الأحد، 18 مارس 2018

إشكالية الاحتفال باليوم العالمي للمرأة- #2

  مقالة منشورة على موقع "زائد 18" بتاريخ 18 مارس  2016

موقع زائد 18 موقع مصري شبابي شامل مستقل مخصص لنشر مقالات الرأي في المجالات المختلفة. يهدف لإتاحة منصة حرة للشباب للتعبير عن أرائهم دون قيود ودون تدخل من إدارة الموقع. يصدر عن مؤسسة زائد 18 للنشر.


مقالة- إشكالية الاحتفال بيوم المرأة العالمي#2


"المرة اللي واكلة كلاوي النمل"

مشهد 1
أتوجه إلى موقف المنيب للميكروباصات، حيث يتم إعادة مشهد تحميل أفراد التراحيل من الفيلم العظيم “الحرام” لنجدد الذكرى لعام 2016. حدثنا الفيلم أن عمال التراحيل في مسار العودة تعلوهم البهجة والغبطة، فها هم محملين بالرزق من البلد البعيد اللي اسمها "مصر" (آه بنقول على القاهرة مصر)، وها هم عائدين إلى الديار تارة أخرى لحين أن تتكرر دائرة القسوة من جديد. كنتُ أحمل كتاب فاطمة المرنيسي "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، وقد حددتُ لنفسي هدفأ واضحاً، ليس أن أنسج حولي فقاعة تعزلني عن مشاهد القسوة المعتادة في المكان، ولكن لكي أفهم أكثر ما الذي تعنيه النسوية بعيدا عن حزقيات ومشاحنات السيدات من جمعية المرأة المتوحشة، والرجال العاجزين عن فهم وتفهم حجم المأساة التي نعيش بها يوم أن وصمنا بالخانة البمبي في البطاقة.
تسير الأمور بملل ورتابة لم يقطعهما سوى صوت "فرقعة" قلم! اندفعت الجماهير من الميكروباصات كـ"النمل" الذي يهرول خارج جحره. لوهلة تخيلت بأنها صفعة لرجل يتلقى صفعة من سيدة لربما تحرش بها. أحمل مخيلتي وأدور برأسي في المكان لأجد أن الـ"فرقعة" كانت قلما فعلا، لكنه هوى على وجه فتاة، والأكثر دهشة أن من وجهت القلم ذاته هي سيدة أخرى، لربما هي خناقة نسوية معادة ومعتادة لانتزاع سبع البرمبة، لربما هي خناقة أم وابنتها قررتا أن يضعا حدا لعلاقتهما المتوترة، فلم يجدا بداً سوى موقف المنيب.. استوقفت سيل المشاهد السينمائية في رأسي، وقررت أن أزق كتفا في الخناقة، بامتيازي الوحيد "إني واحدة ست". أُصبح أكثر اقترابا من المشهد، فتتجمع أطراف الحكاية في حقيبة سفري. الفتاة التي لم تتعد السابعة عشر هربت من أهلها علشان فيه "غضنفر" مستنيها في موقف المنيب، السيدة التي علمت بعد ذلك أنها تلقب بـ"المرة اللي واكلة كلاوي النمل" أدركت على الفور أن تلك الفتاة متلعثمة الخطاوي "وراها عملة"، أو بصدد الوقوع في براثن "عملة".
ما أثار حفيظتي أن الـ"مرة اللي واكلة كلاوي النمل"، لديها من السطوة ما منع أي من سائقي الميكروباصات من التدخل، وهم المعروفون معظمهم بطبعهم الفطري للأذي و التحرش بالسيدات. دفعني الفضول لأتقصى المزيد من جوانب القصة، فعلمت أن "المرة اللي واكلة كلاوي النمل" وهو تعبير باللغة الصعيدية يعني أنها "قوية"، و خافوا منها أحسن لكم، دي طلعت للنمل كلايوه، وقعدت تاكلها وتمزمز فيها، قد بنت أسطورتها منذ سنوات في موقف المنيب. لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف بدأت، أشلاء الحكاية توحي أنها تعرف جيدا من أين تؤكل الكتف في تلك البقعة شديدة الذكورة. تراها تتجول بحرية تامة، توجه السائقين، تستطيع عيناها أن تفرز "الرِجل" الغريبة في المكان، واللي “هييجي من وراها مشاكل”، استطاعت للوهلة الأولى أن تحدد أن تلك الفتاة سيتم التغرير بها لاحقا بمجرد أن تخطو خطوة واحدة خارج الحدود الإقليمية لعالم المنيب وأهله، صرخت في الفتاة صرخة الجريحة بقولها: "إنتِ عارفة بتعملي في نفسك إيه ومستنيكي إيه؟".
كان الطريق إلى مدينتي يستغرق أربع ساعات، لكنها تحولت إلى فيلم سينمائي ألعب فيه دورا صامتا، يتابع "فتاة" غارقة في سذاجة الحب الأولى، تم إنقاذها وتعود إلى مسقط رأسها بفضل رزعة قلم من سيدة لربما كانت هي تلك الـ"فتاة" ذات يوم، لكن لم ينقذها أحد. ما أدهشني أن جميع رفاق رحلة الميكروباص من الذكور لم يتعرضوا لها بأى أذى أو تلويح بجرم ما تفعله على الرغم أننا أصبحنا بمفردنا، ولم تصحبنا سيدة الموقف المدهشة، وكان يقطع صمت الرحلة عبارة يرددها أحد العجائز "مالكوش دعوة بالبت دي محمية في المرة اللي واكلة كلاوي النمل".
حينها أدركت أني يجب أن أتوقف عن القراءة، فأغلقت الكتاب، وسمحت لنفسي بالانصهار في حياة لم أعتدها من قبل، وإن كانت تخبرني ما لم تخبرني به الكتب.

