الاثنين، 14 أكتوبر 2019

صحن أزرق

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 248- أكتوبر 2019

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الروائي والشاعر زياد عبد الله

***

صحن أزرق



أتعارك كل يوم مع ثقبٍ يتسع في الذاكرة

أنبش بكفين صغيرتين عن علامات الموت السبع- هكذا أخبرتني أمي

كيف لم ألمح أياً من تلك العلامات،

كيف تفلَّت الأمر من يدي!!

***

تخبرني امرأة في السبعين تعبرني كأشعة زرقاء تخترق صورة مشوشة

ما جدوى المعرفة؟

ما جدوى أن تحمل حقيبتك الخاوية على كتفك؟

تمضي وحيدًا تمارس مراوغتك القديمة في أن ينبت في كل صخرة، لون أخضر.

ما جدوى الركض خلف صافرة قطار لتصل إلى رصيفٍ لا يتلهف لرؤيتك عليه أحد!

***

يتوسط الصحن الأزرق المائدة، ينظر إليك بمغفرة

يغفر لك محاولة ملئه بالفاكهة لئلا تشي به الوحدة.

يبتلع الغضب في ثنايا شروخه اللامرئية لئلا تؤلمك حوافه المدببة

يقترب من باب غرفتك

يستمع إلى نحيبك كل ليلة،

بينما تتجمد أطرافك، ولا حذاء في الزاوية.

يمنحك الصحن الأزرق متسعًا لتفرغ ماء قلبك كله،

يود لو يربت على كتفيك لمرةٍ واحدة

ويغزل حبلًا سريًا فيرضعك الوحشة

فيلملم أشلاؤه،

ويعود متكورًا

عند منتصف المائدة، كما ينبغي أن تبدو الأشياء المنمقة.

***

صبيحة كل يوم، يتوسط الصحن الأزرق المائدة- يودعك بابتسامة حانية

يُفلت يدك

لكى تعاود كرّتك اليومية

أن تنبش عن علامات الموت السبع

تحمل حقيبتك الخاوية على كتفك

تركض مطاردًا – ما لاتود حقاً الإمساك به

تتوقف بين الفينة والأخرى لكى تستبدل قدميك -إذا ما اعتراهما التعب- بغيمتين

تركض بلا التفات لشيء يمضغك على مهل وهو قابع في جوفك

ينتظرك في كل ليلة، أن تدس المفتاح في باب لا يطرقه العابرون.

يود لو يخبرك أن الموت تسلل إلى بيت ٍجدرانه باردة

نسج على غفلة منك خيوطاً رقيقة باللون الأسود

التهمت ما تبقى من صورة قديمة.

***

الصحن الأزرق يتوسط المائدة، كما يجدر بكل الأشياء المنمقة أن تبدو

وقد بات شاهد مقبرة

ليعلن موتاً مؤجلاً

وأن الحزن يتساقط منك تساقط "الجلد" من شاةٍ ذُبحت

لا يضيرها الألم المكدس أسفل المنضدة

فالموت زحف شيئًا فشيئًا

ومنحك علامته السبع كاملة

غير أن أطرافك معلقة على صليب دُقَّ وسط صدرك،

تتخدر ببطء

عبرتك العلامات

دونما انتباه

عبرت الحياة دونما توقف ركضًا في الاتجاه المعاكس

بينما لم يتمهل الموت، سار كدائرة تتكسر في نهر يتدفق حولك

يلمس كل ما تقترب إليه يدك

صرت تطارد سرابًا يحتل زوايا الرؤية الأربع

ريثما توشك الحياة أن تنبت،

تصفعك لعنتك القديمة

فتعيدك حيث تركت يوسف في غياهب البئر

لا يد تمتد إليك

لا صوت يخبرك بالحكمة المؤجلة

لا عينيان حانيتان تنظران إليك

لربما تتلقى تعزية مؤقتة أن ألمك مرئي

لا كلمة تلثم ما يقطر منك،

فتغمض عينيك مطمئنًا أن هناك من سيعيد الحكايا بصوت رحيم

تركض وحيدًا كمن يقبض على الريح بين راحتيه

وما ظننت أن لا طاقة لك به

قد حدث.


الخميس، 3 أكتوبر 2019

المخرج "محمد خان"- سلامٌ على من عبروا بخفة

 مقالة منشورة في مجلة فنون بتاريخ 3 أكتوبر 2019

مجلة "فنون"- هى مجلة مصرية تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتعد من أكثر المجلا رواجًا واستقطابًا لكتّاب مميزين في مصر والعالم العربي.

ظهرت المقال ضمن مقالات العدد (19)تحت عنوان "غرفة تخص المرأة وحدها"، احتفالاً بالإبداع النسوي المصري في كافة فروع الفن.


صورة غلاف مجلة "فنون"- الإبداع النسوي: غرفة تخص المرأة وحدها

سلامٌ على من عبروا ب"خفة" بعد أن "حكوا عنّا"ما لم نخبر أحد قط
قراءة نقدية في فيلم "في شقة مصر الجديدة"
أفيش فيلم- في شقة مصر الجديدة 2007


حين قدم "خان" كادر "تهاني" و هى تقف وحيدة علي رصيف المحطة و بجانبها يافطة كبيرة "القاهرة" تبدو و كأنها توشك أن تبتلعها، كان يطرق طرقاً خفيفاً علي حكايا تشبهنا.... نحن الفتيات القادمات من أشلاء مصر المنسية الباحثات عن صوت ليلى مراد فالتهمتنا القاهرة بموسيقاها الصاخبة للمهرجانات، ابتلعتنا بتهشيم أحلامنا الهشة في معركة غير متكافئة لتكسير عظام لا زالت تبحث عن متكأ في عالم يتحدث عنهن دون أن يتكلف العناء أن يراهن بالفعل.

مشهد للفنانة غادة عادل على محطة القطار- فيلم في شقة مصر الجديدة


    نحن القادمات من عوالمنا المغلقة نمارس فعل الانتظار المتأفف علي أرصفة الحياة، نعود إلى القاهرة التي تصفعنا ب"أول" قلم في وسطها الشهير فندرك مدى صعلوكيتنا و يتفتح وعينا الغض علي الشرو الأذي الذي يمارس بأريحية و بالمجان في العالم...ونئن في صمتٍ لأننا نعرف أننا لانستطيع أن نعود إلى مدينتنا فنروي خيباتنا، ولا نعرف السبيل إلى النجاة في شبكتها العنكبوتية سوى ممارسة مهارة الطفو أكبر قدر ممكن.

نعود إليها- إلى القاهرة- لالنفصح عن سادية أرواحنا والرغبة في تعذيب ذواتنا، بل لأننا صرنا جزءاً من لعنتها كما صورها لنا "خان". صرنا جزء من صخبها، ألمها، خذلانها، دوائرها البشرية المسكونة بهياكل عظيمة لاتمل الدوران في الفراغ والصخب في آنٍ واحد، بل و عفاريتها أيضاً، شققها المسكونة بأرواح قادرة علي الغناء في عتمة الليل، فتوقظ شياطين الروح التواقة إلى معرفة ما وراء الحكايا.

نعود إليها مكرهين تارة، محبين تارة أخرى. نحن فقط نعود فهى جزء من لعنتنا، هى جزء منّا حتى و إن تحولت ليافطةٍ كبيرة تلتهمنا في كلّ مرة. نتخلف فيها عن قطار نتمزق بين محطاته بين ما يتوجب علينا العودة إليه و بين ما نود أن نهرب منه لنكتشف ذواتنا. نعود ونحمل ذات بوصلة الروح التي تستعد في كلّ عودة لأن ترتج عقاربها تيهًا وكشفًا.


إبرة، خيط، و رحم

الفنانة غادة عادل، والفنان خالد أبو النجا- مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

          يحدث أننا حين نستعد للرحيل في أولي طلعاتنا الكشفية لاكتشاف عالم أكبرمن 

عالمنا الضيق يهيء لنا أننا استعددنا تماما لما ينتظرنا. 

حين يسأل البطل البطلة ساخراً "إنتي شايلة إبرة و خيط في شنطتك من المنيا؟"، 

يفتح "خان" عيناً سحرية تنظر داخل ذواتنا نحن الفتيات اللاتي لكي نوحي لمن حولنا ألا

 يقفوا في طريق تخطينا لعتبة الخوف بادعاء أننا مستعدات وحاملات "عدّتنا" كاملة. ينظر إلينا من وراء عدسته السحرية و يضحك من فرط سذاجتنا، فنحن نستطيع أن نحمل بكرة خيطٍ وإبرة للمدينة الكبيرة في نفس ذات الوقت نتيه تماما عن تذكر الشاحن، الحبل السري الذي يربطنا بالحياة التي نهرب منها.

في جمل بسيطة متتابعة تنساب كتدفق نهر لا يجد صخرة واحدة تحول دون الكشف عن

"حكايا" لم نرويها لأحد، يقف "خان" و كأنه رأى و استمع للعديد من حكايانا

بل لعلّه عاش دهرًا في حقائب الرحيل التي نحملها علي أكتافنا، ربت برفق بينما تعلو 

وجهه ضحكة صافية علي سذاجتنا المروعة حيننظن أن لدينا ما نريده من "عِدّة" لمواجهة العالم.

 "أنا اتزغفت!": أن نقع في الحب باختلاف التوقيت المحلي لقاموس اللغة         

الفنانة غادل عادل، والفنان خالد أبو النجا في مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

    بلا أى اصطناع صنع "خان" مساحة آمنة بين البطل و البطلة مهدت لأن يجد الحب 

طريقه إليهما، فقفز بكل خفةٍ فوق أسطورة الحب منذ النظرة الأولى. اعتقنا "خان"

 بتفاصيله الدقيقة من قاموس اللغة أن ندور في قدسية أن الحب حين يأتي تجد قلبك وقد 

انخلع من مطرحه، ففي حدوتة الفيلم الحب يأتي ب"خفة" و بساطة- بساطة الحوار

الكاشف بين اختلاف اللهجات للبطل و البطلة و التي يتخذها البطل مثارًا للسخرية من تلك 

الفتاة الساذجة المزعجة القادمة من أقصى الجنوب لتلقي علي مسامعه "أنا اتزغفت" أو 

تؤكد له  أن هناك "بحرًا" في المنيا أو تنظر إليه نظرة السيدات العجائز العالمات ببواطن 

الأمور "أكيد غارت مني" لتتركه يضحك علي سذاجة الفكرة أنها قد تمثل خطرًا علي 

علاقته بأخرى!

لكن التعويذة انقلبت عليه فأحبها بالفعل بالرغم من سخريته المبطنة منها.

          عَبَرَ"خان" بخفة فوق أسطورة اللقاء الأول،و اعتقنا من قوالب الحب الرتيبة كنا 

ننساب مع أبطال حدوتته بعذوبة دون أن نسأل لماذا وكيف؟ 

كنا نرى الحب و نبتسم له و ندبدب بأرجلنا كأطفال صغار في النهاية حين لم تنتهي 

الحدوتة بنهاية حلوة مش ملتوتة حيث من المفترض أن يصارح البطل فيه البطلة إنه "

بيحبها من زمان" تركنا نستشعر الحب كما يحدث في الواقع، بلا مقدمات، بلانهاية 

واضحة، بلا توقعات. ذلك الحب الذي يجد طريقه للطرق علي نوافذ القلب إذا ما تيقن أنها 

مفتوحة بالفعل لاستقبال صك المحبة.

         

استلام صك المحبة

الفنانتين "عايدة رياض" و"غادل عادل" يرقصن على أنغام أغنية- مشهد من فلم في شقة مصر الجديدة

          نحن ننمو و ننضج في مجتمعاتنا النسائية، فأما المغلقة منها نهرب بعيدًا عنها حين 

تتحول لسياطٍ تجلدنا و توصمنا بنواقصهن وإسقاطتهنّ.نهرب إليها حين تصبح رحمًا آمنًا 

يُعيننا علي تلّقي الوحى فنستعد لما ينتظرنا خارجها. حين نخطو أولى خطواتنا في التمرد علي دائرة النساء الواصمات لانستطيع أن نفعل ذلك دون أن نستبدلها بدائرة نساء تائهات عابرات متمردات أخريات، نتشاطرمعهنّ مخاوفنا التافهة بدءًا من أن تنحشر ثنايا الملابس في مؤخراتنا فنبدو حمقاوات أو مدعاة للسخرية من الاخرين، مرورًا بميلنا الغريزي للتجول بملابسنا الداخلية التي لانتعمد بها الاثارة بقدر ما نمارس حرية مسلوبة في مساحاتنا الآمنة،ونهايةً بهوسنا المرضي من أن يتركنا من نحب، فنبكيه،و نبكي أنفسنا،ونستدعيه بمحاولات انتحار مصطنعة نعلن فيها بلوغ منتهي اليأس، تهشم الذات الكامل وترجوه للعودة، فتتحقق النبوءة و يعود، فنتشارك جميعنا "زغروطة" فرح كانت بالأمس صرخة نحيب و ألم. لانستطيع أن نفعل ذلك دونهنّ، النساء،  السند الفردي المُتخيل في أبلة تهاني التي تعدنا أن كتاب الحواديت لم تكن حدوتته ملتوتة إلي صاحبة السكن و الملاذ و الخبرة التي توصينا بمواصلة غناء لحن الحب، و"سيبي قلبك يبقي دليلك"وحبي دون أن تتقيدي بمحطات قطار الأزمنة.

كيف غزلت كل حكايانا و رويتنا هكذا يا "خان"؟

******

أن تقعي في الحب مع "مش عارف"

الفنان خالد أبو النجا- مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة 

          "يحيى" البطل عاش قصتين حب، أولاهما مع "داليا" التي تقدم نموذج الفتاة التي تؤمن بحريتها وحقها في علاقة مفتوحة مع شريك، لا تطالبه بمسئولة مباشرة سوى أنها تقرر في لحظة ما أن ترتقي بالعلاقة لما تريده حقاً "طفلاً". يفاجئها "يحيى" بارتباكه وحيرته و رسمه لدوائرٍ من الفراغ يبحث فيها عن ذاته دون أن يمنحها معنى واضح ماذا يريد بالفعل؟


الفنانتين مروة حسين وغادل عادل في مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

أما القصة الثانية عاشها مع "نجوى" و التي يبدو أنه أحبها بالفعل بالرغم من استحقار وجودها في حيز حياته في البدء،ولكنه يعود فيرتبك، يكتفي أن يصل بها لمرفأها الأمن و يتركها تمضي دون أن يستبقيها أو يحاول ذلك.

أتخيل كثيراً جزءاً ثانٍ للفيلم، سيبدو مملاً ورتيباً بشكل متعمد ليصف "يحيي" الذي يمارس فعل الحياة من خلال الارتباك و التوحد مع جملته الشهيرة في الفيلم "أنا مش عارف أنا عايز إيه!"


لم يكتف "خان" بنموذج "يحيي" اللي "مش عارف" لكنه من ناحية أخرى قدم لنا الحب 

بزاوية رجالي أخرى لكنه ليس من جيل أصغر. المحبين الوحيدين كانوا ناس فوق 

الخمسين عايشين ع الماضي، واحد عايش علي ذكري مراته اللي ماتت وواحد عايش علي 

ذكري حبيبة محبتهوش بس هو حبها لمدة 10 سنين و لما اتفارقوا بعتلها "فات المعاد

علي شريط كاسيت. فايقاع العنصر الرجالي في قصص الحب في الفيلم ايقاع "ممل" و 

كأنه عايز يقول لربما أن الرجل في حبه مرتبك لدرجة الملل. أو بالأخص حين يكون الرجل "مش عارف" أو حتى لما بيعرف يمارس سرعة خاصة به وحده قادرة أن تفقده فرصة الحب حين تسنح له تارة أخرى كما حدث مع "عيد ميلاد". لربما، لا شيء مؤكد، سوى أنه حدث.

****

 

ولادة!!

الفنانة غادل عادل تحمل وليدًا- مشهد من فيلم في شقة مصر الجديدة

          يأخذك الفيلم لرحلة "نجوى" للقاهرة للبحث عن أبلة تهاني/ رمز الحب، أو لربما هي رحلتها الخاصة أن تكتشف وتختبر تعريفها للحب اللي صدقته من صوت ليلي مراد و هي بتقول أنا قلبي دليلي.
قلب نجوى كان دليلها في المشهد ده، لأنها بكت في لحظة تستوجب الفرح، البكا اللي بيليق بعظمة لحظة ولادة للحياة،هى مرتبتشي تعيشها، هي اتحطت جواها، وبقت جزء منها، فالحياة منحتها سرها المقدس...سر التحول الانساني الهش اللي بيكشفك قصاد روحك بلا أى مقاومة. إن الحياة ذاتها هي المعجزة، السر، الأيقونة، الطفل لما بيتولد بيبكي لأنه بياخد صك الحياة ومعجزتها، وهنا بيسلم الصك ده لتهاني فبتبكي و هي بتتلقف منه السر.

الحياة في لحظتها الهشة الموجعة اللي بتستجلب البكا ليكون أكثر صدقاً من الفرح ذاته، فتقترب عدسة الكاميرا مع عدسة روحك، وتتعرى بفعل هشاشة اللحظة، تتوحد، وتبكي.

          تهاني في مشهد البكا المُصاحب للدهشة، المرافق لمعجزة أنك بتشوف حياة بين إيديك وبتحس بقيمة كلّ الأشياء الصغيرة.البكا أنها لربما كانت حتة منها بتتمني أنها تكون أم، واللي الفيلم مقلناش برضه هي كانت عايزة تبقي أم، وأكيد ده يليق بفتاة في ال 30 لازم بعرف مجتمعها تتجوز أم لا؟و الحقيقة أن كويس ان الفيلم مقلناش علي جزئية الأمومة دي علشان يخلينا نكمل خيال أن رحم الست مش بيتهيأ لمنح الحياة إلا لما هي نفسها تتهيأ لفعل الحب و تلاقي تعويذتها الخاصة بيه.

و لربما علشان "خان" يفضل يدهشنا بمعرفته عن عالم الست في لحظتها الهشة وتأرجحها بين احتياجها انها تكون أم و في نفس الوقت عجزها أنها تحقق ده.

إزاي دخل في رحم "الست" و عري هشاشتها كده؟ لا يوجد سوى تفسير واحد!
أن حبه للحياة اللي أكبر من تصنيف راجل و ست كان كبير ومتصالح لدرجة أن الحياة نفسها ادته سرها، فبقت مية روحه لاقطة كل خفايا الست، الجسد اللي ميشبهوش من بره، لكنه متبحر في عمقه لدرجة مخيفة، و مريحة، و كاشفة.


***

نهاية التعويذة

 

مشهد النهاية في فيلم "أوقات حديثة"- شارلي شابلن

          يسطر "خان" في نهاية حدوتته إلقاء التعويذة علي المشاهدين ليستكمل مشهداً قدمه العظيم شارلي شابلن في فيلم "أوقات حديثة" حين نمضي في نهاية العالم بلا طعام، بلا عمل، بلا سندK حين يعبر الفرح بجانبنا دون أن نكون جزءاً منه،سنعبر فقط، حين يتكأ أحدنا على الآخر، حين لا نكف عن ترديد تعويذة الحب


مشهد النهاية من فيلم "في شقة مصر الجديدة


فسلام علي روحٍ أحبت الحياة فصاغت تعويذتها وروت عنّا حكايانا، فبادلتها الحياةوبادلناهم حُبًا مُضاعفًا.

سلام على من عبروا ب"خفة".

صورة أرشيفية للمخرج المصري محمد خان



السبت، 14 سبتمبر 2019

عقوق الطفل

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 247- سبتمبر 2019

مجلة "أوكسجين" هى مجلة ثقافية نصف شهرة يترأسها الروائي والشاعر زياد عبد الله

***

عقوق الطفل



ماذا أفعل بطفل في السبعين لم يُصنع على عيني؟

لم يتناول طعامه الذي وضعته على المائدة

حين كررت على مسامعه السم الذي تمّ تلقيني إياه:

"اشرب اللبن علشان أحبك"

اتسعت عيناه!

ثم تناول الكوب مني، التقم الثدي البلاستيكي أفرغه دفعةً واحدة

انتظر حتى ارتسمت على وجهي علامة ارتياح مؤقت،

بصق في وجهي كل ما ظننتُ أنني نجحت في حشره في فمه!

ماذا أفعل بطفل في السبعين يصحو كل يوم لا يتذكر البارحة ولا يتذكرني؟

بالأمس سقط مني في طريقنا إلي الحمام المجاور لغرفتي

ساقاه الطويلتان عبثتا بي،

ظننت أنه قادر اليوم على أن يخطو أولى خطواته لاكتشاف العالم

أي عالمٍ ينتظر طفلاً في السبعين يبصق الحليب في وجه أمه المكلومة عليه،

لم يكن هناك عالم ينتظرنا،

كانت الحياة تعيد دورتها من حيث ظننت أنها تنتهي

ماذا أفعل بطفل في السبعين؟

كيف سأقيس نموه هذا الصباح!

هل سأطلب منه أن يقف عند باب المطبخ ويرسل أمراً عسكرياً لجنوده النائمين بعموده الفقري فيقف منتصباً.

أي كرسي سيجعلني أبدو أطول منه؟

ليس لدي حائط يمكننا أن نُعلّق عليه

أزالت أمي كل ما يستدل علينا في البيت الجديد

ماذا أفعل بطفل في السبعين؟

سقط مني البارحة

شُجت رأسه

لازلت أنظر إليه متكوماً داخل المنشفة

في البدء كنت أظن أنني ألده

وأن تلك هي اللحظة التي أمنحه فيها ثدي لكي يتكون رابط أبدي بيننا

أرتبك

تتشوش الرؤيا

فلا ممرضات يحملن إليّ الخبر السعيد

ولا طفل تمنحني عيناه سكينة وأرضاً أتجذر بها.

تأتي النجدة

يتم توجيه أصابع الاتهام نحوي

لا أصلح أن أكون أماً

أنظر إلى إصبع يستطيل ويكشف أسوأ مخاوفي

لربما لن أكون أماً قط

أرتبك

انتزعوه مني

أودعوه أحد مؤسسات الرعاية

في ليلة الغياب الأولي

كان السرير يتسع لشخصين

نمت على الجانب الأيمن كما أحب

لأتمكن من النظر إليه على الجانب الآخر

لم يكن هناك سوى بقايا حليب

يذكرني بأنه تقيأ محبتي

وفراغاً يتسع

أحاول أن أحجّمه بحائط قديم

يحمل علامات نمو لطفلين

أحدهما في الثامنة

على باب مطبخ قديم

بينما أقف عارية الثديين

أتحسس إمكانية تدفق الحليب تارة أخرى

لربما سيعيدونه إليّ في الصباح

سأواجهه بندرة الحليب

ويمكننا تناول شيء آخر

وليكن بعضاً من الحياة على سبيل الرغبة

سأخبره بتساقطي تعباً

إذ أنهكتني الحيل

وعيناي  ابيضتا حزنًا

وأني لا أعلم كيف أكون أماً لطفلٍ في السبعين

وأني لست غاضبة

وأني- رغم كل شيء- أحبه.

الثلاثاء، 23 يوليو 2019

"بليغ" العائد، ليحكي عن "طلال": قراءة في رواية "بليغ" للكاتب "طلال فيصل"

 مقالة منشورة في مجلة عالم الكتاب العدد 34، 23 يولية 2019.

مجلة عالم الكتاب، مجلة شهرية ثقافية تصدر عن لهيئة المصريّة العامة للكتاب ووزارة الثقافة المصريّة.

تتناول المقالة مراجعة نقدّية لرواية "بليغ" للكاتب المصري، طلال فيصل. تعتمد المقالة على تضفير علم النفس مع النقد الأدبي في تتبع مسار كل من الروائي وكذلك الموسيقار المصري الأشهر "بليغ حمدي".

صورة أرشيفية للملحن المصري "بليغ حمدي"


يطالعك اسم الرواية المكون من كلمة واحدة تتصدر غلافاً دموياً يحتل خلفيته عوداً، فتؤهب عقلك أنك علي وشك قراءة سيرة ذاتية عن موسيقار المتعة الخالصة "بليغ حمدي"، بل قد تجد نفسك تهمهم بأحد الألحان المميزة لذلك الموسيقار الذي جُنّ بالموسيقي و جنت به. يصفعك طلال في بداية الرواية بأنه يحدثك عن نفسه، ويوفر عليك عناء القياس والتخيل و المقاربة و المقارنة حين يذكر للقاريء صراحة  اسم بطل الرواية وهو في حقيقة الأمر"طلال فيصل" حين يحاول أن يجد في الكتابة ملاذاً آمناً كمحاولة للفرار من ألم مُلّح مغروس في أبعد نقطة في أعماقه. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، في بداية الراوية ذاتها يوفر علي القاريء أيضاّ محاولة غربلة و لضم الخيوط الدرامية للرواية بقوله :

"حكايتي معقدة و مبنية على ثلاث خطوط متوازية، أولها سيرة موسيقار موهوب أدرك سر الحياة والنغمة الحلوة و النسوان فابتهج  وأبهجنا معه،وثانيهما حدوتة فتى غر غادر بلاده هرباً أو عشقاً أو كليهما، فانتهي مكلبشاً في مصحة في قلب باريس، وثالثهما سيرة الهرب من الهوس و الحزن بمطاردة نغمة حائرة ومحاولة تحليلها في صحبة موسيقار مغربي مديوكر، غير موهوب، ولا قيمة فعلية له في الحكاية" (ص:35)

يبدو طلال "الكاتب"- و ليس طلال بطل الرواية- صادقاً فيما رواه عن روايته، حيث بالفعل قسمها إلى ثلاث أقسام غير متساوية، قسمٌ يحتل ما يقرب من مائتي صفحة يروي و يتداخل فيها بين "طلال" و "بليغ" يفتح مسام كلٍ منهما بمشرط جراح ماهر ليصنع ممرات سرية تتيح ل"طلال" أن يبني جسراً نحو التعافي من قصة حب تبدو وأنها أطفأت روحه، من ناحية أخرى تسلط الضوء علي موسيقار ملأ الدنيا ضجة وإيقاعاً وحباً وتمرداً فصبت عليه نفس الدنيا قدراً لابأس به من اللعنة بقدر ما منحته من نعيمها. ثم ينطلق طلال- الكاتب- كمن يتذكر أنه لم يوثق أو يدون بالقدر الكافي عن حياة هذا الموسيقار العبقري فيفرد ما يقرب من مائة صفحة عبارة عن أوراق وقصائص وخطابات يتم الإشارة إليها أنه تمّ العثور عليها في نوتات خاصة بالموسيقار دون وجود أي صورة فوتوغرافية من خط يده. ثم ينتهي بتخصيص عدد ورقات تتطاير في نهاية الرواية عن الموسيقي المغربي كما ذكر آنفاً والذي يراه بلا تأثير حقيقي في مجرى أحداث الرواية سوي أن يلعب دور مساعد المخرج الذي يساعده علي تظبيط الكادر لكي تضع عدسة المخرج نهاية للفيلم.


في بداية قراءتي للرواية التي استغرقت مني يومًاً متواصلًا، كنتُ أسير علي ما رسمه "طلال" من مساراتٍ ثلاث للقارىء ليتحرك من خلالها، ثم وجدتني أتمرد علي خطوطه المستقيمة المتوازية و أنبش بأظافري في طبقات أخرى من الوعي أو لنقل اللاوعي الذي تمّ طرحه من خلال تلك المسارات التي تبدو علي السطح محاولة سردية لسيرة ذاتية سواء لموسيقار أو شاب فقد إيقاعه و يجاهد لأن يتزن.

(1)

رأيتُ أن الرواية تتحرك في مسارات ثلاث بالفعل، لكنها ليست مسارات الشخصيات الثلاث بقدر ما هي مسارات الهشاشة الإنسانية ومراحلها: التعري الكامل، التفكيك لكل ما حدث، التقبُّل لما حدث، المضي في الحياة حاملين ندبة لايراها سوانا بلاإنكار بلامقاومة ثم منحها الوقت الذي تتطلبه كي تلتئم. مرحلة التعرّي الكامل: يمنحنا الكاتب تفاصيلًا قد تتقاطع مع حياته ذاتها وهذا أمر يتطلب قدرًا هائلًا من الشجاعة، ذلك القدر من الشجاعة التي تتيح لصاحبها ألا يكترث بآراء الآخرين، وألا يبدو أمامهم أنه صاحب أسطورة وموهبة فذة و كأنه يعمد إلى تكسير صنم "صورته المثالية" التي صنعها عنه الآخرون لينعتق، فتجده صادقًا حد الصدمة ليس في استخدام تفاصيل عن عائلته بقدر ما يصفعك حين تصبح أول جملة علي لسان بطل الرواية 

"كسم الحب يا دكتور...كسم الحب".

يستطيع أيضًا أن يكون كاذبًا ويدّعي بطولاتٍ وهمية تتعلق بما حدث في وقت ثورة يناير، فلازلنا حتى هذه اللحظة ننظر في أعين من حولنا وهم يتحولون إلي قاصّين علي ربابة عن بطولاتهم الجسيمة وقت الاشتباكات الثورية فنتركهم يسترسلون ونحن نعلم أننا بصدد هبّة هرمونية ثورية ستذهب إلى حال سبيلها ثم سنتفرغ جميعاً لتجرع الهزيمة كلٌ علي شاكلته. يحرمك الكاتب من أن تعيش أحد تلك الهبات الهرمونية بقوله في منتهي البساطة والصدق و الرغبة في الانعتاق من وهم البطولة أنه وقت الثورة كان مشغولاً بفض عذريته مع فتاة فرنسية ساقها الشبق إلي الشرق.

يتعرّى الكاتب كلية بُغية أن يمنح صوتاً لألمه، فهو يريد أن يكتب كما يرى لاكما يُمليه عليه الموقف أو الحالة يتضح ذلك جلياً حين خاطب نفسه هل يُشبع نهم أبناء جيله في أرض الوطن بالكتابة عن مآثر فرنسا أم يكتب لهم بكل صدق عن وجعه و ألمه؟! أيّاً ما يكون مونولجه الداخلي قبل أن يسطر سرديته، فاعتقد أنه اختار أكثر الطرق إثارة للصدمة التعري الكامل، ولكنها من ناحية أخرى أكثر الطرق أيضا قرباً للتعافي.

(2)

حين يملك المرء قدراً من الشجاعة الكافية لأن يطرح ما يراه كما هو دون أن يُضفي عليه ما هو زائف و دون أن يُجمّل واقعاً قبيحاً، ستكون هناك لا شك قوة ستجد طريقها لأن تشيرإلي بوابة الخروج من دائرة الألم. ذلك أن الطرح الشجاع لما يحدث في كل كادر يتيح لك أن تمارس مهارة تفكيك الحدث فتتضاءل الأشياء ويتقزم الأشخاص ممن يعتاشون على صنع هالات الوهم وتنكسر الكثير جداً من الأصنام وينسحب البساط من تحت قدسية بعض المفاهيم. في مرحلة التفكيك يمنحنا الكاتب تفكيكاً لما يحدث في الثورة، تفكيكاً للشعب المصري "العلق"، تفكيكًا للهزيمة وإعادة تدويرها في مشاهد متفرقة من الثورة. يحمل ذات القدرة علي التفكيك بشكل متوازي ليفكك لماذا صعد نجم الموسيقار "بليغ" ثم يبذل جهدًا واضحًا في معرفة المقامات الموسيقية وتفكيكها و تحليلها و ربطها بهوية الموسيقار العبقري، لكنه لا ينسي في ذات الوقت أن يمارس لعبة التفكيك في هزيمة تجرعها جيل الموسيقار أيضًا وهي الهزيمة الوطنية الكبري وكيف تعامل معها الموسيقار بقدر كافٍ من الاستخفاف لكل ما ترمز إليه تلك المرحلة نفس القدر من الاستخفاف الذي يري به كل ما لحق بالثورة المصرية في يناير من هزائم وأحداث و مفارقات.

في مرحلة التفكيك، يميل المرء إلى إلقاء أحجار في كل مياه راكدة من دين أو أسرة أو مؤسسة أو وطن يفرض عليه حالة اغتراب قسري. أظن- بقراءتي المتواضعة- أن الكاتب هنا فعل كل ذلك و مارس تفكيكًا بمستويات مختلفة لكل مسار من تلك المسارات. يظهر ذلك جلياً في مقولته:

"رعشتك لحظة القذف لا تعني أن العلاقة ناجحة، تنحي مبارك لا يعني أن النظام سقط، صلابة الإخوان المسلمين،و جرح أبي وسط من جرحوا في موقعة الجمل، لايعني أنهم ليسوا ولاد وسخة، وتخرجي من حقوق فرنساوي لا يعني أني أجيد الفرنسية، بكاء مارييل في النافذة يومها لايعني أنها تحبني، حصولي علي منحة كتابة لا يعني أنني كاتب، وصفوف المصلين الباكين لا تعني أن الله موجود، وخلود أسطورة بليغ حمدي لا يعني أن كل أغانيه عظيمة...فاسمع منّي و عنّي،و تذكر أنّ الفتى الذي نشأ في طاعة الله دخل جامعة القاهرة،و بدأ كل شيء، فتدبّر". 

(ص: 36)


غير أن الكاتب عمد إلى إظهار بطل روايته ك"ملحد" في صورة ساذجة أقرب لما يتم التهكم عليه في أحد مراحل الموجة الثورية ب"الملحدين الجدد" و هم طائفة ممن نبذوا اختيار الدين، فتجدهم يحشرون حشرًا في كل جملهم مقولة "آه بس أنا ملحد". يحاول أن يغلف تلك السذاجة بمقولة مقتبسة:

"ثمة شيء مشترك بين الله والحب: الجميع يتكلم عنه  لم يره"

لكنه يتأرجح فيما لم يتم توظيفه بشكل حقيقي أو أقرب للتصديق بذكر الإلحاد بشكل مباشر. لا أرى ذلك شجاعة، هو أقرب لقراءتي الشخصية بمن خرج حديثاً من "عتمة" حتى وإن كانت "دين" وحين وجد نفسه فيما رأته عيناه "نور" قعد يصيح ويسيح ويقول "هيييييييه، أنا بقيت كذا ...شفتوني و أنا كذا" لربما تلك هي العثرة الوحيدة من وجهة نظري فيما يتعلق بالرواية في مرحلة التفكيك. من ناحية أخرى أسرف علينا الكاتب في استخدام الآيات القرآنية في سرد الأحداث، يبدوذلك منطقياً للغاية حيث يعلق بالذاكرة أكثر سحر لاتستطيع الخلاص منه حتى وإن حاولت ويتفق مع نشأته الدينية وحفظه القرآن في سنٍ مبكرة. أعجبني الظهور المبعثر لل"خضر" كانت محاولة/ ات غير مكتملة للبحث عن الخلاص أو لإيجاد إجابات لأسئلة قطع عليها الطريق مبكرأ بقوله أنه ما توجب على "موسي" أو طلال أن يطرح أي سؤال من البداية.

في الجزء الخاص بسيرة الشاب الغر الذي غادر بلاده تجد الجمل قصيرة متلاحقة، يبدو وأن الكاتب ينهج في روايتها لأنه يريد أن يلقي علي قارئه قولاً ثقيلاً لكي يستريح، تتأرجح لغته بين استخدام العامية واستخدام اللغة المعاصرة حيث يتم استخدام كلمات بالإنجليزية و دمجها مع السياق دون أن يخل ذلك بالنص، وبين التأرجح المحسوب تماماً من استخدام آيات قرآنية ومقاطع من كلمات أغنيات شهيرة في مسيرة الموسيقار، كلاهما كان السياق السحري الذي تولدت من خلاله مأساة البطل والموسيقارمعاً.

(3)

لماذا بليغ؟

يُعلل الكاتب نفسه اختيار سيرة حياة الموسيقار بليغ حمدي بقوله:

"البرنس في ذات نفسه"،

ثم يمضي مسترسلًا:

"هل تعرف يا سليمان لمذا يحب المصريون بليغ حمدي؟ أقول أنا لك، لأنه- نجح في تحقيق المعادلة التي يحلم بها كل مصري بتحقيقها، أن يعيش علي مزاجه، ثم في الوقت ذاته يحقق الأسطورة و النجاح والخلود! كيف تكون علقاً وناجحاً في الوقت نفسه، كان تعبيراً مثالياً عن الرجل الذي ترك نفسه تماماً لما يريد، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ رجل محترم و فل الفل، ينبسط و يقضي حياة لطيفة، يشرب وقتما يريد، يسافر، يلحن، دون ارتباط لا بمشروع ولا قيمة ولا معني كبير، يتزوج صباحاَ و يطلق مساءاً و يلحن حين يطيب له اللعب بالعود". 

(ص:  74)

هذا ما ذكره الكاتب نفسه، ولكني أرى أن البعض يختار نموذجاً أبعد ما يكون عن شخصيته ليتوحد معه في محاولة للتخلص من عباءته القديمة، لذا فإنه ينسج خيوطاً غير مرئية مع عباءة جديدة، وكأنه يربت علي كتفه قائلاً :"في حياةٍ أخرى كنت سأصبح بليغاً...كنت سأصبح برنساً في نفسي" وهذا يمنح الطمأنينة بعض الوقت لكنه قد يمنح أيضاَ قدرًا متوقعاً من التيه حين نرتضي أن نتوحد مع من لايتشابكون معنا بعمق في جذورنا الأصيلة.

(4)

مرحلة التماهي مع الندبة:

يختتم الكاتب روايته، بمرحلة أشبه  بأن تسير حاملًا ندبتك في ظهرك دون أن تحاول إخفاؤها، تعد لها متكئًا وتمنحها ما تتطلبه من وقت لكي تلتئم. حين نتلقي الصفعة في بداية الأمر نطرح كثيراً من التساؤلات، ظانين أننا سنجد الشفاء في الإجابة. وضع الكاتب سؤالاً يلخص عمق ألم بطل روايته علي لسان "بليغ" بقوله:

"هل أنا كفاية؟" 

و يمضي كالمذهول من حالة الخواء الذي يعتصر قلبه يتردد كبندول يتحرك من أقصي اليمين إلي إلي أقصي اليسار، ويطرق بعنف علي كل ما حدث في زمنٍ ما كشريط لفيلم سينمائي. يؤطر حيرته تارة على لسان البطل وتارة علي لسان "بليغ" بقوله:

"عندما نحب أحداً فإننا نحب البقاء معه، النظر إليه، الاستماع لصوته. نتكلم معه، عنه، ليس عن العمل ولا الألحان ولا إيرادات الأسطوانات ولا المشاريع القادمة.

 عندما نحب أحداً نبقي معه للأبد، وعندما نحب أحداً نتمني أن يكون لنا منه أطفال.

 ثمرة لهذا الحب الصادق!

عندما نحب أحداً لا نجهض نفسنا مرتين

كأننا لا نريد رابطاً أبدياً بيننا وبينه!

هل أنا كفاية؟ " 

(ص: 317)


لكنه يستدعي الخضر تارة أخرى حين يقطع على نفسه الطريق بقوله "هذا سؤال لا أريد معرفة إجابته أبداً".

كان يمكن للكاتب أن ينهي سرديته سواء عن بطله الأول "طلال فيصل" أو بطله الثاني "بليغ" بتلك الجملة الموحية. المعرفة ستصبح لعنة تلاحقنا، لكنه آثر الخروج الآمن من السردية بإدعاء حكمة أطباء النفس المحللين للنفس البشرية بقوله مخاطباً سليمان الموسيقار المغربي:

"إن ما حدث لي و لك مجرد عرض لمشكلة أصيلة كامنة فينا.

ربما نكون قد أحببنا بطريقة ليس في وسع امرأة احتمالها، وربما تمّ استغلالنا بقصد أو بغير قصد، غير أن العلة والاستعداد لكل هذا كانت موجودة فينا قبل أي شيء، وكل ما حدث هو مجرد إشارة لهذا الاستعداد". 

(ص: 337)

(5)

لا أميل في المقالة الحالية إلى تصنيف أو مقارنة تجربة الكتابة لدى "طلال فيصل" في "بليغ" مع أعماله السابقة وبخاصة "سرور" أو ترجمته المتميزة ل"جنون المتاهة"، لكني أود الإشارة إلى النسيج الإنساني الهش الذي قدمه الكاتب من خلال "بليغ"  تلك  المحاولة الإنسانية الهشة للغاية التي تتلمس طريقها لفهم ذاتها، تحمل عبئًا إضافيًا في تحويل كل الحواف الحادة لشظايا الروح إلي حوافٍ أقل حدة لكي يسهل علي صاحبها أن يُعّشقها ويصنع منها موازييك هو وحده يعرف جيداً قيمة كل قطعة فيه. هي محاولة إنسانية تأخذك معها و ترى فيها بعضاّ منك، وبخاصة في محاولة للتعافِ من ندبة، فتدبّر.