد، فتتجمع أطراف الحكاية في حقيبة سفري. الفتاة التي لم تتعد السابعة عشر هربت من أهلها علشان فيه "غضنفر" مستنيها في موقف المنيب، السيدة التي علمت بعد ذلك أنها تلقب بـ"المرة اللي واكلة كلاوي النمل" أدركت على الفور أن تلك الفتاة متلعثمة الخطاوي "وراها عملة"، أو بصدد الوقوع في براثن "عملة".
ما أثار حفيظتي أن الـ"مرة اللي واكلة كلاوي النمل"، لديها من السطوة ما منع أي من سائقي الميكروباصات من التدخل، وهم المعروفون معظمهم بطبعهم الفطري للأذي و التحرش بالسيدات. دفعني الفضول لأتقصى المزيد من جوانب القصة، فعلمت أن "المرة اللي واكلة كلاوي النمل" وهو تعبير باللغة الصعيدية يعني أنها "قوية"، و خافوا منها أحسن لكم، دي طلعت للنمل كلايوه، وقعدت تاكلها وتمزمز فيها، قد بنت أسطورتها منذ سنوات في موقف المنيب. لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف بدأت، أشلاء الحكاية توحي أنها تعرف جيدا من أين تؤكل الكتف في تلك البقعة شديدة الذكورة. تراها تتجول بحرية تامة، توجه السائقين، تستطيع عيناها أن تفرز "الرِجل" الغريبة في المكان، واللي “هييجي من وراها مشاكل”، استطاعت للوهلة الأولى أن تحدد أن تلك الفتاة سيتم التغرير بها لاحقا بمجرد أن تخطو خطوة واحدة خارج الحدود الإقليمية لعالم المنيب وأهله، صرخت في الفتاة صرخة الجريحة بقولها: "إنتِ عارفة بتعملي في نفسك إيه ومستنيكي إيه؟".
كان الطريق إلى مدينتي يستغرق أربع ساعات، لكنها تحولت إلى فيلم سينمائي ألعب فيه دورا صامتا، يتابع "فتاة" غارقة في سذاجة الحب الأولى، تم إنقاذها وتعود إلى مسقط رأسها بفضل رزعة قلم من سيدة لربما كانت هي تلك الـ"فتاة" ذات يوم، لكن لم ينقذها أحد. ما أدهشني أن جميع رفاق رحلة الميكروباص من الذكور لم يتعرضوا لها بأى أذى أو تلويح بجرم ما تفعله على الرغم أننا أصبحنا بمفردنا، ولم تصحبنا سيدة الموقف المدهشة، وكان يقطع صمت الرحلة عبارة يرددها أحد العجائز "مالكوش دعوة بالبت دي محمية في المرة اللي واكلة كلاوي النمل".
حينها أدركت أني يجب أن أتوقف عن القراءة، فأغلقت الكتاب، وسمحت لنفسي بالانصهار في حياة لم أعتدها من قبل، وإن كانت تخبرني ما لم تخبرني به الكتب.

كيف تصبحين "مرة واكلة كلاوي النمل؟"


مشهد 2
أعود إلى العاصمة البائسة، أنسحق مع جماهيرالشقاء في دائرة لا تنتهي من اعتياد القسوة، أتوجه إلى مخبأي الصغير في أحد أطراف المذبحة اليومية. التقيها بعد أن تسألني: "هو إنتي مصرية؟" يثير السؤال فيّ رغبة في الضحك والبكاء معا، وأسارع في الإجابة بكلمة مقتضبة: "للأسف"! نبدأ حديثا ضاحكا عن الحياة، لأعرف منها أنها كاتبة وروائية وممثلة فلسطينية قررت أن تأتي للقاهرة لتدشن روايتها التي تحكي عن المقاومة في فلسطين.
حدثتني عن الغربة ومحاولات التصالح مع الحياة، وعن السقطات والانكسارات والانتصارات، لمعت في عينيها رغبة في الحياة أميزها جيدا، حين قالت: “فلنقاوم بالفن، فلنقاوم بالرغبة في الحياة ذاتها، فلنترك أنفسنا لما تحمله لنا رياح الصدفة، فلن نضل ولن نشقى لأننا أدركنا أنه لا سبيل آخر لنا سوى المقاومة".. احفظ هذا الاسم جيداً "

ليلي أبو شحادة” وأدونه في روزنامة عقلي تحت بند "المرة اللي واكلة كلاوي النمل".

مشهد 3
أتوجه إلى عملي في اليوم الذي يليه، تهرع إليّ مديرتي بخبر نقلته وكالة أنباء البي بي سي عن فوز المعلمة حنان من فلسطين بالجائزة العالمية كأفضل معلمة. ابتسم للوهلة الأولى وأقول في سري: "إيه حكاية فلسطين معايا بالظبط يعني؟". أبدأ في البحث وإجراء بعض الاتصالات بالأصدقاء بين مصر و فلسطين لأجد نفسي أمام وجه آخر للـ"المرة اللي واكلة كلاوي النمل".
العاملون/ المهتمون بخلق نماذج بديلة للتعلم يعلمون جيدا باولو فرايري ونموذجه للتعلُّم والتحرر من القهر، ونجتمع سويا على فلترة كل ما نقوم به لنصل إلى أن هناك مقاومة وثورة سلمية يمكن أن نحدثها في التعليم.
تأتينا المعلمة حنان لتؤكد لنا أن ما نقرأه ليس تراصا للكلمات على ورق، بل هو واقع يعاش، من شأنه منح بديل أفضل للأطفال يستحقونه.
المعلمة البسيطة التي عانت من ويلات الاحتلال، قررت أن تصنع ثقبا في جدار اليأس عل الضوء يتسرب منه إلى أرواح الأطفال المنهكة. بحثت ُعن المعلمة "حنان" فوجدت أنها تستقبل طلابها بنينا وبنات بحضن آمن، تمنحهم ما لم تستطع الحياة أن تهادي طفولتهم.. تستكمل مع من يعانون من مشاكل سلوكية عنيفة مشوارا طويلا من التعافي تبدأه باستقبالهم على باب المدرسة بمد جسور المحبة ليعبروا عليها آمنين إلى ما ستلقيه عليهم من علم لاحقا، تفتح مسام إدراكهم أن بيئة التعلُّم الآمنة ليست جدرانا بقدر ما هي بشر قادرون على تلمس تلك الروح الحائرة بين أضلعنا.

        تتحدى مشاهد قسوة الاحتلال اليومية بجعل مادتها الصعبة على الفهم مكانا رحبا للغناء والتمثيل واللعب. تهدم أسوار التوقع والتربص والتقيد أن التعلُّم يحدث فقط حين يتراص الصغار في صفوف أشبه بالمجندين أو عنابر المرضى، وتفترش الأرض معهم ليتعرفوا على النباتات والحيوانات، ويجرون تجاربهم بكل أريحية وكأنهم يعودون إلى الطبيعة بفطرتهم البكر التي لم يلوثها أحد بعد.
لم يكن غريبا حين تحاورنا مع الأطفال أن تكون استجابتهم على سؤال ماذا تفعلون مع المعلمة حنان: 

"نلعب ونتعلم"، 

"نمرح ونتعلم"، 

"نفكر ونتعلم"، 

"نحاول ونتعلم"، 

"نخطط ونتعلم". 

كل تلك الأفعال التي سبقت التعلم هي مسالك المعرفة.. هي أبواب تمّ فتحها برفق ليكتشف الأطفال خلفها عالما آمنا يستحقونه وتستحقه طفولتهم المغدورة.
أذيل تقريري عن المعلمة حنان ليس بأنها الفائزة بالجائزة العالمية كأفضل معلمة، بل كنموذج آخر للـ"مرة اللي واكلة كلاوي النمل"، وابتسم.


مشهد 4
استقبلت الدعوة لحضور العرض الموسيقي في تلك الصومعة التي تدعي تشجيع الفن الهادف أو النظيف أو أبو سبع طبقات وأستك، فلتسمه ما تشاء من تلك التيكات الجاهزة لتفريغ الفن من معناه.
أتململ في التواجد في المكان ولكني اعترف لنفسي أني في حالة ظمأ للمزيكا.. بدأ العرض بمقطوعات من البيانو وتلاه صرخت الكمان في متواليات لا تنتهي من الحزن الصافي، لم يعكره سوى ومضات تفكيري الدائم أني لا أنتمي لهذه الموسيقى، أنظر إليهم كأنها موسيقى الطبقة الراقية، ويروق لي كثيرا في انحيازاتي أن أبحث عن صخب الطبلة، أو شجن العود أو دلع الرِّق كخلخال فضة في قدم فتاة من بحري.. لا يقطع هواجسي سوى تقديم الحفل لعدد من المواهب الصغيرة التي تبناها عازف البيانو.. يصعد إلى المسرح طفل لم يتجاوز التاسعة، يبدو متأنقا في تلك التوكسيدو التي يخيل إليّ أن والدته/ جدته أوصته أن يبدو "جميلا"، هكذا لعلهم كانوا قارئين نهمين لكتالوج "افعل ولا تفعل" و"البس اللي يعجب الناس مش مهم يعجبك إنت"، فبدا الطفل لي وكأنه واقع في الأسر، لم ولن يحرره منه سوى شغفه وموهبته البادية في لعب البيانو.
ثم ظهرت على المسرح تلك الفتاة التي لم تتجاوز الثالثة عشر، لم تكن موهبتها فحسب هي ما انتزعت صيحات وتصفيق الجمهور، بل ذلك الحضور الطاغي الذي فرضته بمجرد أن وطأت قدماها المسرح. ففي أجواء ارتدى فيها من يدعون أن الموسيقي تحررهم رابطات عنق وجواكت ليبدون مثل عساكر الدرك أيام الاحتلال، ظهرت تلك الفتاة العفية مرتدية هوت شورت وتي شيرت وقبعة من الخوص.