كيف تصبحين "مرة واكلة كلاوي النمل؟"


مشهد 2
أعود إلى العاصمة البائسة، أنسحق مع جماهيرالشقاء في دائرة لا تنتهي من اعتياد القسوة، أتوجه إلى مخبأي الصغير في أحد أطراف المذبحة اليومية. التقيها بعد أن تسألني: "هو إنتي مصرية؟" يثير السؤال فيّ رغبة في الضحك والبكاء معا، وأسارع في الإجابة بكلمة مقتضبة: "للأسف"! نبدأ حديثا ضاحكا عن الحياة، لأعرف منها أنها كاتبة وروائية وممثلة فلسطينية قررت أن تأتي للقاهرة لتدشن روايتها التي تحكي عن المقاومة في فلسطين.
حدثتني عن الغربة ومحاولات التصالح مع الحياة، وعن السقطات والانكسارات والانتصارات، لمعت في عينيها رغبة في الحياة أميزها جيدا، حين قالت: “فلنقاوم بالفن، فلنقاوم بالرغبة في الحياة ذاتها، فلنترك أنفسنا لما تحمله لنا رياح الصدفة، فلن نضل ولن نشقى لأننا أدركنا أنه لا سبيل آخر لنا سوى المقاومة".. احفظ هذا الاسم جيداً "

ليلي أبو شحادة” وأدونه في روزنامة عقلي تحت بند "المرة اللي واكلة كلاوي النمل".

مشهد 3
أتوجه إلى عملي في اليوم الذي يليه، تهرع إليّ مديرتي بخبر نقلته وكالة أنباء البي بي سي عن فوز المعلمة حنان من فلسطين بالجائزة العالمية كأفضل معلمة. ابتسم للوهلة الأولى وأقول في سري: "إيه حكاية فلسطين معايا بالظبط يعني؟". أبدأ في البحث وإجراء بعض الاتصالات بالأصدقاء بين مصر و فلسطين لأجد نفسي أمام وجه آخر للـ"المرة اللي واكلة كلاوي النمل".
العاملون/ المهتمون بخلق نماذج بديلة للتعلم يعلمون جيدا باولو فرايري ونموذجه للتعلُّم والتحرر من القهر، ونجتمع سويا على فلترة كل ما نقوم به لنصل إلى أن هناك مقاومة وثورة سلمية يمكن أن نحدثها في التعليم.
تأتينا المعلمة حنان لتؤكد لنا أن ما نقرأه ليس تراصا للكلمات على ورق، بل هو واقع يعاش، من شأنه منح بديل أفضل للأطفال يستحقونه.
المعلمة البسيطة التي عانت من ويلات الاحتلال، قررت أن تصنع ثقبا في جدار اليأس عل الضوء يتسرب منه إلى أرواح الأطفال المنهكة. بحثت ُعن المعلمة "حنان" فوجدت أنها تستقبل طلابها بنينا وبنات بحضن آمن، تمنحهم ما لم تستطع الحياة أن تهادي طفولتهم.. تستكمل مع من يعانون من مشاكل سلوكية عنيفة مشوارا طويلا من التعافي تبدأه باستقبالهم على باب المدرسة بمد جسور المحبة ليعبروا عليها آمنين إلى ما ستلقيه عليهم من علم لاحقا، تفتح مسام إدراكهم أن بيئة التعلُّم الآمنة ليست جدرانا بقدر ما هي بشر قادرون على تلمس تلك الروح الحائرة بين أضلعنا.

