الثلاثاء، 28 أبريل 2020

معانٍ متفرقة حول «كورونا»: مؤامرة.. تفكير سحري.. أم هشاشة إنسانية؟

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم- مقالات الرأى

من ضمن ملف تغطية ريهام عزيز الدين لجائحة الكورونا 2020

موقع "مدى مصر" هو أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية في العالم العربي.

الموقع قد يكون محجوب في بعض البلدان العربية، يُفضل تصفحه عبر متصفح "ثور".

تاريخ النشر: 28 أبريل 2020

******

قبل أن تشتد الجائحة، كنت أستقل القطار قادمًا من المنيا إلى الجيزة، استوقفتني عبارة قيلت بصوت مرتفع: «الكورونا دي بتيجي للأغنيا، احنا الفقرا ربنا حامينا». ما أثار دهشتي هو أننا -ومعنا صاحب العبارة- نتواجد بعربة بالدرجة الأولى في قطار VIP، فنحن إذن هؤلاء الأغنياء الذين سيصب الله عليهم لعنته لا محالة. ظلّت العبارة تتأرجح في رأسي بينما أتساءل ما الأفكار والمعاني التي دار في فلكها البعض بينما تتمترس الكورونا في بؤرة الاهتمام، من أين يأتي الناس بالمعنى الذي يتشكل حول المرض؟ لماذا ينشغل الناس في وقت الأوبئة والشدائد بتشكيل معنى (ما) لما يمرون به؟

طيلة الخمسين سنة الماضية، شهد علم الاجتماع الطبي اهتمامًا متصاعدًا بتقديم أطروحات مختلفة حول المعنى الثقافي والاجتماعي لما يشهده التاريخ الإنساني من أمراض، باعتبار المرض جزء من خبرة الإنسان العامة التي تنطلق من استبصاره الداخلي ورحلته الشخصية في إيجاد معنى لمعاناته ولمرضه ومن خلال رصد قطع الأحجية التي تشكل لاحقًا البناء المعرفي المرتبط بالمعنى الذي يتداوله مجتمع بعينه عن مرض ما.

أشار بيتر بيرجر وتوماس لوكمان Peter Berger & Thomas Luckmann في كتابهما الصادر عام 1966: البناء الاجتماعي للواقع- أطروحة حول سوسيولوجية المعرفة، أن ديناميكية التفاعل مع الأمراض بشكل فردي أو جماعي، يساهم في بناء أطر معرفية تقدم تفسيرات للواقع أو كيفية إدراك هؤلاء المعنيين بواقعهم في لحظة زمنية معينة. بل أن رصد المعنى الذي يختبره الفرد «المريض»، كيف يؤطر تجربته في المرض، كيف يتفاعل المجتمع (مجموعاته) مع الضوابط الطبية والاجتماعية، وميكانيزمات التشتيت أو المراوغة حول تلك الضوابط، يخبر الكثير حول كل ما سيتم الرجوع إليه كلبنة لبناء معرفة تشاركية حول هذا المرض كتأريخ مجتمعي. 

منذ أن ظهرت جائحة الكورونا، حوصرنا بتدفق رهيب في المعلومات الطبية غاية التخصص، غير أن هناك رغبة في التحرر من التمترس حول المعرفة الطبية فحسب، وتجاوزها نحو اكتشاف كيف يتم تخليق المعنى الثقافي والاجتماعي للكورونا في اللحظة الآنية، نفعل ذلك سويًا من خلال المقال التالي، نقطع الرحلة للخلف حيث عالم الإرث الإنساني الثقافي الشفهي، كما يظهر نفسه في الأساطير وحكايات الفلكلور الشعبي لنستكشف كيف يتوطن في ذاكرتنا الجمعية عبر الأجيال «معنى المرض» وما يمليه من ديناميكيات وصراعات داخل الفرد، وتنعكس بظلالها على الخارج، ثم نتوقف في اللحظة الآنية، نرصد كيف عبرت مفاهيم حملناها من القدم حول المرض، ثم رصد بعض السلوكيات التي تشير إلى إسقاط «فهم مشترك» على ما نعانيه اليوم. لا يتبنى المقال اتجاهًا مستقبليًا أو فيما يسميه البعض «ما بعد الكورونا»، أميل إلى ترك المساحة مفتوحة يقودنا فيها الخيال وحده والأمل.

نظرية مؤامرة

حين اجتاح فيروس كورونا العالم، لم يكن شأنًا طبيًا فحسب أو كارثة إنسانية تتجاوز كل ما عرفه الإنسان قبل لحظة تفجره الكبرى، لقد صاحبه أيضًا عودة الروح إلى سلسلة من الأساطير والخرافات ونظريات المؤامرة التي طالما وجدت تربة خصبة في كل موقف إنساني يفتقر إلى الشفافية في تداول المعلومات أو تبادل أنصافها أو حجبها بالكلية، ولربما يضرب بجذوره في العمق النفسي للميل الفطري لدى الإنسان نحو «التفكير السحري/ الخيالي» وخاصة حين يعجز عن فهم ما يلتبس عليه.

أكثر نظريات المؤامرة رواجًا في جائحة «كوفيد 19» التي تقول إن الفيروس مُخلّق تقنيًا وفق تكنولوجيا الـ 5G، ويدير خيوط المؤامرة العقل الفذ بيل جيتس. قدم نظرية المؤامرة تلك الفيزيائي الأمريكي توماس كوان، في بداية مارس الماضي عبر فيديو تم حذفه لاحقًا من قبل إدارة يوتيوب. بنى كوان مقترحه على أن نظام 5G تم تصميمه ليسبب خللًا في الحمض النووي لجهاز المناعة البشري، تمّ إضفاء التشويق على تلك الفرضية بتطعيمها بعدد من الرسائل السرية المخبأة بعناية في التصميم البيولوجي للفيروس. نجم عن تداول تلك النظرية أن قام عدد من «المؤمنين» بها بإحراق أبراج الـ 5G في بريطانيا، كما قاموا بتوجيه التهديدات نحو المهندسين العاملين في تلك الشبكة. وبسبب النهم الشديد إلى فهم ما يحدث عبر العالم، تمّ تداول تلك النظرية، بل والدفاع عنها باستماتة من قبل مشاهير، ليس في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل لقد ظهر مفتي جمهورية مصر العربية الأسبق علي جمعة، وهو يربط فيروس كورونا بنفس نظرية المؤامرة تلك، التي نفتها بالكلية منظمة الصحة العالمية.

يشير ستيفان لواندوسكي Stephan Lewandowsky، رئيس قسم علم النفس المعرفي بجامعة بيرستول البريطانية، إلى أنه في وقت سيولة المعلومات من ناحية وحجبها من ناحية أخرى أو التلاعب بها حين يتم تقديم أنصاف البيانات أو تقديم البيانات باعتبارها حقائق أو القفز بدون أدلة نحو تخليق علاقات سببية لتفسير ما لا يمكن تفسيره، في مثل هذا الوقت تتعاظم الحاجة للتمييز بين الحقائق، والأساطير، والمغالطات.

إن الرحلة التي تقطعها نظريات المؤامرة بصحبة الجائحة لم تكن شيئًا مستحدثًا، فهي تضرب بجذورها في التاريخ الإنساني، نذكر على سبيل المثال: وباء الأنفلونزا القاتل الذي اجتاح الولايات المتحدة الأمريكية عام 1918، ازدهرت معه نظرية مؤامرة يقف وراءها الألمان الذين أرسلوا من خلال بحارتهم الفيروس لكي يقضي على الولايات المتحدة الأمريكية.

أثناء طاعون عام 1630 في ميلان بإيطاليا، حُبكت نظرية مؤامرة حول أصل الوباء، عن طريق توليفة من الخرافات الشعبية والتي تمّ تداولها وتصديقها بشكل أدى إلى محاكمة وتعذيب بل وإعدام شخصين بريئين من تهمة نشر الوباء. ولقد استخدم الإيطالي أليساندرو مانزوني تلك الواقعة لبناء روايته الرائعة «الوباء» وتأريخ ما حدث للمجتمع الإيطالي حينئذ. ظهرت الرواية للنور بعد مئتي عام في سنة 1827.

من ناحية أخرى، قام مواطنه، المؤرخ الإيطالي كارلو جينزبيرج، بتتبع رحلة تشكل نظرية المؤامرة ذاتها وهوس المجتمعات في تخليق تلك النظريات التي تؤسس فرضية مفادها أن هناك «قوة شريرة» تعمل ضد مجتمع بعينه، وأن تلك القوة التي تعلن عن نفسها من خلال الوباء غير المفهوم يمكن معرفة مصدرها من خلال المجتمع ذاته. 

قام المؤرخ الإيطالي في كتابه «تاريخ الليل» الصادر عام 2017  بتقصي وتأريخ وفهم السحر والشعوذة، وتتبع المسار الذي يتداخل فيه تخليق نظرية المؤامرة مع اضطهاد شرائح بعينها في المجتمع وقت حدوث الأوبئة. 

يذكر الكتاب، في إطار خيالي يجمع بين الأساطير الأكثر شهرة وتداولًا، تصورات المجتمع عن الآلهة الوحشية، الممارسات الروحانية التي توصم بالسحر أو الشعوذة، يتتبع ذلك المسار الأنثروبولوجي في منطقة بعينها واقعة بين فرناس وجبال الألب، بغية أن يؤرخ لنظرية مؤامرة انتشرت في القرن الرابع عشر الميلادي مفادها أن هناك اجتماعات ليلية يتم عقدها في الأماكن المقفرة، يظهر فيها شرائح بعينها وهي الشرائح التي يتم اضطهادها في المجتمع مثل اليهود، المسلمين، ممارسو أعمال السحر والشعوذة، من يتم نعتهم بالكفر والزندقة، وحين يجتمعون يمارسون عربدة تصل إلى احتقار كل ما يرمز للمعتقد المسيحي مثل الصليب ويمارسون الجنس مع الشيطان كقوة شريرة عظمى، وفي حضور «الأبراص» التي تكن جزءًا من تلك الطقوس، تنطلق قوة الشر العظمى التي لا يعرفها المجتمع ولم يشهدها من قبل. 

استخلص جيزنبيرج في بحثه الجذور التي تقف وراء اضطهاد فئات بعينها وبخاصة السحرة والمشعوذين، بل والهوس لتخليق نظرية مؤامرة تؤجج العلاقة الديناميكية بين مفهوم المجتمع حينذاك حول «الشر» وقدرته على إعادة تجسيده وصبه كقوة اضطهاد للفئات المهمشة داخل المجتمع، ويتضح ذلك من ممارسات التعذيب والاعترافات التي كانت تنتزع بشتى صنوف التعذيب من كل من يتم اتهامه بممارسة طقوس السحر أو الشعوذة أو وصمه بالزندقة والكفر بالمعتقد المسيحي، والتي سادت في القرنين الخامس والسادس عشر. لم يكن الاضطهاد موجهًا فقط نحو فئات في المجتمع، بل امتد أيضًا لـ«البَرص» باعتباره تجسيدًا لقوى شيطانية شريرة، مما أدى إلى وصم أيضًا من أصيب بالبرص/ الجذام في ذلك الوقت كونه حتمًا انضم لتلك الاجتماعات الليلية الماجنة التي تم تحقير فيها الصليب، فأصابته اللعنة، والوباء.

قوى شيطانية

ظهر المعلم الروحاني الصيني إدوار لي كي مينج في فيديو تم تداوله سريعًا عبر الإنترنت يشرح لجمهوره كيفية ارتداء الكمامة. قام بعدد من الحركات وكأنه يكتب حروفًا بالصينية متمتمًا بأصوات تعرف بـ«استدعاء القوة الشافية في وجه اللعنة»، ثم استتبع ذلك بعدد من الفيديوهات مؤكدًا «شر» الفيروس.

في 13 أبريل الجاري، تمّ رصد عدد من سكان القرى في مقاطعة توماكورو الهندية، يقومون بتفريغ ثمرات جوز الهند ووضع عيدان شجرة «النيم» ثم تركها أسفل تلك الشجرة التي تعد وفق الطقوس الهندية، الشجرة الشافية، واعتقادهم أن بقاء حبات جوز الهند أسفل الشجرة الأم سيُسرّع من القضاء على الأرواح الشريرة التي جلبها فيروس كوفيد 19. 

ذكرت إيميلي بالستيس، أستاذ مساعد علم النفس بجامعة نيويورك، أنه في الأزمنة التي تشهد توترًا عاليًا يميل الناس إلى ما يسمى بالتفكير «السحري»، ويظهر ذلك في تبينهم لعدد من الخرافات التي توحي لهم بأنهم قادرون، ولو بشكل طفيف، على تحجيم ما يشعرون به. واستطردت بقولها إن ذلك ما هو إلا مرحلة من مراحل الإنكار والرفض لما حدث.

أما من الناحية الدينية، فقد عاد إلى الذاكرة الإنسانية وباء الطاعون والكوليرا وغيرهما من الأوبئة والجوائح، التي حملت سمة «نهاية العالم» أو «يوم الحساب»، فامتدت الصلوات بجميع الديانات طالبة الغوث والعون، وفي بعض المناحي الأكثر تطرفًا، ظهر الاستعداد لـ«يوم القيامة» أو الاستدلال عليه من علامات كونية بعينها. يذكر الكاتب نيكولا ميكافيللي، الذي شهد وباء الطاعون بإيطاليا، ودون ما رآه ولاحظه كالتالي:

«لقد بحث الناس عن السبب وراء كل ما يحدث، البعض منهم أرجعه إلى تنبؤات العرّافين، والبعض ذكر أن الأنبياء والرسل قد ذكروا ذلك، لقد حاول الجميع فهم، ليس الوباء فحسب، بل ما صاحبه من مصائب سقطت على الجميع».

في حدود علمي، حتى تاريخ كتابة المقالة، لم يظهر أي ملمح يميل إلى التفكير الخرافي أو حكايات شعبية يمكن اقترانها مع الكورونا، سوى حادثتين، الأولى في لبنان حين ظهرت فتاة ادعت أن القديس «مارشربل» قد ظهر لها بينما يقوم بأخذ التراب من ضريحه، وغليه فيتم شفاء مرضى الكورونا، الأمر الذي أثار لغطًا دينيًا واسعًا في الشهر الماضي. 

شهدت مصر لغطًا أيضًا حين قام المذيع عمرو أديب بإعادة حلقات خبيرة التاروت بسنت يوسف، والتي توقعت في قراءة ليلة رأس السنة أن العالم سيشهد كارثة كبيرة، وتنبأت بالمسار المتوقع لتلك الكارثة. مما يدعو للتوقف، هو أن ظهور جائحة كورونا قد فتح مجالًا أوسع للاستماع لحكايات الجدات اللواتي عاصرن الكوليرا، أخبرتني إحداهن أنها حين تمّ تشخيصها بالكوليرا وقد كانت طفلة صغيرة، توجب عليها التهام «فأر أبيض» بحسب ما اعتقده الناس حينئذ أن «ابتلاع الحيوان الذي يحمل نفس الروح الشريرة، قادر على تجديد القوة الشافية»، وبالفعل، تستكمل قصتها، قامت والدتها بسلق الفأر الأبيض وقدمته لها على هيئة حساء أرنب صغير، والعجيب في القصة أنها بالفعل نجت من الكوليرا ولا زلت على قيد الحياة.

بلوت تويست سياسي

ظهر إدوارد سنودن، صاحب الحدث الأشهر لتسريبات معلومات من جهاز المخابرات الأمريكية، ليعلن أن كورونا ما هو إلا محاولة من الحكومات لما أسماه «هندسة القهر» The architecture of oppression، وأن الحكومات تسعى إلى تقييد وتقويض الحريات الفردية من خلال هذا الفيروس المختلق. ثم حذر من الإجراءات السلطوية التي تمارسها الحكومات تحت غطاء «كورونا»، وتنبأ بأن العالم سيفقد كل ما حصل عليه من حريات، وما ينتظرنا بعد ذلك هو المزيد من التقييد.  

الألم من خواء «قوالب» الفهم، هل يدفعنا لتخليق «هوية» للمرض؟

في عام 1983، قدم كلٌ من جوزيف شنايدر وبيتر كونراد، كتابًا شديد الخصوصية والرهافة التي تجمع بين التوثيق العلمي والمسار الإنساني في الفهم والتقصي، «الصرع: الخبرة والسيطرة على المرض». تتبع العالمان، ما يمر به المريض والمحيطون به أيضًا فيما يشبه الركض وراء متاهات شخصية لإيجاد هوية لـ«المرض»، وحين تتضح «علّته» قد يجد المريض حينئذ قدرته وقوته على النجاة. يقولان إن البشر يتشاركون في الرغبة في إضفاء معنى لمرضهم، يقومون بتطويع جميع معتقداتهم الدينية التي آمنوا بها قبل الإصابة، وربما احتفظوا بها بعد معرفتهم بالمرض، في بعض الأحيان يلتقطون المعنى من طبقتهم الاجتماعية أو علاقاتهم بذويهم، بل قد يصل البعض في مسعاه أن يستخدم بياناته في التأمين الاجتماعي والصحي كمدخل لمعنى لماذا أصيب بهذا المرض.

إن تلك المحاولات تشير إلى عمق الألم الإنساني الذي يشعر به الإنسان أمام ما يجهله، ويتعاظم هذا الألم ويصبح غائرًا حين يجد نفسه أمام ما لا يمكن فهمه، ليس على المستوى الفردي فقط، بل الجماعي والكوني أيضًا. يلجأ الإنسان في تلك المرحلة شديدة التعري أمام ضآلته وانكشافه أمام ذاته التي عرفها قبل المرض، إلى إعادة ترميم هويته، عن طريق تخليق «هوية» للمرض، وحين النجاة تنفصل الهويتان بالكلية، ثم يكون لدينا هوية جديدة للمريض -إذا ما أراد- ويصبح عنوانها «ناجٍ من السرطان» على سبيل المثال.

أتبنى ذلك الإطار في فهم مسعى البشر باختلاف مشاربهم لفهم وتأطير وتفسير ما يصعب فهمه، وبخاصة في حالة كارثية مثل جائحة الكورونا.

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

ما أضافه الفيروس للقاموس

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم الرأى

تاريخ النشر: 14 أبريل 2020

في إطار تغطية صحافية من ريهام عزيز الدين لجائحة الكورونا 2020

موقع "مدى مصر" هو أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية في العالم العربي.

*****

من أين تأتي الكلمات؟

في أحد ورش العمل، طُلِب من الحاضرين أن يجدوا معنى لكلمة «شالوفة». شرع المشاركون البالغ عددهم أكثر من 25 خبيرًا لغويًا في محاولة الكشف عن هوية ومعنى تلك الكلمة. لم تكن «شالوفة» موجودة في القاموس، فعادوا بخيبة أمل يلومون المدرب على إعطائهم مثل تلك المهمة المبهمة. فما كان منه سوى أن أعاد عليهم صياغة المهمة مرة أخرى بقوله «عليكم إيجاد معنى للكلمة فلا يوجد بالأصل لها معني». وهكذا انخرط المشاركون في إيجاد معنى للكلمة اللغز. انقسمت مجموعات العمل إلى أربع مجموعات، وبعد عمل أكثر من ساعتين كانت النتيجة كالتالي:

مجموعة 1: «الشالوفة» هي أداة يستخدمها المزارع لتجميع الحشائش الضارة.

سأل المدرب: وكيف توصلتم لذلك؟

– قمنا بسؤال بعض المزارعين في الجوار، فتردد استخدام كلمة «جاروف» فظننا أنه بالإمكان أن تصبح لدينا كلمتان تحملان نفس المعنى: «جاروف» و «شالوفة».

مجموعة 2: الشالوفة هي صفة يتم استخدامها لوصف السلوك المشين وبخاصة للسيدات.

– وكيف توصلتم لذلك؟

– لدينا كلمة عامية يتم استخدامها وتبدأ بحرف الـ«ش – شرمو**» فظننا أن «الشالوفة» هي أحد الكلمات الأخرى التي يستخدمها العامة لوصف ذلك السلوك.

مجموعة 3: «الشالوفة» هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى السلام النفسي الكامل.

– كيف توصلتم لذلك؟

كنا سمعنا من قبل أن هناك «النيرفانا»، فافترضنا أنها أحد تلك المراحل المتقدمة التي يخوضها الإنسان المنهك في الحياة ليصل إليها في رحلة تنوّره الروحي.

هل لديكم إثبات لذلك؟

لا، لقد افترضنا ذلك، طرحنا الافتراض ولاقى قبولًا في المجموعة.

مجموعة 4: «الشالوفة» هي نبات يتناوله المناهضون لتناول اللحوم، ويمكن طهوه بإضافة الماء أو المرق أو الحليب.

كيف توصلتم لذلك؟

قاربنا المفردة مع مفردة الـ«شوفان»، كما أننا طرحنا نقاشًا في المجموعة حول المسميات المختلفة الغريبة التي نسمعها يوميًا عن أنواع الحميات الغذائية النباتية.

هل لديكم إثبات لذلك؟

لا، لكننا كمجموعة اتفقنا تمامًا أن نستخدم كلمة «شالوفة» من الآن وصاعدًا بالمعنى الذي ذكرناه.

انتهى التدريب، ولم يتوصل المشاركون لإجماع حول معنى واحد للكلمة. لم يكن هدف المدرب منذ البداية التوصل إلى معنى محدد وقاطع لتلك الكلمة المبهمة بقدر ما كان يهدف إلى الإشارة لعملية تخليق المعنى المرتبط بمفردة بعينها. كما أراد أن يكوّن مدخلًا لطرح جدلية لم تحسم في ذلك التدريب «من يأتي أولًا: الكلمة أم المعنى؟ و كيف تُشكل الكلمات الوعي الإنساني؟». 

أتخذ من تلك الخبرة مدخلًا في محاولة تتبع مسار تخليق المعنى الذي يتشكل حول مفردة «فيروس كورونا»، ليس لغويًا فحسب بل ثقافيًا واجتماعيًا كذلك.

مفارقة الإدراج في القاموس

وفقًا لعلم دراسة أصل الكلمة، بدأ استخدام مفردة «فيروس كورونا» عام 1968. غير أنه فور إعلان منظمة الصحة العالمية «جائحة فيروس كورونا» في مؤتمر الصحة العالمي بجنيف 11 فبراير 2020، على الفور تمّ إدخالها إلى أكثر قواميس اللغة شيوعًا «ميريام ويبستر» لتظهر مفردة «فيروس كورونا» على قائمة تحديثات المفردات المضافة حديثًا للقاموس بتاريخ 16 مارس من العام نفسه. ولم يكن ذلك فحسب، بل أن اتخاذ قرار إدراج الكلمة في القاموس كان سابقة من نوعها لم يشهدها تاريخ أرشفة الكلمات من قبل.

وفقًا لمعايير إدراج مفردات جديدة بالقواميس، يجب أن تمر حقبة زمنية، كما أنه لا يتم التسرع في صك المفردة قبل مرور وقت كافٍ يصل إلى حقبة زمنية بأكملها. غير أن مفردة «فيروس كورونا» حطمت تلك المعيارية بالكلية، حيث تمت إضافتها للقاموس بعد 34 يومًا فقط لا غير من إعلان الوباء، ودون مجهود مضنٍ كالمعتاد.

أعاد ذلك إلى الذاكرة اللغوية، الرحلة الشاقة التي قطعتها كلمة «إيدز» ليتم إدراجها والاعتراف بها في قاموس «ميريام ويبستر». ففي حالة مفردة «إيدز» استغرق الأمر عامين كاملين، حيث بدأت الإشارة للمرض عام 1982، ثم خاض المحرر العلمي روجر بييز Roger Pease، جدالًا واسعًا لكي يتم صك المصطلح وإدراجه في القاموس. اعتمد روجر على الدفع بكل قوة إلى الاعتراف بهوية «المرض» بمنحه اسمًا واضحًا ثم إدراجه في القاموس الأكثر شعبية ليفسح مجالًا للاعتراف بكل ما يجلبه المرض من حوار مجتمعي لا فائدة من المراوغة حوله.

أما كلمة «كورونا» نفسها فاشتقاقها من «crown» وقد اصطلح العلماء المختصون بدراسة الفيروسات تسمية هذا النوع من الفيروسات بـ«فيروس كورونا» وتُماثل وجود «تاج» في الشكل التخيلي للفيروس يتقارب مع شكل التاج الشمسي في الخسوف الشمسي الذي تم رصده كما يظهر هنا.

هل تمكَّن «الفيروس» من خلق قاموس مستقل بذاته؟

بظهور فيروس كورونا، تراصت كتيبة من المفردات المرتبطة به واعتماده لغويًا وكارثة صحية عالمية، تنامت الحاجة لوجود مفردات تتمكن من ملء الفجوة المعرفية المقترنة بهذا الفيروس. دشنت مجلة «تايمز» دراسة تقودها مؤسسة «القاموس»، والمؤسسة البحثية لقاموس «ميريام ويبستر» لتحليل المحتوى الموجود على موقعهم الرسمي في تغطيتهم الإعلامية عن الفيروس بغية التعرف على أكثر الكلمات التي يبحث عنها مستخدمي الموقع واستخدام نتائج هذه الدراسة في بناء قاموس خاص يُمكِّن الجميع، على اختلاف خلفياتهم العلمية، من فهم الأزمة الحالية والعبور منها بوعي أعلى.

يمكن إفراد مقالة كاملة عن الكلمات الأكثر استخدمًا في المحتوى والمعنى المرتبط بها قديمًا وأصل الكلمات وتاريخها، غير أنني أود أن أنتقي الكلمات التالية التي أظهرتها الدراسة: Outbreak, epidemic and pandemic

أزمة، وباء أم جائحة؟

إن الأمر لا يعد تفلسفًا لغويًا، بقدر ما يعني أن خطورة الكلمات وما تحويه من دلالة ستتبعها إجراءات تتسم برفع درجة الخطر والاستعداد العالمي. يتضح ذلك جليًا في قرار تأخير منظمة الصحة العالمية في الإعلان عن فيروس كورونا باعتباره جائحة عالمية.

لقد تأخر استخدام منظمة الصحة العالمية لكلمة «وبائي»، ولم يظهر سوى في 16 مارس بالرغم من ظهور المرض منذ 11 فبراير. ويُرجع البعض هذا التأخير لما يمكن أن يسببه مثل هذا الإعلان باستخدام كلمة «pandemic» أن الأمر بات من الخطورة من منطلق إحصائيات الدول المختلفة وتصاعد أرقام الوفيات وانتشاره في مناطق مختلفة، وما قد يحدثه ذلك من خلخلة للأنظمة المالية وما يصاحبها من انهيار الأمل في الشفاء وتعاظم الهلع الكوني.

Quarantine

تلك المفردة التي تمّ إحياؤها من التاريخ الإنساني القديم.

يشير بيتر سوكولوسكي Peter Sokolowski، محرر قاموس «ميريام ويبستر»، إلى أن الكلمة التي تم إحياؤها من التاريخ الإنساني القديم تعني الفترة التي تمتد إلى 40 يومًا من العزلة. تعود جذور الكلمة إلى السياق الديني، وبخاصة التراث المسيحي الذي يقوم الفرد خلاله بصيام 40 يومًا اتباعًا لصيام المسيح في الصحراء للمدة ذاتها. كما أن المعنى الاجتماعي للعزلة أو الخلوة أو الانعزال، بجانب وجوده في كثير من التراث الديني، فهناك ممارسات اجتماعية يظهر فيها بشكل جلي، على سبيل المثال، هناك العزلة التي تُفرض على الأرملة عند وفاة زوجها بالامتناع عن تأجير منزلها لمدة أربعين يومًا، فهي فترة العزلة والحداد. 

وفي العصور الوسطى، كان البحارة الإيطاليون يُبقون السفن القادمة في الماء مدة 40 يومًا قبل أن يقوموا باستقبالها على الشاطئ خشية أن يكون هناك وباء بين البحارة على السفينة القادمة من بلد غريب.

أما عن الاستخدام المعاصر لكلمة «كورانتين»، فهي تراوحت ما بين الحظر، العزلة، العزل، ثم ظهرت كلمة «التباعد الاجتماعي».

Social Distancing.. التباعد الاجتماعي

كلمة التباعد الاجتماعي ليست وليدة الوقت الحاضر، فتاريخ الكلمة يرجع إلى العام 1960، إلا أن إحياء المصطلح واحتلاله مسرح أكثر الكلمات استخدامًا وبحثًا،  صاحبه محاولة لتطويعه بما يتناسب مع اللحظة الآنية. وفي تلك اللحظة هناك محاولة لإعادة تدوير المصطلح ليصبح «تباعدًا جسديًا» وليس «اجتماعيًا» كمحاولة لإدماج الوعي بدلالة الكلمات من منظور نفسي، إذ أنه وقت الأزمة الشديدة قد تخلق كلمة واحدة أو مصطلح ما يسمى في علم النفسي بإثارة triggers، الخوف أو الهلع.

Flattening the curve.. تبطيط المنحنى

أصبحت «شبه الجملة» تلك أكثر التراكيب اللغوية استخدامًا -وفق دراسة التايمز- في الحياة العامة. وبمقدور من تتبع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، العثور على مثل تلك التراكيب دون أن يرتبك، فقد أصبحتَ متورطًا بالكلية في المعرفة.. تلك المعرفة التي تتجاوز العمل الأكاديمي أو المختبر الطبي أو الأسوار العالية ذات اللغة الأكاديمية شديدة التعقيد.

Herd Immunity.. مناعة القطيع

لكلمة «قطيع» دلالة اجتماعية ربما نتناولها لاحقًا في القاموس الشعبي الذي أتى مصاحبًا لفيروس كورونا، غير أن هذا المصطلح من ناحية طبية يعني، كما رصدته الدراسة المعنية، أن بعض الناس قد يصبحون محميين من الإصابة بالفيروس لتواجدهم في مجتمع ذي مناعة عالية (الغالبية ذات مناعة عالية) وبالتالي تتضاءل فرص انتشاره داخل هذا المجتمع.

هل يفرض «كورونا» احتياجًا لـ «لغة» عالمية للعلم؟

تلك كانت إشكالية تكاد لا تتجاوز المختبرات العلمية المتخصصة، وتغادرها فقط لتمتد إلى المختبرات اللغوية. إن ما حدث في فيروس كورونا، تجاوز الحدود المعروفة بين العلم الأكاديمي الصارم والعلم الشعبوي. أصبح الجميع يتشاطرون الرغبة في المعرفة والفهم. من ناحية، ظهر احتياج قوي لأن تكون هناك لغة موحدة بين الأطباء والحكومات والدول عبر العالم لكي يتم تناقل المعرفة من خلالها، تساقطت الحدود الوهمية التي صنعت حاجزًا لفهم الكثير من الظواهر والتي وقفت اللغة حائلًا دون فهمها أو ترجمتها إلى لغة أخرى.

أصبح العالم بأكمله ينطق كورونا، كوفيد 19، بل أن القاموس المرتبط بالفيروس لم يعد حكرًا على المختصين فحسب، بل أصبح الجميع يمكنه أن يسرد توصيفًا دقيقًا للأعراض والمسببات باستخدام كل المفردات السابقة، وقد حدث ذلك في وقت يعد قياسيًا. ومن الناحية الأخرى، فبالرغم من عالمية المفردة في اللحظة الحالية، إلا أن «فيروس كورونا» اختبر تحديًا جديدًا من حيث تنوع استخدامه وفق التنوع اللغوي داخل البلد الواحد، مما يمنحنا رؤية لمسار مفردة واحدة وكيف يتم تطويرها في زمن قياسي داخل مجتمعات مهمشة.

عند بدء الجائحة في الصين، أثار صانعو السياسات الصينية في مجابهتها، الانتباه نحو الاحتياج إلى مزيد من البحث التجريبي حول وسائل وأدوات الاتصال بين قطاعي الصحة والإعلام، والاحتياج لتوصيل رسائل عن الفيروس بلغة محلية تتطور لتستوعب مستجدات التحدي الراهن، مؤكدين بذلك على رغبتهم في تقصي التواصل والفهم المشترك حول المعلومات الصحية/ الطبية باستخدام لغات الفئات الأقل تهميشًا على سبيل المثال. 

وقبل أن تشتد وطاة الجائحة في الصين، كان هناك اهتمامًا بتواجد منصات تواصل اجتماعي ثنائية اللغة، الغرض منها أن تصل إلى مستخدمين من خلفيات إثنية مختلفة ولهجات مختلفة كذلك. تم تصميم تلك المنصات ثنائية اللغة لتحرير المعرفة الطبية من الاحتكار من طبقة بعينها، وتسهل التعريف بالقرارات الحكومية، كما كان من المخطط لها أن تكون خطوة نحو تدشين كرنفالات ثقافية نابعة من المجتمعات المحلية. 

بعد اجتياح جائحة فيروس كورونا، رُصدت مبادرات محلية لتبادل المعلومات حول الجائحة باستخدام لهجات محلية، وبخاصة للمجتمعات المهمش والتي تعيش على الحدود مع ميانمار، تمثّل ذلك في تكوين مجموعات من هؤلاء السكان، وتبادل النصائح والمعلومات باللغة الدارجة. بل لقد تمّ استخدم اللغة الخاصة بمجتمع الأقليات من التيبت، وتمّ اعتبار أن كبار السن غير القادرين على التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحد شرائح المستهدفين من تطوير لغة محلية حول تطورات الجائحة.

وفي سابقة من نوعها، تمّ رصد عدد من قصص الفلكلور المنغولي والأغاني الشعبية وعزف بعض من المقطوعات الشعبية مثل التصفيق باستخدام خشب البامبو، كممارسات شعبية للتكاتف الاجتماعي ورفع الروح المعنوية للمناطق المنكوبة. وأصدرت الصين منشورات توعوية حول فيروس كورونا ظهرت في 39 لغة محلية، وبالتعاون مع دور النشر في جميع المقاطعات الصينية. بالإضافة إلى إعادة إحياء اللغات المنسية واللهجات المحلية، تم طرح إشكالية غاية في الأهمية وهي استخدام اللغة الإنجليزية كلغة للعلم والطب. 

يشير زانج جي Zhang Jie إلى أن اللغة أصبحت سلاحًا ذو حدين، ويشتد ذلك في وقت تصاعد النزعة الوطنية المحلية بضرورة إنقاذ الوطن. أشار زانج إلى أن عددًا من الباحثين الصينيين نتيجة لنشر أبحاثهم باللغة الإنجليزية حول كورونا في مجلة «بريطانيا العظمى للأبحاث الطبية»، تم وضعهم قيد المساءلة وفُتحت عليهم نيران الاتهام، وصلت إلى اتهامهم بالخيانة لعظمى. برصد تلك الحادثة، يعيد المشهد تذكيرنا بما يمكن أن نطلق عليه اللغة العالمية للعلم، ومساءلة الإنجليزية كلغة للعلم واختبار فرضية: هل يملك الجميع كفاءة لغوية كافية للبقاء في وقت تبدو فيه المعرفة وضرورة تداول المعلومات بكل وسيلة ممكنة أمرًا حتميًا لا امتيازًا يختص به البعض دون غيرهم؟

هل أعاد الفيروس تاريخ قديم للكراهية عبر اللغة؟

كما تمت الإشارة سابقًا إلى أن بعض المفردات التي أُعيد استخدامها لتتواكب مع توصيف مستجدات اللحظة الآنية، طُرح التساؤل: هل اللغة الخاصة بالجائحة أنتجت مفردات للكراهية والعنف اللغوي؟

يخبرنا التاريخ أن تلك ليست المرة الأولى التي يقود الخوف من الإصابة بالوباء وحالة الذعر العام إلى موجة من العنصرية تصب غضبها نحو العمالة الآسيوية، والتي تمتد جذورها إلى منتصف القرن التاسع عشر بوصول أول عامل آسيوي إلى أمريكا الشمالية. بعيدًا عما تمّ رصده من ممارسات عنف ضد الصينيين والآسيوين في الأشهر الماضية، تداول مستخدمو الإنترنت تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بوصفه الفيروس بـ«ذلك الفيروس الصيني»، مما اعتبره كثيرًا من المراقبين دعوة صريحة لإحياء كراهية تاريخية قديمة نحو دول شرق آسيا. 

في نفس الوقت تواردت أنباء عن تعرض أمريكيين من جذور آسيوية للبصق والاعتداء والصراخ والتهديد، ووصل الأمر إلى الطعن والضرب، كما حدث في مونتريال، ورصد لتصاعد العنف نحو محال العمالة الآسيوية تصل إلى ما يزيد عن 650 هجمة عنصرية في الأسبوع الماضي فقط.

على صعيد شعبي، رُصد العديد من الكوميكس الساخرة حول عادات الأكل في الصين، واستتبع ذلك توطئة لكراهية مبطنة يمكن توصيفها بأن بعض الشعوب قد تبدو أكثر «قذارة» من غيرها.

القاموس الشعبي لـ«كورونا»

في 16 مارس الماضي، تمت إضافة كلمة covidiot إلى القاموس الشعبي، وهي تجمع بين الجذرين corona and idiot (أبله- الكورونا) تشير إلى النمط السلوكي الذي تزامن مع ظهور الجائحة، وهو نمط الأشخاص الذين يستخفون بتحذيرات البقاء في المنزل أو يخزنون البضائع الغذائية دون داعٍ.

استقبل المصريون لفظ «كورونا» بما يتشابه مع ما هو مُخزن في ذاكرتهم الجمعية وبنيتهم المعرفية بتقريب كورونا لنوع الشيكولاتة الذي لم يعد رائجًا قبل أن تحدث الجائحة، غير أنه منذ أن تسارعت وتيرة الأحداث توقف الجميع عن استخدم نفس الإيفيه.

ثم لم يلبث أن أصبحت كلمة «كورونا» جزء من الحوار اليومي المعتاد. ولم يجد المصريون أي صعوبة في تداول كلمات مثل الكورونا أو الكارونا (كما يتم نطقها في أحد مواقف الميكروباصات)، أو بعد بضعة أيام، أصبحت الغالبية تستعيض عن «الكورونا» وتشير إلى «كوفيد 19» دون الحاجة للشرح المطول حول الكلمة أو إلى ما ترمز.

ظهرت أغنيتان باللهجة المصرية تتسمان بخفة الظل، الأولى لعمر طاهر يعيد تدوير الفلكور الصعيدي «سلّم عليّ»: الكوكب اللي رافع حاجب.. ع الغلابة بيتعاجب.. عمل الكورونا معاه الواجب.. خلاه ماشي يندب ع الناي.. الحظر خلاني في حالة.. فكيت وديعتي المتشالة.. ومراتي في البيت شغالة.. رايحة وجاية تعمل شاى.

والثانية للدمية الأشهر «أبلة فاهيتا» بعنوان «الكورانتينا»: طول اليوم بوزنا في بوز بعضينا.. مش طايقين روحنا يا رب ألطف بينا.. شاكين في جيرانننا وحتى في أهالينا..  مع بعضنا لابسين في الكوارنتينا.

بل أن مفردة تحمل خلفية محتملة للتحقير، ألا وهي «القطيع»، بما تشير إليه من الاتباع الأعمى لقطعان الماشية، ربما كانت تتحرر شيئًا فشيئًا من تاريخها في الثقافة الشعبية المصرية حين ظهر عدد من المبادرات المجتمعية تحمل في جوهرها ضرورة التكاتف كمجموع.

ربما الجانب الأكثر خفة في تناول الكورونا اللغوي، أنها لم تتح الفرصة لأي من الجدالات التي يدور اللغويون في رحاها، على شاكلة «الحاسوب» عوضًا عن «الكمبيوتر» أو «الذكاء الاصطناعي» عوضًا عن «الأرتيفيشيال انتجيلينس».

بل أن الأمر امتد إلى أن يصطبغ بمسحة شعبوية تم رصدها من خلال الباعة الجائلين الذين منحوا بعدًا ابتكاريًا جديدًا حين أصبح النداء لتخزين الثوم هو: «يا مزين البلكونة.. يا قاتل الكورونا». في إشارة واضحة لتضفير الأسطورة الشعبية بقوة الثوم الشافية على طرد جميع الأرواح الشريرة، ومما لا شك فيه فإن الشر الذي يحمله «فيروس كورونا» لن يصمد أمام «حزم الثوم المعلقة في البلكونات»بل أن الأمر امتد إلى أن يصطبغ بمسحة شعبوية تم رصدها من خلال الباعة الجائلين الذين منحوا بعدًا ابتكاريًا جديدًا حين أصبح النداء لتخزين الثوم هو: «يا مزين البلكونة.. يا قاتل الكورونا». في إشارة واضحة لتضفير الأسطورة الشعبية بقوة الثوم الشافية على طرد جميع الأرواح الشريرة، ومما لا شك فيه فإن الشر الذي يحمله «فيروس كورونا» لن يصمد أمام «حزم الثوم المعلقة في البلكونات»..

السبت، 4 أبريل 2020

تذكرة سينما

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 255- أبريل 2020

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الشاعر والروائي زياد عبد الله

***

تذكر سينما



ثمة تحذير مكتوب على التذكرة

سيتم العرض في قاعة معتمة

لأربعين دقيقة كاملة.

ستبقى الشاشة معتمة

لا شريط للصوت يحمل نصاً مكتوباً يخبرنا عن الخيانات المتكررة للحياة.

لا أبطال يتصدرون الشاشة

لا موسيقي تدغدغ الحواس

لا خبرية من عالم آخر تطمئنك أنك لست الأشد حزناً في هذا العالم

لا شيء.

***

ثمة تحذير مكتوب على التذكرة

مساند مقاعد المشاهدة مزودة بمجسَّات رقيقة حادة الحواف

خلايا جلدك المحترق للمرة الثالثة،

سيتم قرضها بأسنان فأر يعبث بأثاث منسي لبيتٍ قديم.

***

يوشك العرض أن يبدأ

لكن كتيب العرض لا يذكر على وجه الدقة

كيف نبحث عمّا فُقد؟!

الشاشة معتمة

ستبقى أربعين دقيقة كاملة

في محاولة أخيرة لأن تدفع خارجاً كامرأة في مخاضها لا ترى رأس وليدها،

يتسرب سائل ككتيبة نمل مدربة في أطرافك الممسمرة على صليب خشبي.

***

يوشك العرض أن يبدأ

تندفع ربة البيت التي تأتي مع كل شروق لجلي الصحون

تقتطع جزءاً من السلك المعدني المخبئ بعناية في قفصك الصدري

تبهرك قدرة كفيها على البتر من دون أن تؤلمها حواف السلك المدببة.

تمضي مهرولة لمتابعة مهام الحياة العاجلة

تخبرها مراراً أن تتبع التحذير المكتوب على التذكرة

يجب أن تُحكم إغلاق ستائر الغرفة

يوشك العرض أن يبدأ

في قاعة معتمة

والشاشة معتمة أيضاً

لأربعين عاماً أو أقل.

***

الصورة من أعمال الفنان المغربي فريد بلكاهية (1934 – 2014).

الأربعاء، 25 مارس 2020

خط ساخن لتقديم الدعم النفسي في أيام الأزمة الحالية- كورونا/ كوفيد 19

مقترح خط ساخن لتقديم الدعم النفسي

مما يجدر ذكره أن الدولة استجابت للنداء، وتمّ بالفعل تدشين خط ساخن تابع لوزارة الصحة.

كتبت: ريهام عزيز الدين

25 مارس 2020

في ديسمبر 2019 دشنت وزارة الصحة والسكان مبادرة شديدة الأهمية وهى إطلاق خط ساخن لتقديم الدعم النفسي والاستشارات الداعمة لمن تراوده أفكار انتحارية. تعد تلك الخطوة ترسيخًا لمسار يعيد وضع الصحة النفسية والسلامة المعنوية في أولويات العمل وقت الأزمات الكبرى.

أتساءل لماذا لا يتم تفعيل نفس الخدمة في الوقت الحالي؟

إن ما يشهده الجميع من حالة الخوف الجماعي، أو الفردي من مجهول لا يستطيع فهمه أو استيعابه أو القدرة على وضعه في إطار المنطق والسيطرة، يجعل من الأهمية إعادة النظر في تفعيل تلك الخدمة او استحداثها إذا لزم الأمر.

البقاء في المنزل، والاهتمام بسلامة العائلة والمقربين نفسيًا ومعنويًا لا يقل أهمية عن إتباع إجراءات السلامة والوقاية التي يتشارك الجميع في المسئولية المجتمعية نحو تحقيقها.

البقاء في المنزل، قد يستجلب مشاعر متدفقة من الخوف أو التوتر وفي بعض الأحيان قد يصل إلى نوبات الهلع الكاملة وبخاصة في حالة تشخيص أحد أفراد العائلة بالإصابة. سيعاني الجميع من أعراض متفاوتة ودرجات مختلفة في الخوف، الخوف من الإصابة بالمرض، الخوف من فقد شخص عزيز، الخوف من خسارة مادية وتوقف الأعمال. كل تلك المخاوف لا يمكن إنكارها أو تشتيتها لأنها ستعود أكثر حدة وقسوة وقد تمتد إلى ضعف المناعة الجسدية. أما إذا ما تمّ التعامل معها بأنها جزء من طبيعة تدفق الطيف الانفعالي البشري الطبيعي، لا تسبب أى خطر، هكذ أرجو.

لا يخفى علينا تدني مستوى الوعى بالصحة النفسية في المشهد حزمة الأولويات في إدراة الأزمات.لا يمكن لعين أن تخطىء مؤشرات هذا التدني متجسدة في عدم مناقشة أمور وإجراءات السلامة النفسية ووضعها في  وإجراءات السلامة النفسية وتخطي الأزمات الخانقة دون أن تترك مثل تلك المشاعر ندبتها على الجسد او تسبب في إثارة ذعر جماعي قد يتسبب في خسائر لن نستطيع تحمل تكلفتها بشكل فردي أو جماعي.

ولذا، أقدم اقتراحي بتفعيل خدمة خط ساخن مجاني وللجميع لتقديم الدعم النفسي والتوعية باجراءات وممارسات يتم تطبيقها حول العالم للتعامل مع نوبات الخوف، والتوتر الشديد ، وتجاوز نوبة الهلع.

زيارة الطبيب النفسي والتماس يد العون من متخصص هو ضرورة وليس رفاهية، غير أني أرجو من خلال هذا الاقتراح أن نحقق تقدمًا إنسانيًا في مسارنا نحو إدارة الأزمة الحالية بأن نمنح الجميع فرصة عادلة وحقيقية لكى نعبر فوق نهر الخوف بأقل خسارة ممكنة.

وفيما يلي بعض من اقتراحات التشغيل وفق مقارنة سريعة بما طبقته الدول الأخرى في ظل التعامل مع أزمة شديدة الخطورة:

1-      أن تكون وزراة الصحة والسكان بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي المسئولتين عن تفعيل الخط الساخن لتقديم الدعم النفسي. من الأهمية بمكان أن تتم إتاحة تلك الخدمة مجانًا للجميع.

2-      فتح باب التطوع من أفراد ومؤسسات المجتمع المدني للمشاركة في تنظيم تشغيل الخط الساخن، هناك الكثير من الأفراد والمؤسسات والجمعيات التي تطمح أن تلعب دورًا جوهريًا حقيقيًا في المشاركة في تخفيف توطئة ما يحدث.

3-      كما هو الحال في تصنيف مراحل الفيروس في حالة الاشتباه والإصابة إلى ثلاث مراحل، يمكن تصنيف مكالمات تلقي الدعم إلى "ثلاث" فئات

- الفئة الأولى "دعم خفيف": لمن يمروا بنوبة خوف أو توتر عابرة غير أنه يصعب التحكم فيها بمفرده/ها.

- الفئة الثانية "دعم متوسط": تستهدف تلك الفئة من يقومون بالاتصال بالخط الساخن الذي وفرته وزارة الصحة في حالة الاشتباه بالمرض.إن طمأنة الفرد بشكل طبي على قدر من الأهمية، غير أن الطمأنة النفسية تتساوى مع ذلك، حتى لا يفضي بنا الأمر إلى التكدس الشديد في المستشفيات من حالات يمكن القول أن ما يحركها هو خوف وهلع شديدين وليس المرض.

- الفئة الثالثة "دعم نفسي متخصص": لمن تم التشخيص بإصابته بالمرض، أو في انتظار أى نوع من التحاليل، ويتم تقديم الدعم هنا للفرد ولعائلته، فكلاهما يقف عاجزًا أمام ما يمكن في الأيام التالية فور التشخيص.

4-      أن يتم تقديم الخدمة من خلال الهاتف، وإمكانية تقديمها من المنزل. إن إبقاء شخص في نوبة خوف/ هلع/ توتر على الهاتف حتى يعود جسمه إلى وضع السكون ليس أمرًا هينًا ويتطلب قدرة نفسية عميقة لكنه ليس بالأمر المستحيل أيضًا.

5-      اختيار من يقوم بتلك المهمة في ضوء معايير واضحة، واقتراحي السابق بتمكين مؤسسات المجتمع المدني والأفراد ذوي الخبرات الهامة في مجال ممارسة تمارين اليقظة والحضور والتهدئة عبر التنفس هو اقتراح لإزاحة العبء ودعوة للمشاركة والمسئولية الاجتماعية.

أرجو أن يجد اقتراحي صداه للقائمين على الأمر، وأرجو أن يقدم الإعلام فقرة كاملة يومية لطمأنة الناس وفق لالتزام بمعايير وممارسات السلامة النفسية المعتمدة.

  

تانغو الجسد والحياة نحو العودة للنبع- مسارات التعافي النفسي للجسد، للذاكرة!


 

مقالة منشورة في مجلة "فنون"- القسم الثقافي

مجلة "فنون"- هى مجلة مصرية تصدر عن الهيئة المصرية لعامة للكتاب، وتعد من أكثر المجلا رواجًا واستقطابًا لكتّاب مميزين في مصر والعالم العربي

صندوق "باندورا"

تخبرنا الميثولوجيا الإغريقية، أن الإله "زيوس" بعد أن خلق "باندورا" وهى إلهة عُجنت من الماء والتراب وهبطت للأرض كجزء من العقوبة البشرية- في اختبار للطاعة والولاء- منحها صندوق وأمرها ألا تفتحه على الإطلاق.غير أن "باندورا" - في تجسيد للفضول البشري الذي سيتجذر في النبت البشري لاحقًا-  لم تقاوم الرغبة في اكتشاف ما بداخله، قامت بفتح الصندوق بالفعل. ما أن فعلت ذلك حتى انطلقت كافة شرور العالم من هذا الصندوق العجيب، حاولت "باندورا" أن تغلق الصندوق في محاولة يائسة منها للتكفير عمّا قامت به، غير أن الأمر بات متأخرًا للغاية فقد امتلأت الأرض بالشرور التي سيتوجب على البشرية لاحقًا مجابهتها.

يبدو أن الفنانة البصرية الإيرانية "شيرين نشأت" قد التقطت بعضًا من الشرور التي لم يتم جمعها في صندوق "باندورا القديم" وظلت ترتع غير آبهة بحدود جغرافية أو فواصل زمنية. حيث عبّرت "شيرين" وفق أعمالها الواحدة تلو الأخرى، كيف يمكن أن يحمل الجسد وبخاصة أجساد النساء "وشمًا ووصمًا" ممتدًا تحمله الأجيال.



بل وكيف يتحول الجسد ذكرًا أو أنثى إلى صفحة يخط عليها المجتمع و أعرافه وأحكامه وهواجسه ما يتفق عليه، فكأن جسد الفرد هو قربانه الذي يحمله بين يديه ليتم قبوله في المجموع الأكبر، كلما امتلأ الجسد وصار مرآة لكل ما يرتضيه المجموع كلما نال القبول أو على نحو يبدو واضحًا في مجتمعات تحترف كراهية ذاتها، نال الانخراط داخلها فلا يصبح فريسة للاستهداف كونه ينتمي لهامش أو يبدو مختلف عن النمط السائد.

تُعنى المقالة الحالية، ليس لتتبع مسارات الشرور التي لا زالت تحدق بأجساد النساء والرجال على حد سواء في مجتمعاتنا، بقدر ما أحاول بناء خارطة نحو الفهم و التقصي حول كيف يمكن للجسد أن يكن أرضًا لم تؤها قدم من قبل، غير أنها تحمل بداخلها مسارات لا نهائية نحو التعافي والانعتاق والخلاص.. كان يتوجب أن أعبر فوق النمط السائد في مجتمعاتنا من اعتبار الجسد وبخاصة جسد المرأة هو "صندوق باندورا" الذي تقبع بداخله كل الشرور، فيجب أن يُحكم إغلاقه وتأطيره  ممارسةً ومجازًا. أتجاوز ذلك سريعًا، فلدى اليقين الكاف أن تلك المسألة هى غاية الحرية والانعتاق القصوى التي يسعي فيها كل شخص وفق لمساره الشخصي ورحلته الذاتية في الكشف والتحقق والتجذر نحو أن يسترد حقه في جسده بالكلية، ويحرره من سلطة كل من هو خارجه فردًا أو جماعة أو مجتمع. تتناول المقالة الحالية، ما يمنحه لنا عالم علم النفس والعلاج النفسي من رؤى مختلفة لمعرفة ذلك الصندوق المعتم، وكيف يمكن أن يكن الجسد معبرًا للتعافي، وكيف يحدث التعافي حين يصل الشخص إلى قيادة أوركسترا متناغمة يتمكن من خلالها إيجاد لحن يجمع بينما يدور في عقله من أفكار،  ما في جسده من ذاكرة منسية لانفعالات مقموعة، وروح تتوق للعودة إلى النبع الفطري الذي جبلت عليه قبل أن يتم تأطيرها و تدجينها وصبها في البرمجة والتنشية المجتمعية. (يروق لي استخدام تنشية عوضًا عن تنشئة).

 

هل للجسد ذاكرة؟

هل حدث لك أنك بينما تمشي في أحد الشوارع بحثًا عن "محل" زرته منذ عدة أشهر، تقف حائرًا في منتصف الطريق ولا تعرف أي الاتجاهات تسلك، ثم ينتابك "إحساس" لا يمكن إخضاعه للمنطق أن "قدماك تريدان السير في اتجاه معين" فإذا بك تجد نفسك وقد وصلت إلى وجهتك! إن مثل تلك الحادثة التي تبدو بسيطة ومتكررة في حياة الكثيرين، دعت علماء علم النفس العصبي للقول أن للجسد ذاكرة، وتلك الذاكرة تعمل بخلاف الذاكرة المتعارف عليها في العقل. بينما يؤرشف العقل المعلومات التي يتم جمعها وتنظيمها في خلايا الدماغ، فإن الجسد من ناحية أخرى يعمل ك"أرشيف" للمشاعر والأحاسيس التي تنطوي عليها كل الخبرات والمواقف التي يمر بها الإنسان في ساعات صحوه، ويراكمها مثل ملفات ترقد على أرفف الأرشيف في خلايا الجسد. اعتمد العلماء في ذلك على ظاهرة "الألم الخفي" والتي يمر بها كل من فقد "عضوًا جسديًا" كمن بُترت ذراعه أو قدمه أو فقد جزءًا من جسده. وفقًا لتلك الظاهرة، فإنه بالرغم من اختفاء "جزء من الجسد" إلا أن الإنسان تعتريه أوقات "يشعر" فيها بوجوده- كما أظهرت قياسات الهرمونات في التجارب المعملية- بل يذهب به الأمر أنه يشعر بالحزن الشديد لفقده، وأن الخواء الذي يحمله في جسده لا زال يحمل أرشيفًا في ذاكرة الجسد والتي تتطلب مسارًا معينًا في التخفيف من وطأة الغياب والفقد لذلك العضو الجسدي والذي يصل في حدة مشاعره إلى حزن مماثل لمن فقد عزيزًا لديه.

انطلاقًا من تلك الظاهرة، قدم عالم النفس الأمريكي- باسيل فان دير كولك، كتابه الثوري "الجسد يتذكر الندبة: تناغم الدماغ- العقل- الجسد للتعافي من الفجيعة المؤلمة"[1]. ثم أنشأ مركزًا للبحث والعلاج بولاية بروكلين- ماساتشوستس، ولازال كتابه حتى اليوم محل النقاش والكشف والبناء. يقدم "باسيل فان دير كولك" في كتابه المذكور  تجارب وقصص واقعية قام بدراستها ما يقرب من ثلاثين عامًا في محاولة منه لاكتشاف ذلك الصندوق المعتم "الجسد"، وأيضًا مسارات علاجية قام باختبارها طيلة حياته المهنية حول كل ما من شأنه معرفة ماذا يقبع في ذاكرة الجسد،  وكيف يمكن تحرير طاقته من براثن تلك الذاكرة التي استلبتها بالكلية مشاعر الصدمة في الماضي أو تخضع لقهر من برمجة مجتمعية تمارس أشد أنواع التنكيل نحو الجسد وإذلاله بشكل معلن أو مستتر.

هل تساءلت يومًا ما الذي يختبىء في الأرشيف غير المرئي لذاكرة جسدك؟

كلما استخدمنا كلمة "أرشيف" يتبادر إلى ذهنك ملفات متراصة بعضها فوق بعض في أرفف لمخزنٍ كبير. الأمر لا يختلف كثيرًا هنا حيث أن "أرشفة الجسد" ستقودنا كمن هو بصدد أن يزيح غطاء "صندوق باندورا". هذا لا يعني بالضرورة أن ثمة شرور تقبع بداخله، لكن ثمة أسرار وروايات لم يتم تخزينها وفق رواية العقل وحده، يمكن أن تثير الدهشة البالغة من كل ما تثيره ذاكرة الجسد من تاريخ غير مروي للشخص ذاته. انطلاقًا من تلك النقطة يمكننا الوصول شيئًا فشيئًا نحو فهم كيف تتشكل الأنماط المرتبطة بالسلوك الجسدي، وكيف يمكن تفكيكها وما الوسيلة لذلك.

لكى ندلف ذلك الأرشيف المتخم بقصص غير مروية، علينا في البدء أن نحمل معنا تعريفًا للفجيعة/ الصدمة، أخبر "باسل فان دير كولك" بقوله أن "الفجيعة" أو الصدمة لا يمكن قصرها فقط على العائدين من الحرب حيث شهدوا ويلات لا تخطؤها التجربة الإنسانية أو من تعرضوا لصدمات عنيفة مثل التهجير أو فقد ذويهم، بل أن الصدمة أو الفجيعة النفسية يمكن أن يتعرض لها الأطفال الذي ينشأون في عائلات مسيئة تجنح للإساءة لأطفالهم سواء بشكل مباشر من خلال العنف الجسدي أو بشكل الإساءات النفسية مثل إهمال احتياجات الطفل، تعريضه للجوع النفسي/ العاطفي/ إذلاله، التحقير من شأنه، تعريضه لأنماط من التعلق التي تحمل في جنباتها محبة مسمومة وكل ما من شأنه أن يدفعه دفعًا لدفن كل ما يشعر به من خبرات تنطوي بداخلها على مشاعر دفينة لكراهية الذات في سن مبكرة في أبعد مكان ممكن بداخله ولا يجد مدفنًا مناسبًا سوى الجسد. بتكرار تعرض الطفل في سنواته الأولى للإساءة النفسية أو الجسدية، يتحول جسده لمدفنًا ضخما، ينمو من خلاله، تتوالى سنوات النضج، غير أن صاحب الجسد يتحول كمن يعيش جلّ حياته كجثة تنتمي بذاكرتها ومشاعرها إلى ماضٍ، فيعيد إنتاج أنماط سلوكية الواحدة تلو الأخرى تشير إلى عنف مبطن نحو الذات وتنعكس في العالم الخارجي، ويصبح الجسد ذاته هو مسرح لتفريغ واستعراض كل ما هو مخبأ بداخله دون وعى من صاحبه بما يحدث عبره ومن خلاله.

هل حدث يومًا أن شعرت أن جسدك غريب عنك، أو تكاد لا تشعر به على الإطلاق؟

يشير "ويليام جيمس"، المعروف بلقب أبو الطب النفسي الأمريكي، في مقالته المنشورة سنة 1884 تحت عنوان "ما هى المشاعر؟" إلى حالة صادمة أطلق عليها "فقدان الاتصال بالحواس الخمس". أخبرت  الحالة موضع الدراسة التالي: "لا أملك أية حاسة من حواس الإنسان، جميع حواسي معطلة"، ثم استطردت بقولها: "جميع ما حولي يشير إلى الحياة، غير أني لا أشعر بوجود حواسي على الإطلاق،الأمر يبدو كأني منفصلة بالكلية عن جسدي حتى أني قد أمد يدي نحو الأشياء ولا أستطيع أن أخبرك على وجه اليقين أني ألمسها أم لا. أعلم أني أفقد شيئًا لكني لا أستطيع تسميته بوضوح،  أطوف في دوائر لانهائية تشبه الضباب في عقلي. كل ما حولي ومن حولي يخبرني أنني على قيد الحياة، غير أني أشعر أني خاوية بالكلية. أشعر أني أتحرك في  إطار خارجي دون يتصل ما بداخلي مع الخارج . هل الأمر أني لا أشم أو لا اتذوق أو لا أستشعر ملمس الأشياء. لا أعرف، أنا غير قادرة أن أرى.لا أشعر باللذة أو المتعة في شيء، بل أفتقد الرغبة في أى شيء على الإطلاق".

بعد عدة سنوات وانطلاقًا من تلك الملاحظة، بنى "باسيل فان دير كولك" عمله حول أحد الحالات التي على حد قوله أشعرته بالعجز الشديد حيث ظل يعمل معها طيلة سنوات بالطرق التقليدية للعلاج النفسي، دون أن يصل مسار لتقديم العون لها. يذكر "باسيل" في كتابه- المذكور آنفًا- أنه قضى عدة سنوات مع حالة بعينها تعرضت في البدء لطفولة قاسية من أبوين مدمنين للكحول، وعدد كبير من الأطفال الذي لم يحصلوا على الإشباع الكاف من الرعاية النفسية أو الجسدية تمثل ذلك في قولهم المتكرر لها "لقد تمّ استبدالك في المشفى، نحن غير متأكدين من أنك ابنتنا الحقيقية" يستطرد "باسيل" ذكر الحالة بقوله: "لقد شعرت دومًا أني غير مرغوب بي، حاولت أن أعبر عن عرفاني بالجميل للعائلة بأن أقوم بمهام رعاية الأطفال الأصغر مني، غير أني دومًا شعرتُ أني غير مرئية". يحمل التاريخ النفسي للمرأة ذاتها تعرضها للاغتصاب بطريقة بشعة، غير أنها تمكنت من الفرار من مرتكب الجرم البشع، ومما أخبرت به "باسيل" في أحد جلساتها، أنها فور أن تمكنت من الهرب من مغتصبها، قامت بالاتصال بوالدتها لنجدتها، غير أن الأم لم تأت، واتكأت على جسدها حتى وصلت لمنزلها وقامت بالاتصال بأحد مؤسسات الرعاية. حضرت تلك المراة لتلقي المساعدة النفسية حيث التقت بالطبيب "باسيل"، من جراء تكرار محاولتها إحداث جروح في يديها وساقيها وأجزاء مختلفة من جسدها. لقد تمّ تصنيف حالتها أنها "محاولة فاشلة للانتحار"، غير أنها فيما بعد ذكرت للطبيب "باسيل" أنها لم تحاول إنهاء حياتها قط بل لا تريد ذلك على الإطلاق. كل ما كانت تفعله أنها تحاول إنهاء الألم. كان هناك ألم لا تعرف من أين يأتي، غير أنها تشعر بالارتياح كثيرًا كلما رأت الدم ينزف من أحد الجروح التي تصنعها في يديها وساقيها. أخبر الطبيب "باسيل" بعد حصوله على تاريخ كامل للصدمة من خلال المرأة نفسها أنهما يصلان إلى نقطة ضبابية لا يستطيع تقديم العون لها. كان قد أوشك على أن يعلن تخليه عن الحالة بالكلية، غير أنه خطر له أن يقوم بتقديم جلسة مساج للحالة عبر مساعدة متخصصة. ما أثار دهشته أن مساعدته التي قامت بالمساج للحالة، أخبرته لاحقًا بالرغم من أنها كانت تقوم بتمسيد قدمي المرأة بالفعل إلا أن المرأة ظلت تصرخ "أين أنت؟ أنا لا أراك! انا لا أراك"

لقد أثارت ملاحظة المساعدة حول الحالة الفضول لدى الطبيب "باسيل" ليتحرى كيف يمكن أن يحدث مثل هذا الانفصال الحاد الذي دفع الحالة المذكورة إلى "تجمد حواسها" لبعض الوقت دون ان تدرك هى نفسها ذلك. من خلال عمله اللاحق، وجد ما يمكن الإشارة إلى أن هناك مخزون للألم بالجسد، متى ما تمّ التوصل إليه، قد تطلق ذاكرة الجسد بعضًا من إشارات ومحفزات، كمن يرسل رسالة استغاثة لتحرير ما يقبع في الذاكرة. لم يستطع "باسيل" التوصل لذلك عن طريق المسارات التقليدية في العلاج النفسي، ولذلك كرس جلَ بحثه لتتبع مسارات أخرى موازية ترتبط بالاتصال بالجسد.

هل شعرت أن جسدك محاصر في أنماط بعينها؟

لا يعد الغياب الكامل بالإحساس بالجسد وإلحاق الأذى به هو النمط الوحيد لتقصّي ما يقبع في ذاكرة الجسد من قصص غير مروية، هناك أيضًا نمطًا رصده الطبيب "باسيل" بشكل أكثر دقة ووضوحًا في الجنود الأمريكيين العائدين من الحرب في فيتنام. يظهر هذا النمط بما أسماه الحصار في خيارين وحيدين بغية البقاء، ألا وهما "القتال- الهرب" أو كما تعرف اصطلاحًا Fight- Flight modes. وصنع قياسًا مدهشًا مع تتبع النمط السلوكي لأحد الأرانب في تجربة شهيرة، تتبع من خلالها ما يحدث لأرنب يتعرض للخطر من حيوان آخر. فقد لاحظ أن الأرنب يتخذ وضعية "الميت" أى يتجمد عدة دقائق إيهامًا بموته، ثم ينطلق بعد انقضاء الوقت مسرعًا هربًا بعد أن أبعد عن نفسه الخطر بتلك الحيلة. بتتبع نفس النمط في سلوكيات الجنود الذي نجوا من هول الحرب، وبقياس ما يتم إفرازه في الدماغ، وجد أن الدماغ متى ما تلقى "إشارة" مفادها أن خطرًا محدق فأنه يقوم بتأدية وظيفته وهى المقاومة والبقاء والحفاظ على الحياة، يصدر أوامر سريعة إلى الجسد الذي يعد في تلك اللحظة جنديًا تابعًا ومخلصًا لإشارات العقل. يترجم الجسد تلك الإشارة بأن يقوم بالاستعداد لمواجهة "الخطر" إما باتخاذ وضعية "القتال" يظهر ذلك في حالة الغضب العارم، تدفق الدماء في قبضة اليد، ارتفاع ضغط الدم، حالة استنفار الجسد كمن يستعد لملاكمة خصم ما، أو اتخاذ وضعية "الهرب" ويقوم الجسد بترجمتها بالهرب سريعًا من "مكان الخطر"، تسارع الأنفاس، أو الفرزنة (التجمد) حيث ينفصل بالكلية عمّا يحدث حوله وكأنه لا يرى أو يسمع أو كمن يخدر حواسه بطريقة مؤقتة لكى يحتمل الألم الناجم عن الخوف الشديد. تعد تلك الوضعيتين أحد ديناميكيات العمل المشترك بين الدماغ والجسد للحفاظ على بقاء الإنسان، غير أن ما يحدث أن يعيش الإنسان محاصرًا في ذينك الاختيارين بالرغم من عدم وجود خطر ما، وهنا يصبح ما أسماه "باسيل": أن يصبح جسدك مختطفًا من عقل يتصور الخطر في غير موضعه. أن مثل هذا الحصار في تلك الوضعيتين، يمتص تدفق الحياة من جسد الكائن الحى، يبدو أنه يتنفس، يقوم بمؤشرات الحياة الجسدية، غير أنه في حقيقة الأمر يعاني أشد المعاناة لأنه كمن يعيش دوما على أطراف أصابعه منتظرًا خطر ما أن يلتهمه. لأن الجسد الإنساني غير مصمم لذلك، يصبح عرضة لأن ينهشه أمراض مزمنة سواء جسدية أو نفسية. فالأمر لا يقتصر فقط على التعرض لصدمات عنيفة كما ذكرنا في الفقرة السابقة، وإنما أيضًا أن تشعر أن تدفق الحياة ينساب من بين أصابعك وأنك تتحرك وفق autopilot  دون أن يسمح حدوث فعل الحياة بكليته أن يخترق مسام جسدك أو يمنح العقل برهة ليستريح ويفلت قبضته فوق الجسد وذاكرته المعبأة بانفعالات مخزنة متراكمة لم يتم معالجتها أو إطلاق سراحها بطرق آمنة.

مسارات بديلة لكسر النمط، إيجاد اللحن المفقود بين الجسد والعقل؟

من خلال مختبره قدم "باسيل" عدة مسارات لتحرير الجسد من أنماطه المدمرة، ولمنح من تعرضوا للصدمات بدرجات متفاوتة طيفًا واسعًا من الخيارات التي بإمكانها أن تعيدهم إلى النبع، أو كما أود الإشارة إليه أن تطلق سراح كل ما يقبع مختبئًا في الذاكرة سواء العقل أو ذاكرة الجسد، فتصبح قابلًا لأن تغدو صفحة بيضاء. الأمر ليس سحرًا يمارس أو مفعول وهمي فوري يشعر به أحدهم فور الاستماع إلى محاضرة من محاضرات التنمية البشرية- سيئة السمعة للأسف في بلداننا العربية. تعد مسارات التعافي مسارات طويلة وشاقة وتتطلب التزامًا وثقة في قدرة الجسد أن يجدد ذاته من خلال عمليات الخلق المستمرة وقدرة المرء على الصمود لاستعادة وترميم الذاكرة بشكل كلي يجمع أوركسترا كاملة تسمح بديناميكية متزنة بين العقل والجسد.  استعرض عددًا من تلك المسارات والتي تتخذ لا يمكن التوصل إليها سوى بتوقيع هدنة مصالحة مع الجسد الذي يصحبك في أكثر مسارات الروح تيهًا وكشفًا ووعورة ثم انعتاق كلي.

"حبّي نفسك، حبّ جسمك" ضلالات أم إمكانية لطيفٍ محتمل للتعافي؟

يتردد مؤخرًا عبارة يرددها البعض بحسن نية "حبّي نفسك، حبّي جسمك". في حقيقة الأمر تبدو العبارة مبهمة بعض الشيء، لأن الأمر بمحبة الجسد قد يوحى أن هناك كراهية مبطنة نحوه أيضًا. فيما استعرضنا سابقًا يمكننا القول أن المرء قد يقع في مواطن إيذاء الجسد دون أن يكن واعيًا بذلك بالكلية. تتفاوت درجة الايذاء وخطورته بدءًا بتناول طعام غير صحي ونهاية بإلحاق أذى جسدي مباشر مثل تقطيع الجسد بآلات حادة أو بشكل مراوغ مثل الوقوع في علاقات تتسم بالعنف النفسي أو الجسدي. فكأن من يسلم زمام حياته لتلك الأنماط قد وقّع ضمنيًا على وثيقة غير مرئية مع العالم بأكمله، يرتضي من خلالها أن يحاصر ذاته ويشرنقها في لعب دور الضحية حيث سيقع على كاهله تقبل صنوف الإذلال والإهانة سواء المعلنة أو المستترة. ولذا يأتي دور التقصي الأعمق لما تحمله مثل تلك العبارة التي إن اتبعناها يمكن أن نقترب من بعض المسارات الموازية في التعافي والتي تعتمد على إعادة اكتشاف ذاكرة الجسد، ترميمها، تجديد مسامها لتستقبل الحياة بوعى أعمق. يجدر ذكره أن أيًا من تلك المسارات لا يمكن الاستعانة بها دون الانخراط في برنامج متكامل تحت إشراف طبي للتعافي، فهي تأتي مثل وثيقة ولادة حياة جديدة، تحمل أنماط للتعافي يمكن ترجمتها في ممارسات يومية بالمجاراة مع تلقي الدعم النفسي والمساعدة الطبية وفق رؤية الطبيب المعالج.

تأتي "اليوجا" في مقدمة تلك المسارات. في السنوات الأخيرة ظهرت ممارسة "اليوجا" بشكل لافت في المجتمع المصري. بالرغم مما يؤخذ عليها وممارستها وقد يتطلب ذلك سياقًا آخر لتناوله، إلا أنه يجدر القول أن "اليوجا" تعني أن يصبح "جسدك هو بيتك" أى أن تعيد الاتصال بكل مناطق الاتصال المنفية والمنسية بجسدك بأن تصبح حاضرًا بالكلية داخله، تراقب دون إصدار احكام، تتصل دون إسراع الإيقاع، تتمركز حول ما يشعرك بالراحة والسكينة، تمارس الامتنان لقدرتك على التنفس ذلك الفعل الذي يحدث طيلة الوقت، بل أن بعض ممارسات "اليوجا" قد تصل إلى أداء بعض الطقوس لإرسال صلوات نور وسلام للتخفيف من وطاة العنف بالعالم الخارجي، كما ذكرنا يمكن تناول ذلك في مقالة منفصلة.

اليوجا في جوهرها هى عملية "تفريغ العقل" أو كما هو في الممارسات الروحانية البوذية، عملية ترويض العقل بطريقة تنطوي على قدرٍ كبير من السلام والقبول والشكربما يعيد إليك القوة الأصلية التي تتمكن من خلالها من إعادة توجيه الطاقة في جسدك، التحكم في أنماط عقلك، وفرز ما بها من أفكار مسممة، تتبع تكوّن النمط الذهني في العقل ومن ثمّ كسره أو عكسه، التعرف على المثيرات التي تهيّج الانفعالات المقموعة في ذاكرة الجسد وبالتالي يصبح الطريق أقل ضبابية لتحريرها.

إن عملية التحرير التي تتم من خلال ممارسة "اليوجا" تعيد بعض التوازن المفقود بين إيقاع العقل وقدرته فائقة السرعة على تكوين ارتباطات وأنماط شرطية للسلوك وبين إيقاع الجسد، ذلك التوازن الذي يجعل صاحب الجسد يقف على مسافة آمنة تمكنه من إرسال رسالة إلى عقله وجسده معًا أنه لم يعد "العاجز الضئيل الضحية التي ستقع عليه الأذى" كما حدث وفقًا لتاريخ الصدمة الداخلي.إن الوصول تلك اللحظة التي يقف من خلالها الشخص ليستبصر موضعه الآن وهنا، تحرره من سطوة الماضي، تمنحه قوة منسية كمن يقرر أن أرشيف الذاكرة سواء في العقل أو الجسد ليس الرواية الوحيدة التي سيتخندق داخلها، أو يعيد إنتاج الصدمة مرة تلو الأخرى دون وعى منه، ستعيد إليه جسده كمن يمنحه قبلة الحياة ليعود للحياة مرة أخرى وينفض عن كاهله غبار مقبرة قبع بها عمرًا بأكمله.

***

ثاني تلك المسارات، هى الحركة بإيقاع ضمن مجموعة. في حقيقة الأمر هذا ليس مسارًا حداثيًا فيمكننا الإشارة أن القبائل القديمة كان لديها دومًا شعائر وطقوس جماعية، حيث يؤدي أفراد القبيلة بشكل جماعي حركات معينة، مصحوبة بما يخترعونه من أدوات موسيقية تميز قبيلتهم. تأتي تلك الحركات ضمن طقوس قبلية يتحد من خلالها أفراد القبيلة بغية أمر يجمعهم مثل الترحيب  بانضمام عضو للقبيلة أو صلاة لهطول الأمطار أو درء الأعداء. يعتقد "باسيل" أن الانخراط في الأنشطة التي تنطوي على الموسيقى، تناغم الحركة، التواصل مع مجموعة هى مسارات فعّالة في إعادة هيكلة البنية النفسية بعد ترميمها وتحرير الطاقة المسمومة في ذاكرة الجسد. الأمر أشبه بمن يتعافى من مرض جسدي، فعليه أن يخضع لحمية غذائية معينة لكى يقدم العون لخلايا جسده للتعافي الأسرع، ينطبق ذلك أيضًا على ممارسات تتعلق بالحركة والإيقاع والرقص والعلاج باستخدام الدراما والمسرح. من خلال تجاربه، أظهر "باسيل" أن البيئة الآمنة التي يمكن أن يتحرر عبرها المرء تأتي كلما أضيف عنصر "اللعب" حيث يصبح الوعى  قابلًا التشكيل والتطويع، كما أن الحدة في إصدار الأحكام تكاد تنعدم متى ما استغرق المرء في اللعب ذاته كمتعة. من ناحية أخرى، حركة الجسد دون تتبع نمط معين، قد يكون رقصًا طقسيًا أو عشوائيًا أو ضمن مجموعة يمنح صاحبه قدرًا من الثقة بالذات المفقودة والشجاعة وإعادة ترميم صورة الجسد الشائهة بما يمكنه من استكمال مسارات التعافي بوعى وحضور ورغبة أصدق في الاقتراب من جوهره وليس ما يظن عن نفسه أو ما ألبسته إياه الصدمة النفسية.

وفق لتجارب عدة ومدارس مختلفة في التافي النفسي عبر الاتصال بالجسد، الأمر ليس أن يرقص المرء فحسب، أو أن يخبر نفسه عبارة مجوفة مثل "حبّي نفسك، حبّي جسمك" دون ان يؤسس لبناء نفسي متماسك يشبع احتياجاته ويضعه في موضعه على مسار خارطة شخصية لانعتاق ذاته، ترميمها وولادتها. الأمر في حقيقته يتطلب بل أن يتصل بجسده، أن يعيد الإنصات لما يمليه عليه الجسد فلا تتسع الفجوة أو يقع في فخاخ الانفصال الحاد. الأمر كما شبهه "باسيل" أن يصبح جسدك هو بوصلتك للعبور في كل مناطق الحياة، فلا تقع في فخاخ وهمية من جراء خبرة سابقة فيتولد لديك شعورًا مبالغًا بالخطر، أو تظل حبيسًا لماضٍ بات ضروريًا أن تطلق سراحه لئلا تبقى محاصرًا في ذاكرة الجسد أو ذاكرة العقل وحدهما.

من الصعوبة أن يدرك المرء بمفرده كيف يمكن أن يكون محاصرًا في رواية يرددها عقله المرة تلو الأخرى، أو تمليه عليه تاريخ منسي في أرشيف الجسد، لأن الأمر يختلف بالكلية عن الألم الجسدي الذي يمكن تشخيصه وفق أدوات ومقاييس محكمة. قد تجد أن علامات الحياة تبدو على شخص،غير أنه في حقيقة الأمر ليس سوى جثة متحركة، تخرج قليلًا من قبو المنزل المعتم، تتحرك في الحياة كجثة، تعيد تكرار كافة الأنماط التي تمتص الحياة منها شيئًا فشيئًا، يتضاعف الألم النفسي، يوهن عزيمة المرء، يوشك المرء أن ينهي حياته بالكلية لكى يتوقف ولو قليلًا ما يشعر به بداخله، حتى يتخذ قرارًا بالنجاة وطلب العون فتصبح هناك مسارات وإمكانات وخارطة لولادة جديدة. حينئذٍ، يتحول فعل الحركة والرقص ليس تحريك جسدي فحسب وإنما كمن ينسلخ عن جلده القديم، ويمنح الإذن لأن ينبت بداخله كون آخر أكثر ترحيبًا بالحياة في عمقها وليس بروفة لها.

من ناحية أخرى، لا يقين بالكلية أن كل مسار تناولته المقالة سيؤدي إلى نهاية سعيدة، كما هو الحال في تراث السينما المصرية القديمة، غير أنه يكفي أن تكن نقطة الثبات وسط اللايقين، اليقين باستحقاق الإنسان يوم أن تطأ قدمه الحياة، بل وقبل أن يولد فور تشكله في رحم أمه، استحقاقه أن يلثم من فم الحياة النور واليسر والجمال والوفرة والمتعة والرحابة، ذلك هو اليقين الوحيد المستحق لكل مسار للتجريب والمحاولة والبحث، فالحياة تستحق أن تُعاش بكُليتها، كما يستحق الإنسان نفسه أن يغادر كل قبو معتم ارتضاه لذاته في وقت مضى.

 



[1] Bessel Van Der Kolk: The body Keeps the Score- Brain, Mind and Body in the Healing of Trauma (2014). Penguin: New York