أبهرتني قدرتها على أن تصنع لنفسها شخصية مستقلة في مشهد خانق يمجد القالب الرسمي "المؤدب"، أدهشتني أنها لم تأبه لتعليقات بعض عواجيز الفرح "آه وماله تلبس كده دلوقتي، بس بكرة لما تكبر خلاص بقى"، متبوعة بعدد لا نهائي من الضحكات السمجة.

انهكمت في تقديم فقرتها الموسيقية، واستدرات تحيي جمهورها من خلف قبعتها الخوص، وغادرت.
أرسلت إليها دعوات في السماء ليس لأن تحتفظ بموهبتها الموسيقية فحسب، بل لتحتفظ بروحها "الوحشية" البكر، ولربما جمعتني بها صدفة أخرى لأروي لها عن "المرة اللي واكلة كلاوي النمل"، وكيف تجد طريقة لها في ذاتها لا تتخلى عنها.


فينالة:
انقضى النصف الأول من الشهر الذي يتم إلقاء الضوء فيه على المرأة، وأكاد أبتسم أني في خلال 15 يوما فقط، اقتربت حد الالتصاق بأربع نماذج من نساء وفتيات صغيرات، أصدق ما يقال عنهن أنهن ما بحثت عنه في تدويني وتفسيري لذلك المصطلح الصعيدي الصميم "المرة اللي واكلة كلاوي النمل"، 

وسأظل أبحث…. لأني "رأيت".

مُفرط في العاديّة- الكتابة، النسويّة، ومعرفة الذات.

نص "مُفرط في العاديّة" هو نص يجمع ما بين الكتابة الذاتية، الشعر، المقال التأملي، نتاج ورشة تشاركية امتدت لما يزيد عن العام بالتعاون مع مؤسسة اختيار للبحوث والدراسات الجندرية والجنسانية.

مؤسسة اختيار هى مؤسسة مصريّة معنية بمناقشة قضايا النوع الاجتماعي وتوثيق/تطوير الإنتاج المعرفي الخاص به باللغة العربية

ظهر نص "مُفرط في العادية" ضمن نصوص إصدارة كاتبات الخزانة بتاريخ 18 مارس 2018.

إصدارة كاتبات الخزانة هي نتاج دعوة للقراءة والنقاش والكتابة الجماعية أطلقتها مجموعة اختيار في 2017م.

من خلال عمل المجموعة التشاركي، تمّ ترجمة ومشاركة نصوص لغلوريا انزالدوا لتأثيرها القوي المستمر على الأفراد، وعملية توثيق المسار الشخصي والجمعي، ومن ثمّ على الإنتاج المعرفي كعملية سياسية تقع في صميم الإيمان النسوي بأهمية الإنتاج المحلي من “نساء العالم الثالث” كما يُطلق عليهمنّ، من كُتب عنهن وليس لهن؛ بأقلام تتحدث عن حيواتنا وصراعاتنا ووجودنا لكن ينتمي القليل منها لنا.



مُفرط في العاديّة

أكتب ربما لأن روحي معطوبة لا أدري!

أو ربما اكتشف أنها لم تكن معطوبة بهذا القدر.

***

    أريد أن أكتب عن كلّ الأشياء التي لانستخدم فيها كلمة "نضال"، "قضايا" ،أو "معارك". أسعى أن أكتب عن تفاصيل الحياة المُفرطة في العاديّة، عن تجربتي الأولى في السفر، عن قرارٍ اِتخذته ذاتَ ليلٍ ومنحته متنفسًا في الصباح، عن رغبتي في عدم الإقامة بفندق واختيار عشوائي مُحبب للقلب لشخصيةٍ افتراضية على كوكب الفيس بوك، التقيها، تتطوع مشكورة بمنحي هدية المبيت، أتلقى سخاءها الإنساني بترحاب، وألقي بنفسي في التجريب حتى نهايته. 

        أود أن أكتب عن لحظة سيري في مدينةٍ أجهلها للغاية، لحظة افتقادي بيت أمي بالرغم من قراري الواعي بمغادرته، أريد أن أكتب عن رسائلٍ سريّة نتبادلها في الخفاء علّ إحدانا تجد طريقها نحو الأخرى، علّ كلانا نتعافي حين نجد نهاية لحكايةٍ لم ترو كاملة بعد. أحتفظ برسائل أمي السرية، وسأتشارك رسائلي معك، كلانا عالق في علاقة شائكة نحاول التخلص من جنينها للمرة السابعة عشر بلاثمة أملٍ لا في بقاء مُعلن أو تخلٍ أبدي. ينهار كلّ شيء حين تنير لمبة حاسوبي باللون الأخضر حاملةً كلمة واحدة منك “إزيّك!!” ينهار كل شيء أعددته سابقًا، فاختصر آلاف الأميال من الزيف والتصنع و أكتب إليك “هات بوسة”.

        أريد أن أكتب عن اكتشافاتي اليومية الصغيرة في ملء فراغ الروح بدءًا من إدعاء المرح المبالغ به على صفحات الفيس بوك ونهايةً باختياري الواعي أن أُفني نفسي تمامًا في مهنةٍ تستلزم مني أكثر من اثنتي عشرة ساعة متواصلة لأصل إلى ما أنا عليه، كى أثبتُ- لجمهورٍلامرئي- أنّي جديرة بالوجود والبقاء في عالم الماكينة الأعظم، ومرورًا بكل العابرين الذين أفسح لهم مكانًا ليعبروا فوقي. أريد أن أكتب لماذا أفعل ذلك؟ لماذا أسمح بحدوث ذلك؟!

        أريد أن أكتب عن كلّ ما لايهم الشأن العام لربما سأنغمر بكليتي في كتابة وتفنيد وتحليل وضبط زوايا كيف تتكاثر الزرافات في محميات تنزانيا الشاسعة! أريد أن أكتب شيئًا عاديًا تمامًا، ولربما يبدو تافهًا. لم يكن لديّ أي من الجدات لتقصّ على مسامعي حكايا قبل النوم، ولم تخبرني أمي سوى حدوتة وحيدة عن طائرٍ يُدعى “نقّار الخشب” قادر على اِلتهام كل من تخلّف عن النوم في الموعد المحدد. أريد أن أكتب كثيرًا عنه، وعن كشفي الأول أني قضيت ليلة مدرسية كاملة بانتظاره و حين لم يأت ذهبتُ إلى المدرسة لأسقط نائمةً في حصة أستاذ رمضان للغة العربيّة. لم يُخيفني نقّار الخشب، لكنّ أستاذ رمضان الذي لايتورع عن استخدام يديه وقدميه لتأديبنا أخافني كثيرًا. أريد أن أكتب كثيرًا عمّا يُخيفني، لا أعرفه على وجه الدقة لكني سأمنحه متسعًا وسأُطمئن مخاوفي لكي تطرح نفسها كما هي.

        أريد أن أكتب لأفهم لماذا شعرت بالانجذاب الجسدي لذلك الرجل الجالس أمامي للمرة الأولى، كيف قفز إلى رأسي هاجسٌ بضرورة تقبيله على الرغم من أسنانه المنهكة وشفتيه اللتان تشيان برائحة المشروب. أبحث بسرعة الصاروخ داخلي عن أي اتيكيت أخلاقي يردعني من القيام على الفور وتقبيله علّه يتوقف عن إلقاء نكاته السمجة، لربما حين أكتب عن ذلك سأكون أكثر شجاعة في الواقع مما أنا عليه على الورق. حين ألتقيه ثانية- و سأعمل جاهدة ألا يحدث- سأقبله و سأنقل إليه فيروس روحي المعطوبة- لست موقنة.

***

الكتابةُ تفتح لي ذراعيها لأركض نحوها وأتخلى عن عتمتي.

علمتني أمي كيف أقضي حاجتي،

كيف أضمّ ساقاىّ حين أجلس وأشد طرف ثوبي فلا تستبين ركبتاىّ،

كيف أكف عن ترديد السباب فلست بحاجة لأبدو كصبي،

غير أني لاأعرف عالمًا أخر سوى عالم أخوىّ!

كيف أصبح ناجحةً في العمل بالمزيد من العمل وتقوى الله.

لم تُعلمني أمي الصلاة،

لم تُعلمني أمي الكتابة،

لم تُعلمني كيف أعبر الألم حين يقض مضجعي!

يكتبُ أبي في أوراقٍ سريّة أحفظها عن ظهرِ قلب.

يرصُ الحرف بجوار الحرف لأن هناك شىءٌ يأكل روحَه من الداخل،

و يستعصي عليه أن يصفه للآخرين،

الكتابة تمنحه ملاذًا أمنًا

علمتني أمي ألا أشبه أبي.

***

        ما يؤرقني أن فعل الكتابة ليس فعل امتلاء كما ظننت يومًا. من السهل أن أفتح شاشة اللابتوب واستجيب لغواية الصفحات البيضاء، انهمك بكليتي في رص الكلمات بجوار بعضها البعض. الكتابة أقرب لي  كفعل خلق الفجوات بين كل ما ظننته يومًا امتلاءًا. تلمُسي الحياة العادية يعيد تأريخ العالم في رأسي، كنتُ أظنه ممتلئًا بمعاركٍ ضارية يتوجب عليّ أن أنخرط في إحداها لكي استمد قيمتي وأعلن عن وجودي الإنساني. لكن ماذا لو لم يكن الأمر كذلك؟

        ما يؤرقني هو عمّاذا أكتب، كيف أحول كل ما يجلس ساكنًا أمامي من صفحاتٍ بيضاء، مُتسع من الوقت، مهارةٍ ملحوظة في تركيب الكلمات واللعب بها، كيف أجعل من كل ذلك فصلًا دراسيًا أمارس فيه عملي كمعلمة تخبر تلاميذها عن العالم بينما ينصت لها الآخرون بعيون تتسع دهشة؟ ما العالم الذي أريد أن أكتب عنه؟ ما جدوى أن أكتب عن العالم دون أن تستطيل رقبتي لأنظر إلى عالمٍ بالكامل يقبعُ داخلي! كيف أمنح العالم بعضًا مني، إذا لم أمنح “عالمي” كل ما يعتمل بقلبي!

        الكتابة بالنسبة لي هي الفعل الأوحد الذي يُمَكِنُني من الانكفاء على ذاتي، وأن أعيدَ تفكيك عالمي، لربما إفراطه في العاديّة يُخبرني عن حقيقة كلّ الأشياء التي يبدو أني أمسكها في راحتي يدي، ثم تنسل مني كمياهٍ تعود إلى نهرٍ يجري بعيدًا عني.

        استحضر يوم تخرجي، حين صعدت إلى المسرح مرتدية أفخر الثياب، يُحركني وهمٌ أنّ هناك جمهورًا غفيرًا ينتظر تلك اللحظة الحاسمة، لحظة أن تطأ قدمي الكريمتين المسرح لأتسلم “ورقة مختومة” لا تختلف كثيرًا عن مائتين ورقة سيتم تسليمها لمن يقفون خلفي في طابور يمتد عبر السنين. تسلل الوهم إلى مسام جلدي فانتابتني القشعريرة من قداسة اللحظة! وإذا فجأة ينكسر كعب حذائي الذي حرصت أن أرتديه أول مرة ليبدو كل شيء مثاليًا. ينادون اسمي في ميكرفون الحدث، أقف أحمل فردة حذاء لاأمل في تصليحها، ها هو وهم الشهرة يغدو بعيدًا! أدرك تلك اللحظة أني لم أعد طفلة أبي الاستثنائية وأنه بات لزامًا علىّ العبور نحو العالم بقدمٍ واحدة. يتم تخليد المشهد الذي تحول لاحقًا لحدثٍ فُكاهي: شابةٌ تتقدم بخطواتٍ راقصة لتسلم شهادتها، تفجر الضحكات في الجو الأكاديمي المحافظ! 

تمر السنون، أُعيد النظر و أعود إلى الصورة مرارًا، أخطو فوق مرارة أني لم أعد طفلة أبي الاستثنائية وأن العالم ينتظرني بلهفة فاتحًا ذراعيه، أعيد طهو كل شيء وأتلذذ بالمرور فوق كلّ الأشياء مفرطة العاديّة: مسام بشرتي الواسعة التي تشبه البرتقالة، الخط النافر المجاور لفمي الذي يشي بابتسامات منحتها مجانًا في سنوات البهجة الأولى، أظافر يدي التي تشبه أظافر أبي الراحل، الكدمة الزرقاء على عنقي كتوقيعٍ للمحبة العابرة، ساقاي اللتان تكتشفان عالم كرة القدم للمرة الأولى بشبق، رأسي الذي يعج بأفكارٍ تتقافز مثل حبات فشار تمّ طهوها للتو، نظرة حارس البناية المرتابة والموشومة بأعلى مؤخرتي حيث تليق، المحادثة اليومية مع السائق كي يصل إليّ في أقل قدر ممكن من إهدار الوقت ثم الخيبة المعتادة، التلويح لسائقي الميكروباصات في نهاية الشارع أني سأحاول جاهدة أن أعود للمنزل قبل أن يحل الظلام فلا أصبح فريسة مشتهاة لإعلانهم الذكوري المفرط، التأكد أن ملابسي لا تنحشر بين إليتىّ فأبدو مدعاة للسخرية في اجتماع المؤسسة العاجل، الانهماك في إبداء التأييد لكل الحديث الهُرائي الذي نُعيد إنتاجه وتخزينه بين دفتىّ ملفات حرصنا على أن نبتاعها بألوان مختلفة- محاولة يائسة لتصنع الحياة من خلالها، انتظار لحظة أن تعلن معدتي عن حاجتي لتناول طعام ثم الانخراط في تأنيب الذات لأني لاأحصل على طعامٍ صحي ومعاودة التفكير تارة أخرى في إمكانية أن أتحول إلى نظام غذائي آخر وينتهي بي المطاف بتولي عقلي الفانتازي القيادة بعض الوقت، فأقرر أن أتحول شجرة، البحث عن رجلٍ اشتهيه لا تفوح منه رائحة الخيبة، ملء فراغات اليوم بكل ما من شأنه أن يبدو “نافعًا” و”خلاقًا” بينما تعتمل في صدري الرغبة في الضحك من لا جدوى أي شيء والكفّ عن ملحقة المعنى كأرنب أليس العزيز، التأكد من العودة للمنزل كى اختار مكانًا استثنائيًا على الأريكة، التخلّي عن حمالة الصدر فور الولوج للمنزل، الحرص أن ينتهي اليوم بتناول طبق أُرز بلبنٍ داومتُ على اِبتياعه من أحد محلات الكشري في طريق عودتي للمنزل، عندما ينتهي يومٌ مُفرط في العاديّة كسائر الأيام.

الأحد، 4 مارس 2018

«عن الجسد والروح»: «أليس» في مصنع الأبقار

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

ثقافة- سينما أوربية

تاريخ النشر: 4 مارس 2018

موقع "مدى مصر"، أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية في العالم العربي

الموقع، قد يكون محجوبًا في بعض البلدان العربية، يُنصح باستخدام متصفح "ثور"

*******

«عن الجسد والروح»: «أليس» في مصنع الأبقار



«عن الجسد والروح»(2017)، فيلم مجري للمخرجة «إيليديكو إينيدي» وهو أحد الأفلام التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الأوسكار 2018 لأفضل فيلم أجنبي. فاز الفيلم سابقًا بجائزة الدب الذهبي في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين الدولي في دورته السادسة والسبعين.

تدور أحداث الفيلم حول رجل وامرأة يعملان بمجزر آلي، يكتشفان، بمصادفة مربكة، أنهما يجتمعان كل ليلة في الحلم كزوجٍ من الغزلان في غابة مكسوة بالثلج، فتنشأ بينهما في الحقيقة قصة حب يمارسان فيها بارتباك أفعال البالغين. تتمكن المخرجة، التي يعد الفيلم تجربتها التاسعة، طوال 116 دقيقة من إقامة جسور بين عالمي الخيال والواقع، والعبور بينهما بخفة متناهية.

لا شيء يشي في البداية بأننا أمام قصة رومانسية، خاصة في الخمس دقائق الأولى من الفيلم. في حقيقة الأمر، قد يخطر بذهن المشاهد أنه بصدد مشاهدة فيلم عن حقوق الحيوانات، فالكاميرا تتوقف ما يقرب من العشر ثوانٍ أمام أحد الأبقار التي تحملق في الشاشة، ثم تنتقل بإيقاعٍ بطيء بين مراحل إعداد وذبح ثم سلخ الأبقار. تستخدم المخرجة الإيقاع البطيء في عملية الذبح وإعداد الذبيحة، دون أن تقدم وعظًا مباشرًا حول أخلاقية تناول لحوم الحيوانات. هي تتناول ذلك كجزء من طبيعة المكان الذي تدور به أحداث فيلمها. تصنع الكاميرا شيئًا من الطرافة والدلالة حين تنتقل للمقاربة بين عالمي الأبقار والبشر، فنرى الكاميرا تصور سيقان الأبقار وهي تصطف في المجزر، ثم تنتقل لمشهد يركز على سيقان العاملين بنفس المكان.

يبدو أن المخرجة تصنع من عالم الأبقار ممرًا لفهم عالم مجموعة البشر التي تعمل بالمجزر الآلي. تصور مثلًا مشهدًا لحوافر بقرة، ثم يليها مشهد ظهور البطلة للمرة الأولى، تركز فيها الكاميرا على قدميها، حيث تعلن وجودها من خلال تأكدها أنهما تقفان بمحاذاة إحداهما الأخرى، بينما على الجانب الآخر تتعالى ضحكات نساء المصنع.

يكرر الفيلم أيضًا لقطات لتنظيف المجزر من دماء الأبقار، حيث تتجول الكاميرا مع أرضيات المجزر الغارقة في الدماء، لتحيلنا بعد تصاعد الأحداث لنفس الإيقاع البطيء في مشهد الدماء حين تحاول البطلة الانتحار في حمام منزلها.

اختيار المخرجة للممثلة ألكسندرا بوربلي اختيارًا موحيًا وذكيًا، فملامحها تشي بالصرامة والجدية، في دور يتطلب من ممثلته أن تشبه شكلًا و«فعلًا» قطعة الثلج، فهي مفتشة الجودة بأحد المجازر. وحين تقترب من حياتها، يتكشَّف لديك أنها تعاني من التوحد، ولديها هوس شديد بنظافة أية مائدة تتواجد عليها، حتى إن كانت منضدة المشفى، الذي تواجدت فيه بعد محاولة انتحار فاشلة.

وهذا ليس فحسب. لدى البطلة ذاكرة تشبه الروبوت الآلي، ولذلك هي تختبيء جيدًا خلف شاشة مراقبة الجودة بالمجزر، فهي قادرة على تحديد إذا كانت الأبقار مطابقة لمعايير الجودة أم لا، وإن كان الفارق بضعة مليمترات فقط، كما أنها قادرة على استرجاع كل ما تفوه به البطل نصًا في محادثتهما الأولى.

مع تصاعد أحداث الفيلم، تبدو البطلة مثل «أليس في بلاد العجائب». لدينا بطلة ذات شعر أصفر، وعينان تتسعان دهشة، بل هي لم تغادر عالم الطفولة بعد، فلازالت تلجأ إلى معالجٍ نفسي في حضانة مدرسية. لا تستطيع أن تدرك أن الانتماء إلى عالم البالغين يعني بديهيًا أنها تمتلك هاتف. لا تجد أية غضاضة أن تتوجه إلى شخص لتخبره كم هو جميل ثم تمضي لتناول الطعام. تقتني لعبة لكي تشعر بالدفء. إمكانية التجول مع البطلة  كـ«أليس» يمنحنا خيطًا إنسانيًا، يمكِّننا من رؤية كيف تعبر البطلة نحو إعادة اكتشاف عالمها عن طريق الحواس وبخاصة حاسة اللمس.

الممثلة ألكسندرا بوربلي بطلة الفيلم


في مشهد شديد العذوبة تغمس البطلة يدها بالكلية في طبق بطاطس مهروسة، لتترك حواسها تخبرها بما لا تفهمه، وفق اللوائح وقوانين المجزر أو عالم البالغين. في مشهد آخر، يستكمل حالة الكشف والدهشة، نجدها تلمس إحدى الأبقار كأنها تتعرف عليها، بطريقة تثير ضحكات زملاء المجزر. ثم في النهاية حين تكتشف فعل المحبة مع البطل تظل عيناها تتسعان دهشة، وتمد يدها إلى ذراعه المعطوبة لتكتمل بها وبه.

أما بطل الفيلم، فهو بالغ في الخمسين اختبر الحياة واختبرته بذراع معطل، يمضي اليوم بمراقبة كل ما يدور حوله وبخاصة النساء في المصنع. يختبيء، مثل البطلة، خلف مكتبه أو يخدر حواسه عمدًا بقضاء ساعات الليل أمام  شاشة التلفاز أو محدقًا في بطء الزمن حول مصباح غرفته. يرفض أن تلمسه امرأة بدافع الشفقة أو محبة عابرة فقد قطع عهدًا أنه اكتفي من أفاعيل الحب المرهقة.

في البدء يفشل البطلان بالمحبة في العالم الحقيقي، ويقعان في ورطات الحب المربكة وخيباته، ثم يلتقيان في عالم الأحلام وهناك يدركان أنهما بحاجة لإعادة عبور ذلك الجسر نحو الآخر كلًا بطريقته، وبإيقاعه، وبإمكانية المحبة، رغم «عدم اكتمال» الآخر.

موسيقى الفيلم من العناصر الهامة به، وتم توظيفها بذكاء. فتتوقف مثلًا حين تحتل الشاشة مشاهد الغابة، فتتركنا المخرجة لمخيلتنا في موسيقى الطبيعة، التي تتكشف من خلال أصوات حفيف الشجر، أو انسياب ماء الغدير وسط الثلوج، أو لهاث الغزال راكضًا، ومرتطمًا بجذوع الشجر في الغابة. تنساب الموسيقى بنعومة في الفيلم، وتكتفي المخرجة أحيانًا باستخدام البيانو فقط في الكثير من المشاهد، إلا أنها تصل إلى ذروتها الجمالية، حين تنتقي أغنية لورا مارلينج «ماذا كتب»، لتوازي ذروة الأحداث في قصة الحب.

رغم أن الأغنية تحكي قصة حب بين رجل وامرأة يتبادلان الرسائل في زمن الحرب، إلا أن هذا لا يمنع المخرجة من أن تراها مناسبة لفيلمها، الذي تتكشف فيه قصة الحب بين البطلين، حينما يأخذان قرار بأن يكتبا ما يشاهدانه من أحلام على الورق..

تقول الأغنية «أنا فقط أفتقد رائحته».  فكما جعلت المخرجة قصة الحب في فيلمها تبدأ حين تشمم الغزال أليفه، فإن «عن الجسد والروح» يصور كيف  أنه بعثور البطل والبطلة على أحدهما الآخر، فهما  بذلك «يتشممان» طريقهما نحو المحبة، في عالمي الخيال والواقع.

وفقاً لقبائل السكان الأصليين بـ«بيرو»، فهناك طقوسًا خاصة للانتقال من الطفولة إلى عالم البالغين، يطلقون عليها «طقوس العبور». يُترك الإنسان في أحد الغابات لإيقاظ حيوانه الداخلي بعيدًا عن الجسد الذي يؤطر الروح، على أن يعود حينما تكتمل طقوس العبور كاملة، وحينها ستكون قبيلته بكاملها في انتظاره معلنة ميلاد «بالغ جديد».

في رائعة تشارلز لوتويدج، احتاجت «أليس» عالمًا كاملًا من الخيال في «بلاد العجائب» لتستطيع العبور نحو ما عجزت عن فهمه وإدراكه عن ذاتها والعالم الخارجي، فعبرت من خلال إعادة رسم خارطة تقودها أسئلتها نحو الذات والعالم. في هذا السياق، يبدو لي فيلم «عن الجسد والروح» أحد طقوس العبور التي تصنعها السينما بكل أدواتها، لنعيد ضبط زاوية الرؤية للجسد، ليصبح بابًا دوّارًا يعبر بنا إلى أرواح تائهة في عالمٍ شديد القسوة والبرودة، يحيلنا إلى لا وعى يختبئ في ثنايا الأحلام، يخبرنا أن المحبة وحدها هي الطقس الأوحد للعبور نحو الآخر فينا.

الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017

«مخدومين»: مربعات الحصار والتورط!

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم- ثقافة/ سينما عربية

تاريخ النشر: 10 أكتوبر 2017

موقع "مدى مصر"، أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية بالعالم العربي

الموقع، قد يكون محجوبًا في بعض البلدان، يًنصح باستخدام متصفح "ثور"

******

«مخدومين»: مربعات الحصار والتورط!


في فيلمه السابع «مخدومين»، يستكمل  المخرج اللبناني ماهر أبي سمرا ما بدأه في أفلامه السابقة من الكشف عن المعاني المتعددة للحصار، مطوّعًا أدواته ليعبر بالمُشاهد من قضية خاصة إلى مشهد مدينة بأكملها، مُكثفًا مهارته في حيزٍ ضيق ليصل بمشاهدي فيلمه، ليس فقط لإدراك معني الحصار، بل التورط الكامل فيه.

لدى ماهر أبي سمرا شغفٌ خاص بفهم معنى الحصار وتفكيكه، فيما يتعامد مع اختياره للمكان كمتغير فاعل في سبر أغوار ذلك الشغف.

في الندوة المصاحبة لعرض فيلم «مخدومين» بمهرجان «أيام القاهرة السينمائية»، قال:«عادة أختار مكانًا وأمكث به، أتعارك معه وأحبه ثم أجعل الكاميرا جزءًا حميميًا من الحدث، بما يفوق ربما السرد الروائي ذاته.»

هذا ما فعله في فيلمه «دوار شاتيلا»، والذي دار في المخيم الفلسطيني المقام عام 1949 بطول كيلومتر واحد وعرض 600 مترًا؛ حيث تجولت الكاميرا في مساحة 150 مترًا منه لترصد يوميات القاطنين هناك، كأنها أحد سكان المخيم ذاته.  وفي فيلم «نساء من حزب الله»، قدّم المخرج قصة سيدتين يحاصرهما انتماؤهما الحزبي، ومن خلال فيلمه «كنا شيوعيين»، قدّم الرغبة في الانعتاق من الانحصار في أسر أيديولوجيا بعينها.

أما فيلمه «مخدومين» فيبدو أن فكرته نشأت عن مصادفة في أحد المقاهي جمعت المخرج بزين، مدير أحد مكاتب استجلاب العاملات بالمنازل، مصادفة دفعت المخرج لتكشُّف معنى الحصار في تلك القضية المجتمعية الشائكة. ولأنه مولع بالمكان كفاعل درامي في حد ذاته، اختار أبي سمرا مكتب زين، لتمر عبره كافة أحداث الفيلم.

كيف تقودنا الكاميرا لمعنى الحصار؟

يروق للمخرج هندسة المكان باستخدام كاميرته، التي تُقسم الكادرات لماكيتات بحسب مقاييس رسم صارمة، ما يحوّل الكاميرا في النهاية لما يشبه المهندس المعماري، ويتجلى هذا في كثير من كادرات الفيلم المحبوسة داخل مستطيلات.

من مشهد البداية، نجد الكادر الافتتاحي مربعًا ثابتًا وبداخله صور متتالية لسيدات منزل، وعلى الجانب تقف العاملات المنزليات.



بعدها تُعرض الشخصية الرئيسية، زين، مدير مكتب استجلاب العاملات، في كادرات مربعة الشكل يبدو هو بداخلها محاصرًا، سواء من قِبَل النافذة المربعة من خلفه، أو شاشة التلفاز التي يطيل النظر إليها. كاميرا المخرج أوقعت زين، ودون أن يدري، في فخ أن يصبح هو ذاته «محاصرًا»، بلا مجال للهرب إن أراد.

تنتقل بنا الكاميرا لنسمع أصوات المشاركين في الفيلم من خارج المكتب، وذلك من خلال نوافذ منازلهم المربعة هي الأخرى.

في نهاية الفيلم، وعبر كادرات متتالية، تصل الكاميرا لذروة توظيف فكرة «المربع»، حيث تبدو الكادرات كأنها نيجاتيف فيلم يتم كرُّه على يد شخص غير مرئي في معمل للتحميض. نرى صورة لبيروت على هيئة أطر أسمنتية عملاقة تتقازم حتى تبدو أشبه بعلب كبريت تحمل لوحات إعلانية مربعة فوق أسطحها، فيما يربط بين توحش رأس المال وقانون العقارات الذي يجرّم وجود نوافذ بغرفة الخادمة.



ينتهي هذا الجزء من الفيلم إلى أطر أضيق تُسكَّن فيها أضعف حلقة في دائرة القهر؛ نساء فقيرات لا يملكن وسيلة للبقاء سوى القفز من النافذة.



يتكثّف إحساس الحصار أكثر في مشهد التكالُب اللفظي على إحدى الفتيات العاملات التي تعلن عن رغبتها بالعودة لقريتها حيث يعيش والدها، فتنهال عليها، بينما لا نراها، كلمات كطلقات رصاص من صاحبة البيت وابن صاحبة البيت وزين، مدير المكتب، ومعهم رفيقة مأساتها التي تخونها بعدم ترجمتها الصحيحة لما تريده وبانضمامها للجبهة الأخرى.

لا تتم محاصرة الفتاة في المشهد السابق لفظياً فحسب، بل يتم تغييب حضورها بالكلية فلا تظهر على الشاشة. يبرَّر الغياب الجسدي للعاملات، من قبل سيدة في الفيلم بأن «الخادم أو الخادمة ياللي بيعرفوا يشتغلوا شغلهن هني اللي بيشتغلوا عالسكت، ما بنحس بحضورهن، بيصير وجودهن خفي». تؤكد أخرى على هذا المعنى بقولها: «لما تكون سود، من ثقافة تانية ولغة تانية، بيساعد يعني، هدا الشي بيخفف من حضورها.حتى يمكن، ما بعرف، لتحافظ على خصوصيتك ببيتك، يعني لازم شوي هيك تنفي أو تلغي وجودها».

لكن رغم الهندسة الشديدة للصورة في كادرات ماهر أبي سمرا، فإن الحوارات لم تكن على هذا القدر من التنميق، وإنما ترك الفيلم للمشاركين مساحات يتحدثون فيها كما يتراءى لهم، لتبدو اللغة أشبه بنشرة أخبار عشوائية، تفرض بدورها حصارًا آخر، معنويًا، حول المشاهد، كما كان الحال في فيلمه السابق «دوار شاتيلا».

الزمن كعامل أساسي في «مخدومين»

رغم انشغال الفيلم بمفهوم التأطير، إلا أنه لا يمنحنا إطارًا زمنيًا واضحًا؛ نحن محاصرون في مربعات ضيقة متتالية ندور في فراغها تزيد من قلقنا بسبب عدم وجود خط زمني محدد، نستدل به على مرور الأحداث. لكننا نشعر بوطأته الشديدة، في الفيلم بشكل عام، وفي مشهد شرح آليات استجلاب العاملات والتحليل التفصيلي لديناميكية عمل زين بشكل خاص، بسبب إطالة المخرج المتعمّدة لهذه المشهد، ليوظف فكرة الزمن لحصار المُشاهد.

بدا هذا المشهد طويلًا ومملًا وكأن المشاهد يجلس في محاضرة يخاطب فيها المحاضر سبورته، حيث، بدلًا من السبورة، خاطب زين نافذته المربعة، كما لو كان يشرح لجمهور غير مرئي من  الطلاب بأسلوب مدرسي عقيم.

رغم إحساس الملل، إلا أني أعتقد أن الإطالة هنا لَعبت دورًا إنسانيًا في تسليط الضوء علي جانب من شخصية زين، حيث نرى فيه مجرد شخص مخلص لعمله المطلوب في «سوق» يتوحش حوله، ويتصادف أنه مارسه بالفعل في سن صغيرة، فحوّل ما أجاده كحيلة للبقاء، إلى تجارة لا يعرف شيئًا سواها، ويجد المشاهد نفسه يتعاطف معه وينزع عنه صفة «الشر المطلق» أو أي وصم أخلاقي آخر.

 


لم يقع الفيلم في فخ تناول قضية العمالة المنزلية تحت مظلة فضائحية، ذلك الإغواء الذي يستدر تعاطفًا مؤقتًا لكنه لا يلبث أن يتبخّر بمجرد الخروج من قاعة العرض.

من ناحية أخرى، لا يستهدف الفيلم كذلك تحقيق انتصار يُشيطَن من خلاله المخدومون، بل على النقيض من ذلك يجعلهم الفيلم عالقين ومحاصرين أيضًا. رغم ما لديهم من امتيازات طبقية، إلا أن احتياجهم للعاملات بالمنزل يُعرّي بعدًا آخر من طبقتهم الهشة. يدفعنا الفيلم نحو مساءلة كيان أكبر، أيًا يكن، يمارس حصارًا ممنهجًا علي كافة الأطراف، كلٍ على حسب خارطة امتيازاته.

يتجلى ذلك في مشهد ثابت وغاية في التكثيف، للوحة إعلانية تطل عليها نافذة مكتب زين، وتظهر فيها فتاة شقراء بمقاييس الجمال المصطنعة، وبحجم يماثل الحجم الطبيعي للإنسان. وفي نفس الكادر نرى زين واقفًا ومتصدرًا قلب الشاشة، وكأنه يستكمل سلالة العمالقة، في حين يظهر بجانب اللوحة الإعلانية ظلُ رجلٍ بلا ملامح، متكورًا علي ذاته وقابعًا في زاوية اللوحة، بالتزامن مع دخول عاملة سوداء بشرة لا يظهر منها سوى يدها. كل ذلك في نفس المستطيل الضيق لنفس المكان، فكأنهم جميعًا، ورغم اختلاف ماهياتهم ومواقعهم، تروس في دائرة التورط والحصار.

عن كاميرا ماهر أبي سمرا

في فيلم «مخدومين» يعيد ماهر ما سبق وقدمه في «دوار شاتيلا»، فنحن أمام كاميرا لا تتلصص أو تقتحم المكان عنوة، وإنما هي فرد يعبر الشارع رافعًا رأسه ومنصتًا لما يدور خلف النوافذ دون استراق النظر، ثم يجد نفسه بداخل أحد المنازل ليصبح صديقًا حقيقيًا للعائلة.

يتجلى مفهوم «أنسنة الكاميرا» لدى ماهر أبي سمرا في مشاهد تعبر فيها الكاميرا بخفة بين نوافذ مفتوحة على مصاريعها وأخرى مسدلة الستائر، أو شرفة كبيرة يلتف فيها أفراد العائلة حول تلفاز يتحاورون، لتصبح الكاميرا فردًا من العائلة دون إقحام أو تطفل.

لهذا، لا نشعر بارتباك أي من المشاركين الواقفين أمام الكاميرا، أو باصطناع أحدهم مثلًا في ردوده؛ هم فقط يواصلون عملهم غير مكترثين بالكاميرا، والتي تلعب مجددًا في المشهد دور الفرد الحميمي، وكأنها صانع القهوة الذي يعلم كل أسرار العمل، فلا يفشيها ولا يدين بالولاء والثقة إلا لرب عمله.

*هذا النص نتاج ورشة أدارها الناقد التونسي طاهر الشيخاوي، على هامش فعاليات مهرجان أيام القاهرة السينمائية (مايو 2017).

 

الاثنين، 15 مايو 2017

"ميّل يا غزيّل".. أولئك الذين اختاروا البقاء- سينما وثائقية

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18"* بتاريخ 15 مايو  2017.

عُرض الفيلم بسينما زاوية بمصر في الدورة الأولى لمهرجان أيام القاهرة السينمائي، والتي بدأت من 9 إلى 16 مايو 2017. تمّ عرض الفيلم ضمن الأفلام الوثائقية.

فيلم "ميّل يا غزيّل" تمّ إصداره في 2016 للمخرجة اللبنانية "إليان الراهب". رٌشح لعدد من الجوائز أهمها: لجنة تحكيم المهر الطويل، جائزة المهر الطويل لأفضل فيلم غير روائي، جائزة المهر الطويل لأفضل مخرجحصل الفيلم على جائزة  "جائزة لجنة تحكيم المهر الطويل" من مهرجان دبي السينمائي.


مقالة نقد سينمائي للفيلم اللبناني الوثائقي- "ميّل يا غزيّل"- موقع زائد 18


"ميّل يا غزيّل"- أولئك الذين اختاروا البقاء- سينما وثائقية

"خلصت الحرب؟
بعدها مطولة!"

تقدم المخرجة اللبنانية "إليان الراهب" في فيلمها الوثائقي "ميّل يا غزيّل" ما تراه عن واقع لبناني قد يبدو على السطح أنه تخلص من الحرب الأهلية الطاحنة، لكنها تتنبأ أن هناك "هبوطًا" متوقعًا يطرح نفسه في كل التحزبات الدينية المتطرفة التي تفرض نفسها على كثير من مشاهد الحياة اليومية.

مشهد من فيلم "ميّل يا غزيّل" يجمع بين البطل والبطلة

قصة
    تحملنا كاميرا "إليان" إلى "الشمبوق" واحدة من أعلى المناطق الجبلية في لبنان، تقع على مرتفعات عكارو التي تبعد عن سوريا عشر كيلومترات. يغلب على مشاهد الكاميرا لدى "إليان" توثيق للون الأخضر البكر الذي تتسم به تلك المنطقة الريفية الأقرب لروح لبنان الأصيل.

يحمل الفيلم اسم أحد أغاني الفلكور اللبناني الأصيل، أغنية "ميّل يا غزيّل"، حين تغنجت "نجاح سلام" بأحد عبارات النداء المحملة بالخفة والرشاقة لدعوة العابرين لزيارتها، وكذلك يفعل بطل الفيلم "هيكل" حيث قام بتأسيس مطعم محلّي لتقديم الوجبات للعابرين من سائقي الشاحنات المتنقلين داخل لبنان وعبر حدودها. لم يكتف "هيكل" بعمله بالمطعم، بل قام بزراعة أرض متنازع على ملكيتها بحكم القانون، إلا أنه ضرب كل ذلك عرض الحائط ليزرع حقلًا ممتدًا من التفاح والذي يتحول في نهاية المطاف إلى براندي يقدمه إلى الأعزاء من أصدقائه.
"هيكل" بطل فيلم "ميّل يا غزيّل"- مشهد

تكنيك الفيلم

    تجعل "إليان" من أبطالها شركاء حقيقيين في عملية صناعة الفيلم، فهى تنتهج طريقة طرح الأسئلة لأبطال الفيلم، في حين أنها تختفي بالكلية وراء الكاميرا تاركة لهم ما تراه مناسبًا من مساحة للظهور وحمل ما أرادت أن تقوله هي. يتجلى ذلك من الحوار الدائر مع البطل الرئيسي "هيكل" حول ما يراه اسمًا مناسبًا للفيلم، فتأخذ ما يمنحه لها من اقتراحات ليصبح لديها ثلاث مراحل رئيسية لتقديم رؤيتها. 
نجد الفيلم يتدرج بشكل واضح إلى ثلاث أجزاء هي: 
1-الشمبوق، 
2- الأرض، 
3- عتبة البيت.

    تستخدم المخرجة الكثير من المفارقة ذات الطابع المرح لربما للتقليل من حدة ما يتم طرحه من نزاعات طائفية ودينية، وكأنها تصب ماءًا باردًا على نار في سبيلها للتأجج. فحين ينبري أحد شباب القرية المسيحيين وتأخذه الحمية للدفاع عن "وجوده المسيحي" الذي يظن أنه يتعرض للإبادة وتأخذه حماسة الزعماء الفاشيين حين يحشدون "خِرافِهم" في مؤتمراتهم الجماهيرية، تكتفي بأن تكون اللقطة التالية المكملة لـ"هذيانه" المفتعل هي لقطة "فتاة تتمايل رقصًا على أغنية الفيلم الرئيسية" ذلك ليس فحسب، بل إن هذه الفتاة التي تنظر في قلب الكاميرا بعين ممتلئة بالحياة، اللهو، الخفة ترتدي "رمزًا" دينيًا لكل ما يحشد ضده من يرى أن هويته الدينية تتعرض للخطر!

هناك أيًضًا، استخدام متوالية اللقطات بأسلوب المونتاج الموازي the cross- cut يُعد أحد كلاسيكيات السينما، لربما كان الفيلم بحاجة لأن يرتفع بنا إلى مستوى أكثر تعقيدًا.

سؤال الفيلم الأساسي

        تطرح "إليان" سؤالًا مباشرًا "هل الوجود المسيحي في خطر؟" في متوالية بعد طرح عدد من ممارسات الشباب المسيحي "الغيور" على هويته إلى حد عقد اجتماعات تبدو وكأنها غرفة حربية والعديد من الخرائط معلقة على الحائط كأنهم بانتظار ساعة الصفر للهجوم على عدوّ ينتظرهم بالخارج. حين تطرح هذا السؤال فإنها تطرح أيضًا ما تراه هي ممثلًا في ظهورها الوحيد كطيفٍ عابر مع بطل الفيلم "هيكل"، حين تظهر كصورة ضبابية تستغيث به من داخل المطعم أنّ هناك من يحاول أن يقتلع أحد الأشجار. يخرج "هيكل" مُسرعًا بحميّته المعهودة، يقوم بردع من تسول له نفسه اقتلاع أىّ شجرة من مزرعته. 

        لا تكتفي بالتلميح لما تراه عودة ذاتية لها إلى الجذور بقدر ما تتثبت يقينًا بطرح ذات السؤال صراحة على "هيكل" مرتين، الأولى حين تسأله ألا يبدو كل ما يقوم به من أعمالٍ، زراعة، وإدارة شئون المطعم هي محاولات للهروب من واقعة هروب زوجته التي لم تتحمل العيش معه، فيجيبها متيقنًا "بل على العكس هي محاولات لإثبات الوجود عن طريق الحياة ذاتها". 

        تعيد طرح السؤال ذاته تارة أخرى حين يتعلق بالهوية الدينية، فيجيبها قائلًا 

"نحنا نهبّط بس ما بننمحي".

كادرات!

جماليات الصورة في فيلم "ميّل يا غزيّل"


        حضور الشجرة في كادرات "إلين" ليس حضورًا لتقديم متعة بصرية فحسب، بل تحملنا كاميرا المخرجة إلى سردية البطل الذي شارك بالحرب الأهلية اللبنانية لكنه فشل تمامًا في قتل أىّ أحد! في تلك اللحظة قرر أن يصنع "جيشه" الخاص من الأشجار. فنرى صورة المشهد لمزرعة التفاح خاصته وكأنه جنرالًا يقف أمام كتيبة من الجنود لأداء تحية العلم الصباحية. تقدم كاميرا المخرجة البطل المنسحب من حرب أهلية انتهكت إنسانية الملايين، إلى قائد من نوع خاص اختار أن يصنع جيشًا من الأشجار للمقاومة.

شخصيات ثريّة

        يقدم الفيلم أيضًا عددًا من الشخصيات التي تمنح سردية العودة واختيارات البقاء أبعادًا أخرى، فهناك "أنطوان" شخص يماثل "هيكل" في العمر لكنه حليق اللحية يبدو عليه علامة "المدنية الحديثة" لكنه عاجز مثل كل من لديه أزمته الخاصة جدًا؛ إنه لم يتجاوز بعد عالم الأبراج العاجية حيث يقبع المفكر دون أن يشمر عن ساعديه ليرى ما يمكن أن تطرحه الأرض من معطيات غاية في التعقيد.

        تمنحنا “إليان” مشهدًا غاية في الدلالة حين يقف "أنطوان" مشيرًا إلى قطعة أرض تسببت الكراهية الدينية في تهجير صاحبها، هو يشير إلى مدى تعاون صاحب الأرض الأصلي في منحه توسعة ليصنعوا طريقًا للقرية. تمّ بالفعل توسعة الطريق وقبل أن يتذوق طعم ما نجح في الوصول إليه يكتشف أنه مجهوده قد ضاع هباءًا حين عبّد طريقًا تعبر فوقه سيارات البرلمانيين الفارهة المغطاة بزجاجٍ أسود مخيف!

        من ناحية أخرى هناك الصديق المؤرخ الذي يظهر في عبور خفيف على الفيلم حين يتجرع مع "أنطوان" و"هيكل" كأسًا من البراندى المصنوع بعناية من مزرعة "هيكل" ويتشاطرون عبء "خيبتهم" المشتركة حين يدركون أن أبناءهم سيعودون فقط للأرض حيث بالفعل ينتمون لكن بعد أن يكونوا “غير صالحين للخدمة” مجرد كهول ينشدون العيش في سلام في أرض بعيدة عن صخب العاصمة.

    يقدم الفيلم شخصية نسائية مميزة ألا وهي "رويدا" وأول ظهور لها يأتي مصحوبا بعاصفة من الشكوى حيث تمارس هوايتها بوضع المسامير على الطريق لكي تجبر أصحاب الشاحنات على التوقف وتناول الطعام في مطعم "هيكل". كما أن أول تفاعل مع البطل الرئيسي تبدو فيه وكأنها زوجته التي تعرف جيدًا كيف تملي عليه ما يحتاجه المطعم وكيف تتملص من نعته لها بأنها تمتليء بالخطايا. الحضور الإنساني لشخصية "روايدا" يضيف بُعدًا يحمل طابع الخفة والهشاشة التي يخبئها البطل الرئيسي "هيكل" خلف غلظته وخشونته التي ارتضاها كمعبر آمن للبقاء والتعايش بعد أن هجرته زوجته فاختار أن يمنح لها متكئًا في قلبه دون أن يملأه بالغضب من فعلتها. 

        تروي "رويدا" أن "هيكل" هو صاحب فضل عليها وقد قام بتربيتها منذ سن الثامنة عشر فهي تتحدى العادات والتقاليد وتأتي لتمكث وتعمل بالمطعم وتجلب أختها في كثير من الأحيان لتساعدها في مهام الحياة. ترسم "إلين" شخصية روايدا كفتاة ريفية تجد ملاذًا آمنًا تستطيع أن تتفتح فيه مثل بتلات زهر التفاح المحاطة بها في كل مكان. 

        ومن ناحية أخرى تنسج خيطًا عنكوبتيًا يجعل من مغادرة المطعم أو مزرعة "هيكل" أمرًا مستحيلًا بالرغم من تعرضه للعديد من الأزمات المالية، إلا أنه قرر البقاء كإعلان للوجود والحياة ذاتها.

إشكالية الفيلم

        تبدو إحدى إشكاليات الفيلم الأساسية في العبور الخاطف لتناول أحد الجزئيات والتي لربما لوتوقفت عندها المخرجة بمزيدٍ من الطرح والتفصيل كان سيكون لدينا ما يليق وثراء ما يطرحه الفيلم وسيتقاطع حتمًا مع رؤية المخرجة كما ظهر جليًا في مسارها السينمائي السابق. الفيلم يقدم ملاحقة بالكاميرا لأحد الحشرات الملونة التي تنخر في الأرض، كان بالإمكان توظيف تلك الالتفاتة العابرة لتكون بمثابة حلقة الوصل بين ما قدمته المخرجة في سابق أعمالها حيث تناولت موضوع الحرب الأهلية من زاويته الأوسع من العاصمة، لربما كان لديها فرصة حقيقية بتتبع تلك "الحشرة" أن تحملنا معها للانتقال من الصورة الكبيرة إلى صورة أكثر تحديدًا حيث يمكن للنار أن تأتي من مستصغر الشرر.

نهاية
    
        ينتهي الفيلم بنهاية تشبه كادرات الحياة الحقيقية حين نظن أننا بلغنا حافة السعادة فتوقظنا من وهمنا العابر، فيتعرض محصول التفاح للفساد بفعل حشرة -ظلت تتبعها المخرجة طيلة كادرات متفرقة بشغف طفلة تجلس في الصف الأول من حصة العلوم البيئية- فيخسر هيكل خسارة فادحة لكنه كما اختار البقاء والتشبث بالأرض اختار المقاومة فيقوم بتحويل كافة المحصول إلى براندي يتشاطره مع جاره الهارب من صخب المدينة وتلوثها والعائد إلى رحم الأم الأرض.
ثم يأتي صوت "نجاح سلام" تارة أخرى لتجد روحك تتراقص في خفة وكأن الحياة مجرد دعوة رشيقة لعابرين، سيمضون حتمًا وستبقى الأرض التي ترثنا ومن عليها.

حين تمّ سؤال المخرجة في الندوة اللاحقة لعرض الفيلم بسينما زاوية، 
هل كان الفيلم ضرورة لكِ للتعافي؟ ابتسمت قائلة: بل ربطني!
ليبدو وكأنها تتفق مع ما جاء على لسان بطل الفيلم "هيكل" بينما يُحادث كلب الحراسة: 

"أهم إشي بالبيت العتبة، لو راحت، راح البيت كيلاتو"


        اعتقد أن "إليان الراهب" بفيلمها "ميّل يا غزيّل" قد صنعت لنا معبرًا به إمكانية للعودة للجذور، وكأنها تمنحنا حبلًا سريًا يعيدنا حيث ننتمي وحيث كل ولادة ممكنة.

الأحد، 30 أبريل 2017

الرقص مع الذات! قراءة نقدية لعرض مسرحي معاصر

 مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 30 أبريل  2017

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة الرقص مع الذات- عرض مسرحي- موقع زائد 18


        ليلة الخميس الموافق السابع والعشرون من شهر أبريل لعام 2017، شهد مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية عرضًا إنسانيًا يصنع مساحة آمنة للنساء بمختلف أطيافهن لكي يتوحدن مع أجسادهن في مشاهد متتالية تتدفق كالنهر، يصنعن من خلالها جسورًا يعبرن بها فوق دوائر الوصم والسيطرة حول ما "يتوجب" على النساء ارتدائه.

        يبدأ العرض الذي يحمل اسم Un Covered En Masse بخطوات جسد تزحف ببطء نحو مساحة تتوغل في الظلام، تبدو كخطوة حيوان جريح يحاول أن يلملم شتات روحه حاملًا ندبته، لا يملك سوى الحركة للأمام بالرغم مما يحيط به من ظلام.


مشهد من العرض المسرحي Un Covered En Masse- القاهرة
        

تتسحب المشاركات نحو المسرح بنفس الحركات البطيئة، تتصاعد الحركة ويتحول الجسد المسجى على الأرض منغلقًا علي ذاته إلى زهرةٍ تتفتح. يحتل المسرح من الزاويتين صوتان لحكاية لا تُروى لكنها تُعاش كل يوم، بندول يتحرك بعنف أقصى اليمين بين ما يتوجب علينا فعله، ارتداؤه، ممارسته لنحصل على صك القبول المجتمعي والمهني في نظام يشبه آلة تزداد تروسها توحشًا يومًا بعد يوم، وبين الاتجاه المعاكس الذي يعيدنا إلى بديهية الحياة في تعويذتها الأبدية "كل ما أريده فقط هو أن اختار":

(صوت من أقصي اليمين):
"أيها السيدات والسادة
– أنا لا أريد منك أن تكون حرًا
– لا تندهش، فالأبواب والشبابيك الآن مغلقة
– أنا لا أريد منك أن تعمل طوال اليوم
– لقد عقدت هذا الاجتماع لمناقشة موضوع مهم للغاية معك.
– لكني أريد منك أن تكون صريحًا.
– من فضلك لا تقاطعني حتى نحل هذه المشكلة.
– فقط أريد محبتكم جميعًا.
– أنتم الآن رهائن عندي.


(صوت من الناحية المقابلة)

– أنا لا أريد أن أكون عبدتك.
– أنا لا أريد أن ألبس بهذه الطريقة.
– أنا لا أريدك أن تغض بصرك.
– أنا لا أريد الاختباء بعيدا.
– أنا لا أريد أن أشعر بالخزي.
– أنا لا أريد أن أعيش بهذه الطريقة.
– لكني أريد أن أقول الحقيقة.
– وفقط أريد أن أقوم بإختياراتي الشخصية".


مشهد من العرض المسرحي Un Covered En Masse- القاهرة


        ينسحب الصوت البشري ويتم الاكتفاء بصوت الموسيقى التي تمّ غزلها ببراعة مع ثنيات الجسد فصنعا معزوفة ناطقة بلا أي أبجدية. تتوالى مشاهد الحركة في العرض، فتجد نفسك أمام مشهد تبدو به فتاة وكأنها فقدت عمودها الفقري لتتمكن من الاختباء والتكور داخل ذاتها فلا يلاحظها أحد. ثم تشدك فتاة أخرى من مقلة عينيك لتكتشف معها براءة الكشف الأولى حين تدرك الفتاة أن جسدها يمكن أن يصنع اهتزازات راقصة في الهواء تتسع كموجات مياه آسنة أدركت للحظة أنها لا زالت على قيد الحياة، فاتسعت. حلّقت. استدارت. اكتملت بذاتها حين أدركت أنها الآن يمكنها أن تتحرك بلا خوف في الفراغ حتى وإن اتسع بداخلها، فلا تزال تملك جسدها لترقص أو لتصنع به ما تشاء.


        تتوحد المشاركات في صنع ذبذبات الإيقاع ليحملن لهاث حياة تفرض على قاطنيها اللهاث، فنبدو وكأننا مشدودين من أعيننا دوما نحو "حياة" أخرى، يعبر الجسد باهتزازاته المتسارعة بدءًا من خفقات القلب، ارتفاع الصدر وهبوطه، اتساع الخطوة وتقصّيها لمساحة آمنة غير موجودة، وتيه أبدي نحو ملء فراغ ما يتبعه رغبة في كسر قيود رٌسمت بالطبشور فننصب جميعًا في قالب بات لا يتسع لما نحمله بداخلنا من طاقة للحب والحلم والحياة بأكملها.

        يصل العرض إلى ذروته حين تتقدم كل مشاركة من واجهة المسرح لتشير إلى الحضور لينهار بذلك الجدار الرابع الذي يفصل بين المشاركات على المسرح والحضور فنصبح كيانًا واحدًا، جسدًا يحمل نفس الندبة ويتلقاها يوميًا أو يسددها دون أن ندري. الأصابع التي تشير إلى الحضور لا تحمل اتهامًا قدر ما تمنح صوتًا لعبارة طالما نرددها سرًا في صلواتنا الليلية: "لماذا يتم التنكيل بأجسادٍ نحن بالفعل لم نمنح اختيارًا لها؟"

        ينتهي العرض بفتاة صغيرة تتقدم لترتدي وشاحًا أبيض دُوّن عليه كل ما تم ممارسته ضد النساء منذ آلاف السنين سواء كن عاريات، اخترن الحجاب، تنقبن، تخلين عن فكرة الحجاب/ النقاب، ارتدين مشدات صدر أو أطلقن لأثدائهن العنان، أو مارسن فعل الجرأة بعدم ارتداء أحذية ذات كعب عالٍ!

        ما يدهشك في العرض أن المشاركات لا يحملن "نسقًا" جسديًا قاسيًا يخضع لمعايير التوحش التي تفرضها دوائر الانتماء إلى "فن"ٍ أو رياضة بعينها. تتنوع المشاركات ليس جسديًا فحسب، بل فيما اخترنه من "مظهر" ليقدمن رقصتهن المقدسة، البعض ارتدين الحجاب ولا يرين عائقًا في أن يكون الحجاب بـ"شروطه" المنصوص عليها جزءًا من عرضًا يحمل سمت "الرقص المعاصر".

        في حقيقة الأمر، المُشاركات في العرض يشاركن بجزء منهن "حقيقي" ولايلعبن أدوارًا يفرضها عليهن سيناريو مكتوب مسبقًا، لدينا مجموعة من خمس وعشرين سيدة يتحلين بالشجاعة لأن يقدمن أنفسهن كما هنّ، في محاولة لاستعادة إيقاع الروح من خلال تعويذة القوة الأبدية الكامنة بأجسادهن دون أن يدركن ما يملكنه بالفعل.

        بالرغم من التنوع كسمة أساسية للعرض، إلا أن جميع المشاركات يتوحدن في ارتداء ثلاثة ألوان، الأرجواني والأبيض والأخضر، وهي الألوان الثلاثة التي اخترعتها إيميلين بانكهورست- الناشطة والنسويّة البريطانية التي طالبت في عام 1908 بحق الاقتراع للنساء البريطانيات. ارتدت المشاركات: الأرجواني للكرامة – الأبيض للنقاء – الأخضر للأمل، في رمزية للاتصال مع إرث النساء التاريخي.


شارة تحمل صورة ايملين بانكهرست تباع بأعداد كبيرة عن طريق الاتحاد السياسي والاجتماعي للمرأة لجمع الأموال - متحف لندن

        لا ينتصر العرض لتوجهٍ بعينه سوى توجه إنساني صميم مفاده أننا بإمكاننا جميعًا أن يكون لنا مساحة تليق بنا في الحياة باتساعها وتعقيدها وفراغها أيضًا. يمكننا أن "نبدو" بما يتراءى لنا دون أن نضطر للتبرير أو الانسياق أو التوحد مع دوائر تفرض علينا شروطا قاسية ليتم منحنا صكوك الولاء والانتماء أو نضطر للمساومة على الحق الأصيل أن نرتدي ما نحب دون أن يعني ذلك شيئًا على الإطلاق في دائرة العدم الكبرى، ودون أن يدفعنا ذلك لاستنزاف الروح في معارك نعيد فيها إنتاج دائرة القهر والوصم المضاد. ينتصر العرض فقط لاختيار المشاركة الحرة بما تنوين ارتداءه بما يعبر عنك أنت في ذلك الكادر من الحياة، دون أن يمنح أحد الحق أن يضع "تيكت" أخلاقيًا على حقك الإنساني الأصيل في الاختيار، وحقك البديهي المنسي بامتلاك جسدك وحدك.

        يمنحك المسرح عالمًا تدلف من خلاله باب الخيال تحمل بين جنباتك واقعًا يصعب أن تفك طلاسمه، يمنحك فراغًا آمنا يمكنك من منح صوت لكل من هواجسك ومخاوف تنهش في روحك تقضمها قضما فتكتشف مساحة يمكنك فيها أن تكشتف أدوات مختلفة كحركة الجسد بارتفاعاته المختلفة، كقبضة أصابع اليد حين تعزف على أوتار الهواء، كتواصل العينين الذي يبني جسرًا يمكن العبور من خلاله إلى "آخر" فنطمئن أننا لسنا بمفردنا، نستكين أن ما نعانيه ونخشى أن نتوقف عنده لنكتشفه، يمنحنا المسرح إمكانية لأن تتجسد أفكارنا ومشاعرنا، بل ومخاوفنا بطريقة جمعية في تدفق بصري مُوحي.

        في عالم المسرح يستحيل الجسد سفينة نوح خاصتنا التي نأخذ فيها من كل حلم زوجا لكي ننجو ونتصل بما نخشاه بداخلنا، فنكتشف "جودي" يمكننا عنده أن نستكين وأن نجد معبرًا آمنًا بداخلنا من خلال "آخر".

        في عالم المسرح نكتشف أن الفراغ الساكن بين أجسادنا يمكن ملؤه ليس بمزيد من التشوش، بقدر ما يمكن أن يصبح أداة حقيقية لفهم كيف نقترب، كيف نبتعد، كيف نتكوم إحدانا فوق الأخرى، كيف نتعلم تلك المهارة المنسية في طلب العون عند الحاجة والعودة تارة أخرى إلى "قبيلة النساء" لربما رقصة عابرة تعيد إلينا وهج الروح "المتوحشة" التي تمّ استلابها بفعل التغييب والتشويه والتزييف والتقييد. لربما كل ما نحن بحاجة إليه هو رقصة ذاتية نتجه بها بكل أصواتنا المقموعة نحو الداخل.هناك يقبع ما نبحث عنه، وهناك أيضًا يتوحش ما نهابه وينزوي تارة ويُردينا قتلى مرات كثيرة.

        يمكننا فعل ذلك إذا ما مارسنا لعبتنا الأصيلة العودة لقبيلة "نساء يركضن مع الذئاب". نعود لنرسم  دوائر من التيه والكشف، مسامحة الجسد ذاك الحبيب الذي لم نترفق به يومًا واكتشاف أغنية الروح الأصيلة Cante Hondo، وهذا ما منحنا إياه العرض المسرحي سواء، مُشاركات، متفرجات، أو عابراتٍ كفراشات يغادرن الشرنقة رويدًا رويدًا.

المشاركات في العرض المسرحي  Un Covered En Masse يقدمنّ التحية للجمهور- القاهرة 2017