        تتحدى مشاهد قسوة الاحتلال اليومية بجعل مادتها الصعبة على الفهم مكانا رحبا للغناء والتمثيل واللعب. تهدم أسوار التوقع والتربص والتقيد أن التعلُّم يحدث فقط حين يتراص الصغار في صفوف أشبه بالمجندين أو عنابر المرضى، وتفترش الأرض معهم ليتعرفوا على النباتات والحيوانات، ويجرون تجاربهم بكل أريحية وكأنهم يعودون إلى الطبيعة بفطرتهم البكر التي لم يلوثها أحد بعد.
لم يكن غريبا حين تحاورنا مع الأطفال أن تكون استجابتهم على سؤال ماذا تفعلون مع المعلمة حنان: 

"نلعب ونتعلم"، 

"نمرح ونتعلم"، 

"نفكر ونتعلم"، 

"نحاول ونتعلم"، 

"نخطط ونتعلم". 

كل تلك الأفعال التي سبقت التعلم هي مسالك المعرفة.. هي أبواب تمّ فتحها برفق ليكتشف الأطفال خلفها عالما آمنا يستحقونه وتستحقه طفولتهم المغدورة.
أذيل تقريري عن المعلمة حنان ليس بأنها الفائزة بالجائزة العالمية كأفضل معلمة، بل كنموذج آخر للـ"مرة اللي واكلة كلاوي النمل"، وابتسم.


مشهد 4
استقبلت الدعوة لحضور العرض الموسيقي في تلك الصومعة التي تدعي تشجيع الفن الهادف أو النظيف أو أبو سبع طبقات وأستك، فلتسمه ما تشاء من تلك التيكات الجاهزة لتفريغ الفن من معناه.
أتململ في التواجد في المكان ولكني اعترف لنفسي أني في حالة ظمأ للمزيكا.. بدأ العرض بمقطوعات من البيانو وتلاه صرخت الكمان في متواليات لا تنتهي من الحزن الصافي، لم يعكره سوى ومضات تفكيري الدائم أني لا أنتمي لهذه الموسيقى، أنظر إليهم كأنها موسيقى الطبقة الراقية، ويروق لي كثيرا في انحيازاتي أن أبحث عن صخب الطبلة، أو شجن العود أو دلع الرِّق كخلخال فضة في قدم فتاة من بحري.. لا يقطع هواجسي سوى تقديم الحفل لعدد من المواهب الصغيرة التي تبناها عازف البيانو.. يصعد إلى المسرح طفل لم يتجاوز التاسعة، يبدو متأنقا في تلك التوكسيدو التي يخيل إليّ أن والدته/ جدته أوصته أن يبدو "جميلا"، هكذا لعلهم كانوا قارئين نهمين لكتالوج "افعل ولا تفعل" و"البس اللي يعجب الناس مش مهم يعجبك إنت"، فبدا الطفل لي وكأنه واقع في الأسر، لم ولن يحرره منه سوى شغفه وموهبته البادية في لعب البيانو.
ثم ظهرت على المسرح تلك الفتاة التي لم تتجاوز الثالثة عشر، لم تكن موهبتها فحسب هي ما انتزعت صيحات وتصفيق الجمهور، بل ذلك الحضور الطاغي الذي فرضته بمجرد أن وطأت قدماها المسرح. ففي أجواء ارتدى فيها من يدعون أن الموسيقي تحررهم رابطات عنق وجواكت ليبدون مثل عساكر الدرك أيام الاحتلال، ظهرت تلك الفتاة العفية مرتدية هوت شورت وتي شيرت وقبعة من الخوص.

أبهرتني قدرتها على أن تصنع لنفسها شخصية مستقلة في مشهد خانق يمجد القالب الرسمي "المؤدب"، أدهشتني أنها لم تأبه لتعليقات بعض عواجيز الفرح "آه وماله تلبس كده دلوقتي، بس بكرة لما تكبر خلاص بقى"، متبوعة بعدد لا نهائي من الضحكات السمجة.

انهكمت في تقديم فقرتها الموسيقية، واستدرات تحيي جمهورها من خلف قبعتها الخوص، وغادرت.
أرسلت إليها دعوات في السماء ليس لأن تحتفظ بموهبتها الموسيقية فحسب، بل لتحتفظ بروحها "الوحشية" البكر، ولربما جمعتني بها صدفة أخرى لأروي لها عن "المرة اللي واكلة كلاوي النمل"، وكيف تجد طريقة لها في ذاتها لا تتخلى عنها.


فينالة:
انقضى النصف الأول من الشهر الذي يتم إلقاء الضوء فيه على المرأة، وأكاد أبتسم أني في خلال 15 يوما فقط، اقتربت حد الالتصاق بأربع نماذج من نساء وفتيات صغيرات، أصدق ما يقال عنهن أنهن ما بحثت عنه في تدويني وتفسيري لذلك المصطلح الصعيدي الصميم "المرة اللي واكلة كلاوي النمل"، 

وسأظل أبحث…. لأني "رأيت".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق