الأحد، 14 يونيو 2020

ما الذي يمكن أن تفعله "العزلة" بعقلك؟ سبعون يومًا، عشرة فخاخ!

 ما الذي يمكن أن تفعله «العزلة» بعقلك؟

سبعون يومًا- عشرة فخاخ!

مقالة منشورة في مجلة "فنون" للثقافة والآداب- مصر.

عدد 28- يونية 2020


في 11 أبريل الماضي، أعلن الروائي المغربي الطاهر بن جلون شفاؤه من مرض الكورونا. لم يشارك بخبر إصابته في المقام الأول أسرته أو وسائل الإعلام، اكتفى بأن ارتضى لنفسه فور علمه بإصابته بالحجر الاختياري في منزله لمدة أسبوعين، وفور تعافيه خرج  معلنًا خبر شفاؤه، وليس ذلك فحسب بل حمل بين يديه ما أسماه «رسالة إلى الصديق البعيد» باللغة الفرنسية والتي تؤرخ لتجربة العزلة والمرض وكيف -على حد قوله- «صارع المرض بالمخيلة»:

"عزلتُ نفسي في البيت، لم أخرج بتاتاً، لم أر أحداً، ورحت أنتظر. اتصلت بأصدقائنا المشتركين لأعلمهم بأن العيد، كل الأعياد أجّلت. عشت أوقاتاً من العزلة الشديدة، وخلالها حاولت جاهداً ألا أرى صورتي في المستقبل. لكنني تمكنت عبر المثابرة، من أن أتعلق بالفرح، بفكرة السعادة، بالأوقات الرائعة التي حملتنا نحو صداقة جميلة»[1].

لم أصب بالكورونا- أو لأكن أكثر دقة- لا أعرف أنا فقط أتعايش كما يفعل الجميع محتفظين  برصيد إضافي من الجهل المُتعمد بكل ما يمكنه أن يخلخل الحياة التي عرفناها يومًا. تحملني المخيلة -أيضًا- لالتقاط طرف الخيط من الطاهر بن جلون أراه يقف على الضفة الأخرى يخبرني و«الصديق البعيد» ما الذي تعنيه العزلة وفقدان الحياة التي عرفناها من قبل، والرغبة في تخليق الأمل من العدم. الآن بعد مرور ما يزيد عن سبعين يومًا من العزلة الاختيارية التي بدأتها في 15 مارس، يمكنني أن أروي «فخاخ العزلة» ويوميات مراوغتها. لا صديق متخيل لي -كالطاهر- ستصله رسائلي، ويكتب لي بالمثل، غير أن العزلة وضعتني وجهًا لوجه في مواجهة مخاوفي، أقساها وأقصاها واختبار الفقد بمنحدراته المختلفة، ألم تفعل بنا جميعًا ذلك!

 


فخ 1: كل هذا لم يحدث!!

يخبرنا علم النفس أن المرء حين يتعرض إلى ما يفوق قدرة جهازه النفسي على الاستيعاب يمر بمراحل يطلقون عليها متتالية الحزن، تبدأ بالإنكار الشديد لما حدث حيث يتحول العقل بكل ما يملكه من ميكانيزمات وحيل إلى العمل بطاقة عشرين مصنعًا لكى يمنحك عددًا لا نهائيًا من السرديات التي تدور جميعها حول حبكة واحدة «أن ما حدث لم يحدث»، أو ما يسمى بالإنكار بالكلية لكل ما حدث. الآن بعد مرور ما يزيد عن سبعين يومًا على عزلتي الاختيارية، أستطيع مشاركة بعض مما حدث بداخل سرداقات عقلي، ممرات روحي التي تكشفت في العزلة، أضعها دون أن أصفها، أسكبها فوق الورق لأصنع ممرًا نحو تكريم كل محاولة للبقاء حتى وإن اتسمت بأذيال المراوغة، غير أنها أبقتني هنا لبعض الوقت.

 في 17 مارس أى بعد مرور "يومين" على بدء رحلة العزلة، يبدو أن ممرات عقلي قادتني نحو الوقوف على مسافة آمنة أتأمل كل ما يحدث خارجي. لم أستطع أن أتجاوز ذعرًا يتدفق في عروق البشر وأشم رائحته يتسرب من أسفل باب منزلي المغلق بإحكام. لذتُ بالكتابة لأحمل طمأنينة لخوفٍ طبيعي بداخلي، خوف من شىء لا يستطيع أحد التكهن به أو توصيفه، شيء يشعرنا بتقزمنا الإنساني أمام ما يفوقنا من أهوال، شىء يعيدنا إلى نقطة ظننا أننا تجاوزناها بفعل الحضارة والعلم وإدعاء الفهم. كان هناك أيضًا خوف أن أصبح مثل «الآخرين»، أمضي مذعورة في الشارع أكدس البضائع، أتمترس في منزلي خلف عبوات اللبن والدقيق، أتوحش في صمت. كتبت النص التالي لأبدأ أولى خطوات «التباعد» عن وعي جمعي اتسم بالذعر والتوحش. 

مكث الناس في المنازل
أحضروا فرشاة الألوان،

وصفحات بيضاء بحجم بناية من تسع طوابق
حرصوا أن يغطوا كافة المساحة البيضاء
ثمة خوف أن تبقى الصفحة خاوية
لملموا أطراف الخوف الأربعة،

ثم تعلموا أن يُلبسوها لون فاقع يطلقون عليه «بهجة»!

 مكث الناس في المنازل،

خلف الجدران العالية
تسمع صوت الأقدام الراقصة فوق نهر الخوف
تربت بخفة على أكتاف طفلٍ،
يبكي مذعورًا من وحش يرقد بين دفتى العالم
يراوغ النوم
غير أن لا أحد هناك يتلو على مسامعه قصة من كتاب قديم
يتعلم المرة تلو الأخرى أن يرسم بطرف أصبعه بابًا في سقف الغرفة
يدلف منه كل ليلة لعالمٍ تحطه الأشجار من كل صوب
بينما تبتسم في وجهه
وتخبره أنه بخير
وأنه يمكنه أن يخلد للنوم الآن.

 مكث الناس في المنازل

يحشرون الطعام في أفواههم حشرًا
لكي يصمت الخوف الذي يكركر في معدتهم منذ البارحة
مكث الناس في المنازل
ثم التهمتهم الوحشة
رأوا انعكاس الظل على الحائط في غرفة معتمة
مدوا أصابعهم لإلقاء التحية
أصبحوا أصدقاء لظلالٍ لم يروها من قبل
تعلموا أن الظل لا يحمل خنجرًا
وأن الخوف المعبأ في دولايب المطبخ
سينتهي
ولربما آن الوقت لإطلاق سراحه
فالخوف أيضًا يشعر بالوحشة
ولربما الخوف أيضًا يشعر بالخوف !

مقتطف من نص "مكث الناس في المنازل"- كُتب بعد يومين من العزلة

*****

 


فخ 2: العالم بالخارج يحتاج ل "ضبط" و"سيطرة" !!

 

لم تمنحني الكتابة فقط مرفأ آمنًا للاختباء من ذعر يتكدس في الوجوه وفي نشرات الأخبار، بل منحتني موضعًا لقدم بينما يتسم كل شيء حولي بالسيولة وفقدان السيطرة. استدعيت صوت يتأرجح بين أمومة مفرطة ترغب في وضع الأشياء دومًا في نصابها ورغبة عارمة في إنقاذ العالم وتهدئة روعه، وبين باحثة ترفض أن تردد ما يتواتر من أنباء دون فرزها وتحليلها وأرشفتها.

 انهمكت بالكلية في الكتابة، تسابقت مع الوقت والخواء الذي بدأ في التسرب بداخلي، كنت أحشو فمه بالكلمات، أرصها رصًا لأسكت صوتًا يهمس برفق بداخلي، هل أشعر بالخوف؟ من ماذا؟

 فخ 3: ألعاب ومراوغة!

         أخبر المحرر أني بصدد استكمال مقالاتي التي أوثق بها الجائحة، بمقالٍ جديد عن الكورونا والعزلة.  يشير إلىّ المحرر- كعادته- بمشاركة الفكرة في البداية وتوضيح مسارها لكى يتم البناء عليها. أخبره في رسالة صوتية عبر الواتس أب - تمتد لما يزيد عن الخمس دقائق- حول المعنى اللغوي لل"عزلة"، أكدس الفكرة وراء الأخرى في مظاهرة افتراضية تتقافز فيها الأفكار وتتزاحم الواحدة تلو الأخرى حول توصيف العزلة من منظور علم النفس، ثم ما تمّ تناوله عبر العالم حول الوحدة والعزلة، إلحاق بعض المراجع الخاصة بعلم النفس الإكلينيكي ثم علم نفس اضطراب ما بعد الصدمة، وأدلف سريعًا نحو علم الاجتماع أيضًا. ألتقط أنفاسي، ثم أباغته بفكرة جديدة، عن الفرق الجوهري بين "الوحشة"، "الوحدة"، و"العزلة"، أشير بأصبعي- بينما لا يراني- إلى صورٍ التقطها المصورين حول العالم أوثق بها معانٍ مختلفة للعزلة.. أخبره بأني بدأت بالفعل في التواصل مع صديق يعيش بالمملكة المتحدة، يروي تجربة العزلة/ العزل مع ابنه المصاب بالتوحد، تلك أحد اهتماماتي في التعليم التي أود استكشافها لاحقًا. أذيل المحادثة بخطابٍ حماسي وقفزة مباغتة نحو منح معنى نضالي للعزلة بقولي "وآه طبعًا العزلة هتخلينا نكتب عن السجن، وعن الحياة داخل السجون". أصمت ثوانٍ، أتذكر خلالها خبر وفاة فادي حبش في الأسبوع المنصرم، أشعر بالتضاؤل أمام نفسي، كيف يمكنني أن أكتب ذلك! كيف يمكن الاقتراب من تلك المنطقة شديدة الإيلام والعجز وقلة الحيلة! أتراجع سريعًا بقولي "بس أنا مش هقدر أكتب عن السجن". 

تنتهي الرسالة الصوتية - أو للدقة- البيان الذي ألقيته على مسامع المحرر! يأتيني صوته هادئًا بقوله: "هى الفكرة مش ممسوكة، بس خلينا نكتشفها، يلا بينا". أفرح كطفلة أخبرها أحدهم للتو أنها ذاهبة للملاهي، أخبره بنبرة حماسية تعلمتها من التجريب في المسرح "ايوااااا يلا بينااااا". تنتهي المحادثة الافتراضية. أشمر عن ساعدي استعد لكتابة ما تمّ الاتفاق عليه.

فخ# 4: منحدر!

ابدأ في مساري المعتاد في بناء المقالة، بانفجارٍ كوني في رأسي للأفكار، أصبها صبًا فوق الصفحات البيضاء، انتقل في سرعة إلى تأطير الأفكار بما جمعته من مراجع علمية. اطمئن أن المقالة تسير وفق ما هو مخطط لها تمامًا. يمر اليوم تلو الآخر، شىء يخبرني أني أحيد عن المسار. بالرغم من أن الأفكار تتقافز من هنا وهناك، يمكنني إلصاق الواحدة بجوار الأخرى ليبدو "ترقيعًا"، أو لأخبر نفسي بقليل من الإيجابية المتبقية في رصيدي "موزاييك"...! المقالة ستبدو مثل لوحة موزاييك. غير أني لازلتُ استمع لصوت يهمس بداخلي "إنتي متأكدة عايزة ترصي الرصة دي؟".

كل شىء يتوقف. يمر الوقت، "اللوحة" التي أخبرتُ نفسي بها لا تبدو أنها توشك على الاكتمال ولو قيد أنملة. ثمة شيء يتعاظم بداخله يراوغني ولا يمكنني الإمساك به. علمتُ حينئذ أني لا أستطيع أن أكتب عن "العزلة" لأني اختبرها. أقبع في الداخل لا أشاهدها كلوحةٍ مُعلقة على جدران متحف متخيل. محاولتي للالتفاف حولها بأن أصنع مسافة "أخبر بها عنها" دون أن أتكشفها بداخلي ستبدو بالفعل "ترقيعًا". يعلو الصوت مجلجلًا: "بلا موزاييك، بلا رومانسية فاضية، امشي ورايا".

اليوم استسلمت لما يتحرك بداخلي، أن أشعر ب"العزلة"، اختبر هذا الشعور بحدته وقسوته لربما للمرة الأولى، التي تصبح فيها عزلتي جبرية. أستعيد إلى ذاكرتي "العزلة" كما وصفتها "هيلين كيلر" في مذكراتها يومًا بقولها:

فلأكتب إذن عن "شعوري" بالعزلة أو كما أود أن أسميها "وَحشَتي" وكيف تكشفت لي في يوميات العزلة.

فخ# 5: الهروب للداخل!

أخبرت نفسي أن العزلة فرصة ذهبية لقراءة كل تلك الكتب التي تطل برأسها معاتبة في "نيش خشبي" حملته معي منزلي بالقاهرة، لربما سأخبر قصته في مكان آخر. التقط رواية "الخوف من الموت" لإريكا يونغ، يمنحني الغوص في القراءة مسافة آمنة، ثم أتوقف عند قولها على لسان البطلة:

"هل نتمسك بآبائنا وأمهاتنا، ام أننا نتمسك بوضعنا ونحن أطفال منيعون ضد الموت؟ أعتقد أننا نتمسك بقوة تزداد باطراد بوضعنا ونحن أطفال. في المستشفى ترين أطفالًا آخرين- أطفالًا في الخمسين، والستين، والسبعين- يتشبثون بآبائهم وأمهاتهم الذين في الثمانين والتسعين، والمائة. هل هذا التشبث كله حب؟ أم أنه فقط حاجة إلى التوكيد على مناعتك الخاصة ضد العدوى من مولوخ- ملاك الموت الرهيب؟ لأننا جميعًا نؤمن سرًا بخلودنا الخاص. وبما أننا لا نستطيع أن نتخيل فقدان الوعى الفردي، فإننا نستطيع أن نتخيل الموت. كنت أحسب أنني أبحث عن الحب- ولكن ما كنت أسعى إليه حقًا هو تجسدٌ جديد. أردت أن أستعيد الزمن وأعود طفلة من جديد- وأنا أعرف كل ما أعرفه الآن"

منحتني عبارة "يونغ" ممرًا جديدًا أعبره نحو "ملء" أيام العزلة. تركتُ الرواية من يدي وأنا أقفز مهللة. لقد ظننت أن الأجواء المصاحبة للجائحة تثير بداخلي خوف ما من الموت.اعترف أني أخشى الموت حين يحدث ل"آخر"، أما موتي الشخصي فحرصت منذ سنوات على الاستعداد له بأشكال "مريحة" لكى أعبر نحو تحولي الأعظم- هكذا أؤمن.  إذن أنا لا أخشى الموت في العزلة، الأمر لا يتمحور حول الخوف، كل ما في الأمر أني بحاجة لأن أتجسد في حيوات متخيلة. 

إذن هذا هو الأمر. فلأفعلها إذن!

*****

 فخ# 6: الذاكرة تحيلني إلى مخاوف قديمة!

لازلت أحتمي بداخل الكتابة، أشرع في التقاط "شخصية" وددت كثيرًا الكتابة عنها، بدأت النص- قيد التطوير- في مارس 2017، اقتبس منه التالي:

" في مركز الصورة المعاصر، منذ عدة سنوات اعتدت على الذهاب ل"مركز الصورة المعاصر" للعمل والقراءة، في كل مرة بينما أقضي يومًا كاملًا كان هناك رجل يرتدي قميص أسود وبنطلون جينز بنفس اللون يجلس على كنبة الاستقبال. حين أدلف المكان ينظر لي نظرة سريعة، ألقي التحية فلا يلتفت إليها، حتى اعتدت ذلك. أتوجه إلى مكاني المفضل بجوار رف الكتب، بينما يجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى ويبدأ في التحدث لأشباح متخيلة. في البدء شعرت بالقلق، التفت إلى المرأة الجالسة بجواري، بدونا مرتبكتان. 

كان يمكث هناك على أريكة الاستقبال بنفس الجلسة ساعات طويلة، لا يتوقف عن وضع الساق فوق الأخرى، ولا يتوقف عن الحديث لمن يراهم فقط، بنفس النبرة الجادة التي تخلو من أى ارتباك أو التفات لمن حوله.

يومًا تلو الآخر، زيارة وراء الآخرى، اعتدت وجوده في المكان، بل توقفت عن انتظار أن يتقدم نحوي ويتبادل معي أى حوار. كان يبدو أنه يعيش في عالمه بالكلية. كما توقفت أيضًا عن استراق النظر إليه من وراء شاشة اللاب توب، بينما أبدو منهمكة في النقر على الكي بورد. "

لم استكمل النص منذ تاريخ ولادته، اكتفيت بأرشفته في ملف عنونته "أشياء لا أفهمها بالقاهرة"، مثل: عبور الشارع بينما السيارات تأتي مسرعة، إطلاق الكلاكسات بدافع الملل، الإصرار على التبول في الطريق العام دون خجل، محاولات مراوغة التصاق مخاط أحدهم بوجهي بعد أن تبرع بمشاركتنا إياه في الطريق العام، وأناس يتحدثون مع أنفسهم ونرتطم بهم في الطريق العام.

يسألني صوت بداخلي، لماذا عدت الآن إلى هذا النص، لماذا قفزت في مخيلتي هذا الرجل بينما يجلس واضعًا ساق فوق الأخرى على كنبة الاستقبال؟

أجبت فورًا: أفتقده!!

هل حركت العزلة "جثته" المدفونة في مخيلتي

هل أصبح كلانا يتحدث- في عزلته- مع أشباح يأتون من بعيد!

الآن أرى!

*****

فخ# 7: ضجيج البقاء بداخل رأسي، بينما الوقت لا يمر!

         في مقابلة عقدتها "سوزان سونتاغ" كانت تخبر كيف تبدأ القصة بداخلها بقولها: "أستيقظ صباحًا أستمع إلى الصوت بداخلي، أستسلم له بالكلية وكل ما أقوم به هو أن أتبعه". في مراحل تشكل ذاتي الكاتبة، كنت أعود كثيرً إلى مقولة "سونتاغ" المرة تلو الأخرى، غير أن بمرور أيام العزلة، لم يعد هناك "صوتًا" وحيدًا يقودني لممرات متخيلة نحو قصة لم ترو بعد، بل يبدو أن الصوت قد توالد ليصبح في رأسي "قبيلة" من أصوات تصنع ضجيجًا لا ينقطع. لم تهدأ حتى ظهرت في النص التالي:

على كل الأشياء التي تحدث في عقلي – فقط- أن تتوقف!

زيارتي لك في الثانية صباحا كى أقبلك بين عينيك وأخبرك عن أهمية تناول البطاطا الساخنة،

تذكرة السفر إلى بلد وحيدة ثم إيقاظ حاسة التذوق المعطلة بالتهام أكبر قدر ممكن من التوابل،

التحول إلى عقلة إصبع ثم القفز إلى سرة من أحب لأرى العالم من هناك،

إخبار نبتة الفلفل الأخضر التي ماتت بالأمس أني أحببتها كثيراً، 

وأني أدين لها بمعرفة مواسم الرحيل، 

ما لم يخبرني به أبي- قبل أن يرحل هو.

إطلاق الرصاص على فم أحدهم يلوك الكلمات مئات المرات، 

يسيل من شفتيه لعاب أبيض بلا معنى- يدعو للضحك!

الذهاب فورا إلى حائط قام أحدهم بتعليق صورة تبتسم، 

إزاحة الصورة، 

اخبار الحائط أن الصورة فقدت القدرة على الابتسام ،

أعقد صداقات متتالية مع عنكبوت أربيه في الخفاء.

محاولة استعادة ضفيرة باللون البني يتخللها خصلات ذهبية، 

الاستماع برفق إلى مسام جلدي المحترقة،  

الندبات التي تنبت لهباً كل ليلة يمكن تحويلها إلى لون برتقالي 

وتركه يمرح على صفحة بيضاء لكتاب التلوين الجديد.

الرائحة التي تشي بطفل خائف يجلس في نهاية الصف، 

أفهمها الآن جيداً 

وأحنو عليه جيداً 

وأغفر له بكل ماء قلبي 

أمنحه السماح للعبور نحو بكاء محبة ما باتت ممكنة.

على كل الأشياء التي تحدث في عقلي أن تتوقف

لأنها لم تحدث.

مقتطف من نص لي: "على كل الأشياء التي تحدث في عقلي"- 15 أبريل

*****

فخ# 8: الوصول ل"حافة" الخوف من الجنون !

أمنح لنفسي الإذن بالتوقف عن "ملء" الوقت بال"فعل" وأنه لا بأس على الإطلاق ألا أفعل شيئًا، حتى وإن كانت الكتابة التي أحب. لا زال بداخلي تدفقًا ساخنًا من غضب يتأجج كلما تجولت في منزلي ولا أرى غير عالمي. بينما أحاول أن أطهو وجبة، يأتيني الصوت مرة أخرى يخبرني أن أبحث عن لوحة "زيوس يأكل ابنه". الصوت يعلم أني أبحث عن تجسيد للغضب الذي يمور بداخلي.قادتني أصابعي - والصوت- نحو اللوحة المذكورة. كنت قد قمت بدراستها من قبل في سياق آخر، غير أني وجدت نفسي ك"أليس" تدلف إلى عالم "غويا" وبالأخص "لوحاته السوداء". أرسل رسالة نصية إلى صديق بسوريا مهتم بالفن وتاريخه، نستكمل نقاشًا توقف منذ سنوات لا نتطرق لشىء عن الحرب او الكورونا أو الحياة، كنا نتبادل الحديث عن "غويا" وعزلته، أو بمعنى أدق كان كلانا يختبىء خلف الحديث التحليلي عن لوحاته. كلانا شعر بالخوف، ليس خوفًا من الموت، بقدر ما هو خوف من العزلة، الوحشة، الجنون!

أعلم تلك الحافة جيدًا، أنهيت المحادثة وبداخلي نية مبيتة على فعل حركة استباقية للتحليق فوق تلك الحافة. كان لدى حيلة طفولية- أحبها جدا- أن أقرأ عن كل ما أخشاه. الطفلة بداخلي تراوغ الخوف بان تحمل بيديها الصغيرتين كتابًا. اخبرت صديقي- في رسالة نصية-  والطفلة والصوت أني في الصباح سأعكف على قراءة كتاب إيريك فروم "تشريح النزعة التدميرية"، سننقذ "غويا" ونحن وآخرين من وحشتهم ووحوشهم.

******



فخ# 9: حداد "الأربعين" يومًا!

يبدو أنني فقدت القدرة بالكلية على استحداث ما يُمكنني من المقاومة، لا أدري ما الذي أقاومه، هل الخواء أم الخوف أم العتمة من لا يقين يحتل كافة مسام جلدي. أكتب في النص التالي، عالمي بعد مرور أربعين يومًا من العزلة. يأتي الرقم ذو دلالة جنائزية، فها أنا أقف لتلقي العزاء والرغبة في الحداد بالكلية دون مراوغة أو التفاف، الحزن من فقد "الحياة التي عهدتها من قبل" أو لربما ما حركه مثل هذا الفقد من حزن لم يتم السماح له من قبل بأن يتنفس أو يتحرر قيد أنملة.

ثمة تحذير مكتوب على التذكرة
مساند مقاعد المشاهدة مزودة بمجسَّات رقيقة حادة الحواف
خلايا جلدك المحترق للمرة الثالثة،
سيتم قرضها بأسنان فأر يعبث بأثاث منسي لبيتٍ قديم.

 يوشك العرض أن يبدأ،

لكن كتيب العرض لا يذكر على وجه الدقة

كيف نبحث عمّا فُقد؟

الشاشة معتمة

ستبقى أربعين دقيقة كاملة

في محاولة أخيرة لأن تدفع خارجًا،

كإمرأة في مخاضها لا ترى رأس وليدها،

يتسرب سائل ككتيبة نمل مدربة

في أطرافك الممسمرة على صليبٍ خشبي.

مقتطف من نص لي: "تذكرة سينما"- تم نشره في مجلة أوكسجين الأدبية- تاريخ 25 أبريل

***

فخ# 10: القفز للخارج مرة أخرى، محاولة الإمساك بخيط يتقطع للحياة!

أقرر القفز في حذائي والسير لأطول مسافة ممكنة لا يمكن البقاء في متحفي المتخيل. أقرر السير قبل ساعات من الإفطار كان يبدو أن هناك "آخرين"، راقت لي الفكرة وأنا التي – في زمن آخر- أحرص على الهروب من كل تجمع بشري، غير أن سيرنا في خطوط تشبه قبيلة نمل، غادرت ملاذها لفترة لكى تبحث عن فتات الطعام. كنت أبحث عن "الوجه". خطوت الخطوة تلو الأخرى، تدفقت الدماء بداخلي، شعرت أن شيئًا يعود إلىّ من جديد، زادت الدماء حتى وصلت إلى خط مميز بجانب خدي الأيمن- بفعل الابتسام. أجبرتُ نفسي على الابتسام للغرباء، الأول ارتبك، كان رجلًا في نهاية الخمسين يرتدي قفازًا وكمامة، فاجأته ابتسامتي، استوقفني وهو يسألني "انتي من نادي الجزيرة صح؟ احنا اتقابلنا هناك؟" أوشكت على الكركرة بصوت مرتفع، أفتقد تلك الحيل الذكورية في "شقط" النساء ، لطالما تململت منها وغضبت من تكرارها، اليوم تصالحت معها بالقدر الكاف لأجعلها تمر فلا تلتصق بجلدي.

 أما الابتسامة المجانية الثانية، الثانية منحتها لفتاة ترتدي زيًا رياضيًا تركز النظر على نقطة في الهواء، ابتسمت، بادلتني الابتسامة، شىء يعود لي، يتدفق بداخلي ذاكرة قديمة عن حيلتي في توزيع الابتسامات على النساء تعلمتها منذ بضعة سنوات حين تقاطعت مع فتاة ترتدي فستانًا فوق الركبة بشارع محمد محمود، كانت مرتبكة وخائفة، أعلم جيدًا توترها ووقوفها في انتظار أن تحشر نفسها حشرًا في العربة لتختفي، بادلتها ابتسامة، عدت للمنزل ذلك اليوم بروح المنتصر وأرشفتُ في ذاكرتي: ابتسامة الطمأنينة!

في اليوم التالي اضطررت للذهاب للبنك، ارتديت الكمامة ونضارة شمسية كبيرة، بدوت مثل لص يوشك على القيام بعملية اقتحام بامتياز، جلست بانتظار الدور، كنت أرقب الجميع من خلف نظارتي الشمسية، حركات يد الرجل الثلاثيني الذي يجلس محاولًا شرح شيئًا ما للموظفة خلف المكتب، ارتفاع يده ثم فرد الكفين، تخيلته مايسترو في أوبرا، تجاوزت فكرة أن لا حفلات حية من الأوبرا بعد اليوم. الرجل السبعيني الذي يتكور في مقعده غير أن صوته يعلو بين الحين والآخر لينظم الجميع في طابور ويعيد علينا المرة تلو الأخرى "ما تقفوا في طابور، انا قاعد وعارف مين جه ومين مشي" قبل أن ينفجر في موظفة الشباك صائحًا بعزم ما فيه "مش معقول كده، مش عارفة تشتغلي اقعدي في البيت"، رغبت بشدة في الضحك الهستيري، وددت لو اقتربت منه لأخبره أننا في 2020 وأننا "كلنا يا حج قاعدين في البيت بالصلاة ع النبي، روووق كده" غير أني توقفت.

كان الاتصال الإنساني العابر يمنحني بعضًا من حياة يومية كنت أتعارك معها من قبل. منذ بدأت الجائحة وهم يكررون على مسامعنا في حال الإصابة، سنفقد حاستي الشم والتذوق. ما يزيد عن سبعين يومًا وأنا أجزم أني أفقد شيئًا آخر.

****

ما الذي يمكن أن تفعله "العزلة" بالعقل البشري؟


يشير "آمي روكاتش  Ami Rokach اختصاصي الطب النفسي السريري، الذي خصص ما يقرب من أربعين عاما في فهم "الوحشة" ان هناك فرقً جوهريًا بين "الوحشة" والعزلة. Loneliness and solitude، أما الأولى فهى على حد قوله، خبرة شديدة الخصوصية تختلف من شخص لآخر، يختبر من خلالها الفرد مشاعر مؤلمة من الهجران والنبذ وفقدان الاتصال الإنساني، بينما العزلة التي يختارها الفرد لكى يتأمل من خلال قضاء بعض الوقت في الطبيعة أو الكتابة أو إطلاق سراح طاقته الإبداعية، فذلك شىء مختلف بالكلية. إن مثل هذا التمييز بين الشعورين هو ما دفعه إلى تقصي واستكشاف "الوحشة" طيلة أربعين عامًا من الدراسة والتحليل. مما دفعه للقول بأن هناك "وصمًا للوحشة" فغالبًا لا يميل الأفراد إلى الاعتراف بها، ففي حين يخبر الشخص المكتئب الآخرين أن يقوموا بالابتعاد عنه، الشخص "المستوحش" يتوق إلى وجود الآخرين حوله ليمنحوه ما فقده من شعور بالحميمية الإنسانية وإن وجوه مقبول ومرغوب به.بقدوم الجائحة، صارت "الوحشة" على قائمة الموضوعات الساخنة التي يتناولها مجال الصحة النفسية، فقد لوحظ أن البعض أصبح أكثر انفتاحًا في التعبير عن وحشتهم دون الشعور بالانتقاص من ذلك، لأنه أصبح من السهل الآن أن يلقوا باللوم على ما فرضته الجائحة من عزلة إجبارية تساوت فيها اختيارات الجميع[ii].

إن ما تسببه العزلة والتباعد الاجتماعي من آثار على العقل والجسد، تمّ رصدها من خلال دراسة عدة مجموعات ابتداء من رواد الفضاء الذي يمضون فترات طويلة في الفضاء الخارجي والمساجين والأطفال في العزل الطبي بسبب نقص المناعة الجسدية، باحثي القارة الجنوبية (أنتاركتيكا)، وكبار السن. تركز مثل تلك الدراسات على تتبع أنماط السلوك "الانعزالي" بين المجموعات المختلفة بغية الاستنارة بعدة طرق لتقليل ما تسببه العزلة من آثار مدمرة على العقل والجسد قد تصل في خطورتها إلى ما يمكن تشبيهه بخطر تدخين 15 سيجارة يومية[2].. يشير لورانس بالنيكاس Lawrence Palinkas، الباحث في جامعة جنوب كاليفورنيا، والمتخصص في دراسة أنماط التكيف النفسي في البيئات القصوى، إلى أن "الاكتئاب والقلق يضربان بقوة في فترات البيئات المنعزلة وبخاصة حين تمتد فترة العزلة دون وجود إعلان واضح بموعد انتهاؤها[3].

تضيف سامانثا بروكس Samantha Brooks الباحث بكلية "كينج" بلندن والمتخصصة في دراسة الأثر النفسي لل"عزلة" وقت الكورنا أن الأعراض المدمرة للعزلة يمكن أن تنخفض بشكل ملحوظ في حالة "توضيح" ما يحدث، وأنه كلما زادت ضبابية الحدث أو تعرض الناس إلى رسائل متناقضة غير ذات معنى، فإن ذلك يؤثر سلبًا على قدرتهم على التكيف في مثل تلك الظروف.

في بحث نشر في 26 فبراير، قام به ما يزيد عن 7 باحثين حول الآثار النفسية المترتبة على التباعد الاجتماعي كأحد إجراءات الوقاية التابعة لجائحة الكورونا، أشار البحث إلى احتمالية ظهور الأعراض التالي: الانزعاج- الأرق- اضطرابات ما بعد الصدمة- الغضب- الإنهاك النفسي- انخفاض المزاج- سرعة التأثر والتشوش الإدراكي. بالإضافة إلى ظهور شديد لانفعالات حادة للخوف، العصبية، الحزن، والشعور بالذنب [4].

 







الثلاثاء، 28 أبريل 2020

معانٍ متفرقة حول «كورونا»: مؤامرة.. تفكير سحري.. أم هشاشة إنسانية؟

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم- مقالات الرأى

من ضمن ملف تغطية ريهام عزيز الدين لجائحة الكورونا 2020

موقع "مدى مصر" هو أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية في العالم العربي.

الموقع قد يكون محجوب في بعض البلدان العربية، يُفضل تصفحه عبر متصفح "ثور".

تاريخ النشر: 28 أبريل 2020

******

قبل أن تشتد الجائحة، كنت أستقل القطار قادمًا من المنيا إلى الجيزة، استوقفتني عبارة قيلت بصوت مرتفع: «الكورونا دي بتيجي للأغنيا، احنا الفقرا ربنا حامينا». ما أثار دهشتي هو أننا -ومعنا صاحب العبارة- نتواجد بعربة بالدرجة الأولى في قطار VIP، فنحن إذن هؤلاء الأغنياء الذين سيصب الله عليهم لعنته لا محالة. ظلّت العبارة تتأرجح في رأسي بينما أتساءل ما الأفكار والمعاني التي دار في فلكها البعض بينما تتمترس الكورونا في بؤرة الاهتمام، من أين يأتي الناس بالمعنى الذي يتشكل حول المرض؟ لماذا ينشغل الناس في وقت الأوبئة والشدائد بتشكيل معنى (ما) لما يمرون به؟

طيلة الخمسين سنة الماضية، شهد علم الاجتماع الطبي اهتمامًا متصاعدًا بتقديم أطروحات مختلفة حول المعنى الثقافي والاجتماعي لما يشهده التاريخ الإنساني من أمراض، باعتبار المرض جزء من خبرة الإنسان العامة التي تنطلق من استبصاره الداخلي ورحلته الشخصية في إيجاد معنى لمعاناته ولمرضه ومن خلال رصد قطع الأحجية التي تشكل لاحقًا البناء المعرفي المرتبط بالمعنى الذي يتداوله مجتمع بعينه عن مرض ما.

أشار بيتر بيرجر وتوماس لوكمان Peter Berger & Thomas Luckmann في كتابهما الصادر عام 1966: البناء الاجتماعي للواقع- أطروحة حول سوسيولوجية المعرفة، أن ديناميكية التفاعل مع الأمراض بشكل فردي أو جماعي، يساهم في بناء أطر معرفية تقدم تفسيرات للواقع أو كيفية إدراك هؤلاء المعنيين بواقعهم في لحظة زمنية معينة. بل أن رصد المعنى الذي يختبره الفرد «المريض»، كيف يؤطر تجربته في المرض، كيف يتفاعل المجتمع (مجموعاته) مع الضوابط الطبية والاجتماعية، وميكانيزمات التشتيت أو المراوغة حول تلك الضوابط، يخبر الكثير حول كل ما سيتم الرجوع إليه كلبنة لبناء معرفة تشاركية حول هذا المرض كتأريخ مجتمعي. 

منذ أن ظهرت جائحة الكورونا، حوصرنا بتدفق رهيب في المعلومات الطبية غاية التخصص، غير أن هناك رغبة في التحرر من التمترس حول المعرفة الطبية فحسب، وتجاوزها نحو اكتشاف كيف يتم تخليق المعنى الثقافي والاجتماعي للكورونا في اللحظة الآنية، نفعل ذلك سويًا من خلال المقال التالي، نقطع الرحلة للخلف حيث عالم الإرث الإنساني الثقافي الشفهي، كما يظهر نفسه في الأساطير وحكايات الفلكلور الشعبي لنستكشف كيف يتوطن في ذاكرتنا الجمعية عبر الأجيال «معنى المرض» وما يمليه من ديناميكيات وصراعات داخل الفرد، وتنعكس بظلالها على الخارج، ثم نتوقف في اللحظة الآنية، نرصد كيف عبرت مفاهيم حملناها من القدم حول المرض، ثم رصد بعض السلوكيات التي تشير إلى إسقاط «فهم مشترك» على ما نعانيه اليوم. لا يتبنى المقال اتجاهًا مستقبليًا أو فيما يسميه البعض «ما بعد الكورونا»، أميل إلى ترك المساحة مفتوحة يقودنا فيها الخيال وحده والأمل.

نظرية مؤامرة

حين اجتاح فيروس كورونا العالم، لم يكن شأنًا طبيًا فحسب أو كارثة إنسانية تتجاوز كل ما عرفه الإنسان قبل لحظة تفجره الكبرى، لقد صاحبه أيضًا عودة الروح إلى سلسلة من الأساطير والخرافات ونظريات المؤامرة التي طالما وجدت تربة خصبة في كل موقف إنساني يفتقر إلى الشفافية في تداول المعلومات أو تبادل أنصافها أو حجبها بالكلية، ولربما يضرب بجذوره في العمق النفسي للميل الفطري لدى الإنسان نحو «التفكير السحري/ الخيالي» وخاصة حين يعجز عن فهم ما يلتبس عليه.

أكثر نظريات المؤامرة رواجًا في جائحة «كوفيد 19» التي تقول إن الفيروس مُخلّق تقنيًا وفق تكنولوجيا الـ 5G، ويدير خيوط المؤامرة العقل الفذ بيل جيتس. قدم نظرية المؤامرة تلك الفيزيائي الأمريكي توماس كوان، في بداية مارس الماضي عبر فيديو تم حذفه لاحقًا من قبل إدارة يوتيوب. بنى كوان مقترحه على أن نظام 5G تم تصميمه ليسبب خللًا في الحمض النووي لجهاز المناعة البشري، تمّ إضفاء التشويق على تلك الفرضية بتطعيمها بعدد من الرسائل السرية المخبأة بعناية في التصميم البيولوجي للفيروس. نجم عن تداول تلك النظرية أن قام عدد من «المؤمنين» بها بإحراق أبراج الـ 5G في بريطانيا، كما قاموا بتوجيه التهديدات نحو المهندسين العاملين في تلك الشبكة. وبسبب النهم الشديد إلى فهم ما يحدث عبر العالم، تمّ تداول تلك النظرية، بل والدفاع عنها باستماتة من قبل مشاهير، ليس في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل لقد ظهر مفتي جمهورية مصر العربية الأسبق علي جمعة، وهو يربط فيروس كورونا بنفس نظرية المؤامرة تلك، التي نفتها بالكلية منظمة الصحة العالمية.

يشير ستيفان لواندوسكي Stephan Lewandowsky، رئيس قسم علم النفس المعرفي بجامعة بيرستول البريطانية، إلى أنه في وقت سيولة المعلومات من ناحية وحجبها من ناحية أخرى أو التلاعب بها حين يتم تقديم أنصاف البيانات أو تقديم البيانات باعتبارها حقائق أو القفز بدون أدلة نحو تخليق علاقات سببية لتفسير ما لا يمكن تفسيره، في مثل هذا الوقت تتعاظم الحاجة للتمييز بين الحقائق، والأساطير، والمغالطات.

إن الرحلة التي تقطعها نظريات المؤامرة بصحبة الجائحة لم تكن شيئًا مستحدثًا، فهي تضرب بجذورها في التاريخ الإنساني، نذكر على سبيل المثال: وباء الأنفلونزا القاتل الذي اجتاح الولايات المتحدة الأمريكية عام 1918، ازدهرت معه نظرية مؤامرة يقف وراءها الألمان الذين أرسلوا من خلال بحارتهم الفيروس لكي يقضي على الولايات المتحدة الأمريكية.

أثناء طاعون عام 1630 في ميلان بإيطاليا، حُبكت نظرية مؤامرة حول أصل الوباء، عن طريق توليفة من الخرافات الشعبية والتي تمّ تداولها وتصديقها بشكل أدى إلى محاكمة وتعذيب بل وإعدام شخصين بريئين من تهمة نشر الوباء. ولقد استخدم الإيطالي أليساندرو مانزوني تلك الواقعة لبناء روايته الرائعة «الوباء» وتأريخ ما حدث للمجتمع الإيطالي حينئذ. ظهرت الرواية للنور بعد مئتي عام في سنة 1827.

من ناحية أخرى، قام مواطنه، المؤرخ الإيطالي كارلو جينزبيرج، بتتبع رحلة تشكل نظرية المؤامرة ذاتها وهوس المجتمعات في تخليق تلك النظريات التي تؤسس فرضية مفادها أن هناك «قوة شريرة» تعمل ضد مجتمع بعينه، وأن تلك القوة التي تعلن عن نفسها من خلال الوباء غير المفهوم يمكن معرفة مصدرها من خلال المجتمع ذاته. 

قام المؤرخ الإيطالي في كتابه «تاريخ الليل» الصادر عام 2017  بتقصي وتأريخ وفهم السحر والشعوذة، وتتبع المسار الذي يتداخل فيه تخليق نظرية المؤامرة مع اضطهاد شرائح بعينها في المجتمع وقت حدوث الأوبئة. 

يذكر الكتاب، في إطار خيالي يجمع بين الأساطير الأكثر شهرة وتداولًا، تصورات المجتمع عن الآلهة الوحشية، الممارسات الروحانية التي توصم بالسحر أو الشعوذة، يتتبع ذلك المسار الأنثروبولوجي في منطقة بعينها واقعة بين فرناس وجبال الألب، بغية أن يؤرخ لنظرية مؤامرة انتشرت في القرن الرابع عشر الميلادي مفادها أن هناك اجتماعات ليلية يتم عقدها في الأماكن المقفرة، يظهر فيها شرائح بعينها وهي الشرائح التي يتم اضطهادها في المجتمع مثل اليهود، المسلمين، ممارسو أعمال السحر والشعوذة، من يتم نعتهم بالكفر والزندقة، وحين يجتمعون يمارسون عربدة تصل إلى احتقار كل ما يرمز للمعتقد المسيحي مثل الصليب ويمارسون الجنس مع الشيطان كقوة شريرة عظمى، وفي حضور «الأبراص» التي تكن جزءًا من تلك الطقوس، تنطلق قوة الشر العظمى التي لا يعرفها المجتمع ولم يشهدها من قبل. 

استخلص جيزنبيرج في بحثه الجذور التي تقف وراء اضطهاد فئات بعينها وبخاصة السحرة والمشعوذين، بل والهوس لتخليق نظرية مؤامرة تؤجج العلاقة الديناميكية بين مفهوم المجتمع حينذاك حول «الشر» وقدرته على إعادة تجسيده وصبه كقوة اضطهاد للفئات المهمشة داخل المجتمع، ويتضح ذلك من ممارسات التعذيب والاعترافات التي كانت تنتزع بشتى صنوف التعذيب من كل من يتم اتهامه بممارسة طقوس السحر أو الشعوذة أو وصمه بالزندقة والكفر بالمعتقد المسيحي، والتي سادت في القرنين الخامس والسادس عشر. لم يكن الاضطهاد موجهًا فقط نحو فئات في المجتمع، بل امتد أيضًا لـ«البَرص» باعتباره تجسيدًا لقوى شيطانية شريرة، مما أدى إلى وصم أيضًا من أصيب بالبرص/ الجذام في ذلك الوقت كونه حتمًا انضم لتلك الاجتماعات الليلية الماجنة التي تم تحقير فيها الصليب، فأصابته اللعنة، والوباء.

قوى شيطانية

ظهر المعلم الروحاني الصيني إدوار لي كي مينج في فيديو تم تداوله سريعًا عبر الإنترنت يشرح لجمهوره كيفية ارتداء الكمامة. قام بعدد من الحركات وكأنه يكتب حروفًا بالصينية متمتمًا بأصوات تعرف بـ«استدعاء القوة الشافية في وجه اللعنة»، ثم استتبع ذلك بعدد من الفيديوهات مؤكدًا «شر» الفيروس.

في 13 أبريل الجاري، تمّ رصد عدد من سكان القرى في مقاطعة توماكورو الهندية، يقومون بتفريغ ثمرات جوز الهند ووضع عيدان شجرة «النيم» ثم تركها أسفل تلك الشجرة التي تعد وفق الطقوس الهندية، الشجرة الشافية، واعتقادهم أن بقاء حبات جوز الهند أسفل الشجرة الأم سيُسرّع من القضاء على الأرواح الشريرة التي جلبها فيروس كوفيد 19. 

ذكرت إيميلي بالستيس، أستاذ مساعد علم النفس بجامعة نيويورك، أنه في الأزمنة التي تشهد توترًا عاليًا يميل الناس إلى ما يسمى بالتفكير «السحري»، ويظهر ذلك في تبينهم لعدد من الخرافات التي توحي لهم بأنهم قادرون، ولو بشكل طفيف، على تحجيم ما يشعرون به. واستطردت بقولها إن ذلك ما هو إلا مرحلة من مراحل الإنكار والرفض لما حدث.

أما من الناحية الدينية، فقد عاد إلى الذاكرة الإنسانية وباء الطاعون والكوليرا وغيرهما من الأوبئة والجوائح، التي حملت سمة «نهاية العالم» أو «يوم الحساب»، فامتدت الصلوات بجميع الديانات طالبة الغوث والعون، وفي بعض المناحي الأكثر تطرفًا، ظهر الاستعداد لـ«يوم القيامة» أو الاستدلال عليه من علامات كونية بعينها. يذكر الكاتب نيكولا ميكافيللي، الذي شهد وباء الطاعون بإيطاليا، ودون ما رآه ولاحظه كالتالي:

«لقد بحث الناس عن السبب وراء كل ما يحدث، البعض منهم أرجعه إلى تنبؤات العرّافين، والبعض ذكر أن الأنبياء والرسل قد ذكروا ذلك، لقد حاول الجميع فهم، ليس الوباء فحسب، بل ما صاحبه من مصائب سقطت على الجميع».

في حدود علمي، حتى تاريخ كتابة المقالة، لم يظهر أي ملمح يميل إلى التفكير الخرافي أو حكايات شعبية يمكن اقترانها مع الكورونا، سوى حادثتين، الأولى في لبنان حين ظهرت فتاة ادعت أن القديس «مارشربل» قد ظهر لها بينما يقوم بأخذ التراب من ضريحه، وغليه فيتم شفاء مرضى الكورونا، الأمر الذي أثار لغطًا دينيًا واسعًا في الشهر الماضي. 

شهدت مصر لغطًا أيضًا حين قام المذيع عمرو أديب بإعادة حلقات خبيرة التاروت بسنت يوسف، والتي توقعت في قراءة ليلة رأس السنة أن العالم سيشهد كارثة كبيرة، وتنبأت بالمسار المتوقع لتلك الكارثة. مما يدعو للتوقف، هو أن ظهور جائحة كورونا قد فتح مجالًا أوسع للاستماع لحكايات الجدات اللواتي عاصرن الكوليرا، أخبرتني إحداهن أنها حين تمّ تشخيصها بالكوليرا وقد كانت طفلة صغيرة، توجب عليها التهام «فأر أبيض» بحسب ما اعتقده الناس حينئذ أن «ابتلاع الحيوان الذي يحمل نفس الروح الشريرة، قادر على تجديد القوة الشافية»، وبالفعل، تستكمل قصتها، قامت والدتها بسلق الفأر الأبيض وقدمته لها على هيئة حساء أرنب صغير، والعجيب في القصة أنها بالفعل نجت من الكوليرا ولا زلت على قيد الحياة.

بلوت تويست سياسي

ظهر إدوارد سنودن، صاحب الحدث الأشهر لتسريبات معلومات من جهاز المخابرات الأمريكية، ليعلن أن كورونا ما هو إلا محاولة من الحكومات لما أسماه «هندسة القهر» The architecture of oppression، وأن الحكومات تسعى إلى تقييد وتقويض الحريات الفردية من خلال هذا الفيروس المختلق. ثم حذر من الإجراءات السلطوية التي تمارسها الحكومات تحت غطاء «كورونا»، وتنبأ بأن العالم سيفقد كل ما حصل عليه من حريات، وما ينتظرنا بعد ذلك هو المزيد من التقييد.  

الألم من خواء «قوالب» الفهم، هل يدفعنا لتخليق «هوية» للمرض؟

في عام 1983، قدم كلٌ من جوزيف شنايدر وبيتر كونراد، كتابًا شديد الخصوصية والرهافة التي تجمع بين التوثيق العلمي والمسار الإنساني في الفهم والتقصي، «الصرع: الخبرة والسيطرة على المرض». تتبع العالمان، ما يمر به المريض والمحيطون به أيضًا فيما يشبه الركض وراء متاهات شخصية لإيجاد هوية لـ«المرض»، وحين تتضح «علّته» قد يجد المريض حينئذ قدرته وقوته على النجاة. يقولان إن البشر يتشاركون في الرغبة في إضفاء معنى لمرضهم، يقومون بتطويع جميع معتقداتهم الدينية التي آمنوا بها قبل الإصابة، وربما احتفظوا بها بعد معرفتهم بالمرض، في بعض الأحيان يلتقطون المعنى من طبقتهم الاجتماعية أو علاقاتهم بذويهم، بل قد يصل البعض في مسعاه أن يستخدم بياناته في التأمين الاجتماعي والصحي كمدخل لمعنى لماذا أصيب بهذا المرض.

إن تلك المحاولات تشير إلى عمق الألم الإنساني الذي يشعر به الإنسان أمام ما يجهله، ويتعاظم هذا الألم ويصبح غائرًا حين يجد نفسه أمام ما لا يمكن فهمه، ليس على المستوى الفردي فقط، بل الجماعي والكوني أيضًا. يلجأ الإنسان في تلك المرحلة شديدة التعري أمام ضآلته وانكشافه أمام ذاته التي عرفها قبل المرض، إلى إعادة ترميم هويته، عن طريق تخليق «هوية» للمرض، وحين النجاة تنفصل الهويتان بالكلية، ثم يكون لدينا هوية جديدة للمريض -إذا ما أراد- ويصبح عنوانها «ناجٍ من السرطان» على سبيل المثال.

أتبنى ذلك الإطار في فهم مسعى البشر باختلاف مشاربهم لفهم وتأطير وتفسير ما يصعب فهمه، وبخاصة في حالة كارثية مثل جائحة الكورونا.

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

ما أضافه الفيروس للقاموس

 مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

قسم الرأى

تاريخ النشر: 14 أبريل 2020

في إطار تغطية صحافية من ريهام عزيز الدين لجائحة الكورونا 2020

موقع "مدى مصر" هو أحد أهم مواقع الصحافة المستقلة التقدمية في العالم العربي.

*****

من أين تأتي الكلمات؟

في أحد ورش العمل، طُلِب من الحاضرين أن يجدوا معنى لكلمة «شالوفة». شرع المشاركون البالغ عددهم أكثر من 25 خبيرًا لغويًا في محاولة الكشف عن هوية ومعنى تلك الكلمة. لم تكن «شالوفة» موجودة في القاموس، فعادوا بخيبة أمل يلومون المدرب على إعطائهم مثل تلك المهمة المبهمة. فما كان منه سوى أن أعاد عليهم صياغة المهمة مرة أخرى بقوله «عليكم إيجاد معنى للكلمة فلا يوجد بالأصل لها معني». وهكذا انخرط المشاركون في إيجاد معنى للكلمة اللغز. انقسمت مجموعات العمل إلى أربع مجموعات، وبعد عمل أكثر من ساعتين كانت النتيجة كالتالي:

مجموعة 1: «الشالوفة» هي أداة يستخدمها المزارع لتجميع الحشائش الضارة.

سأل المدرب: وكيف توصلتم لذلك؟

– قمنا بسؤال بعض المزارعين في الجوار، فتردد استخدام كلمة «جاروف» فظننا أنه بالإمكان أن تصبح لدينا كلمتان تحملان نفس المعنى: «جاروف» و «شالوفة».

مجموعة 2: الشالوفة هي صفة يتم استخدامها لوصف السلوك المشين وبخاصة للسيدات.

– وكيف توصلتم لذلك؟

– لدينا كلمة عامية يتم استخدامها وتبدأ بحرف الـ«ش – شرمو**» فظننا أن «الشالوفة» هي أحد الكلمات الأخرى التي يستخدمها العامة لوصف ذلك السلوك.

مجموعة 3: «الشالوفة» هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى السلام النفسي الكامل.

– كيف توصلتم لذلك؟

كنا سمعنا من قبل أن هناك «النيرفانا»، فافترضنا أنها أحد تلك المراحل المتقدمة التي يخوضها الإنسان المنهك في الحياة ليصل إليها في رحلة تنوّره الروحي.

هل لديكم إثبات لذلك؟

لا، لقد افترضنا ذلك، طرحنا الافتراض ولاقى قبولًا في المجموعة.

مجموعة 4: «الشالوفة» هي نبات يتناوله المناهضون لتناول اللحوم، ويمكن طهوه بإضافة الماء أو المرق أو الحليب.

كيف توصلتم لذلك؟

قاربنا المفردة مع مفردة الـ«شوفان»، كما أننا طرحنا نقاشًا في المجموعة حول المسميات المختلفة الغريبة التي نسمعها يوميًا عن أنواع الحميات الغذائية النباتية.

هل لديكم إثبات لذلك؟

لا، لكننا كمجموعة اتفقنا تمامًا أن نستخدم كلمة «شالوفة» من الآن وصاعدًا بالمعنى الذي ذكرناه.

انتهى التدريب، ولم يتوصل المشاركون لإجماع حول معنى واحد للكلمة. لم يكن هدف المدرب منذ البداية التوصل إلى معنى محدد وقاطع لتلك الكلمة المبهمة بقدر ما كان يهدف إلى الإشارة لعملية تخليق المعنى المرتبط بمفردة بعينها. كما أراد أن يكوّن مدخلًا لطرح جدلية لم تحسم في ذلك التدريب «من يأتي أولًا: الكلمة أم المعنى؟ و كيف تُشكل الكلمات الوعي الإنساني؟». 

أتخذ من تلك الخبرة مدخلًا في محاولة تتبع مسار تخليق المعنى الذي يتشكل حول مفردة «فيروس كورونا»، ليس لغويًا فحسب بل ثقافيًا واجتماعيًا كذلك.

مفارقة الإدراج في القاموس

وفقًا لعلم دراسة أصل الكلمة، بدأ استخدام مفردة «فيروس كورونا» عام 1968. غير أنه فور إعلان منظمة الصحة العالمية «جائحة فيروس كورونا» في مؤتمر الصحة العالمي بجنيف 11 فبراير 2020، على الفور تمّ إدخالها إلى أكثر قواميس اللغة شيوعًا «ميريام ويبستر» لتظهر مفردة «فيروس كورونا» على قائمة تحديثات المفردات المضافة حديثًا للقاموس بتاريخ 16 مارس من العام نفسه. ولم يكن ذلك فحسب، بل أن اتخاذ قرار إدراج الكلمة في القاموس كان سابقة من نوعها لم يشهدها تاريخ أرشفة الكلمات من قبل.

وفقًا لمعايير إدراج مفردات جديدة بالقواميس، يجب أن تمر حقبة زمنية، كما أنه لا يتم التسرع في صك المفردة قبل مرور وقت كافٍ يصل إلى حقبة زمنية بأكملها. غير أن مفردة «فيروس كورونا» حطمت تلك المعيارية بالكلية، حيث تمت إضافتها للقاموس بعد 34 يومًا فقط لا غير من إعلان الوباء، ودون مجهود مضنٍ كالمعتاد.

أعاد ذلك إلى الذاكرة اللغوية، الرحلة الشاقة التي قطعتها كلمة «إيدز» ليتم إدراجها والاعتراف بها في قاموس «ميريام ويبستر». ففي حالة مفردة «إيدز» استغرق الأمر عامين كاملين، حيث بدأت الإشارة للمرض عام 1982، ثم خاض المحرر العلمي روجر بييز Roger Pease، جدالًا واسعًا لكي يتم صك المصطلح وإدراجه في القاموس. اعتمد روجر على الدفع بكل قوة إلى الاعتراف بهوية «المرض» بمنحه اسمًا واضحًا ثم إدراجه في القاموس الأكثر شعبية ليفسح مجالًا للاعتراف بكل ما يجلبه المرض من حوار مجتمعي لا فائدة من المراوغة حوله.

أما كلمة «كورونا» نفسها فاشتقاقها من «crown» وقد اصطلح العلماء المختصون بدراسة الفيروسات تسمية هذا النوع من الفيروسات بـ«فيروس كورونا» وتُماثل وجود «تاج» في الشكل التخيلي للفيروس يتقارب مع شكل التاج الشمسي في الخسوف الشمسي الذي تم رصده كما يظهر هنا.

هل تمكَّن «الفيروس» من خلق قاموس مستقل بذاته؟

بظهور فيروس كورونا، تراصت كتيبة من المفردات المرتبطة به واعتماده لغويًا وكارثة صحية عالمية، تنامت الحاجة لوجود مفردات تتمكن من ملء الفجوة المعرفية المقترنة بهذا الفيروس. دشنت مجلة «تايمز» دراسة تقودها مؤسسة «القاموس»، والمؤسسة البحثية لقاموس «ميريام ويبستر» لتحليل المحتوى الموجود على موقعهم الرسمي في تغطيتهم الإعلامية عن الفيروس بغية التعرف على أكثر الكلمات التي يبحث عنها مستخدمي الموقع واستخدام نتائج هذه الدراسة في بناء قاموس خاص يُمكِّن الجميع، على اختلاف خلفياتهم العلمية، من فهم الأزمة الحالية والعبور منها بوعي أعلى.

يمكن إفراد مقالة كاملة عن الكلمات الأكثر استخدمًا في المحتوى والمعنى المرتبط بها قديمًا وأصل الكلمات وتاريخها، غير أنني أود أن أنتقي الكلمات التالية التي أظهرتها الدراسة: Outbreak, epidemic and pandemic

أزمة، وباء أم جائحة؟

إن الأمر لا يعد تفلسفًا لغويًا، بقدر ما يعني أن خطورة الكلمات وما تحويه من دلالة ستتبعها إجراءات تتسم برفع درجة الخطر والاستعداد العالمي. يتضح ذلك جليًا في قرار تأخير منظمة الصحة العالمية في الإعلان عن فيروس كورونا باعتباره جائحة عالمية.

لقد تأخر استخدام منظمة الصحة العالمية لكلمة «وبائي»، ولم يظهر سوى في 16 مارس بالرغم من ظهور المرض منذ 11 فبراير. ويُرجع البعض هذا التأخير لما يمكن أن يسببه مثل هذا الإعلان باستخدام كلمة «pandemic» أن الأمر بات من الخطورة من منطلق إحصائيات الدول المختلفة وتصاعد أرقام الوفيات وانتشاره في مناطق مختلفة، وما قد يحدثه ذلك من خلخلة للأنظمة المالية وما يصاحبها من انهيار الأمل في الشفاء وتعاظم الهلع الكوني.

Quarantine

تلك المفردة التي تمّ إحياؤها من التاريخ الإنساني القديم.

يشير بيتر سوكولوسكي Peter Sokolowski، محرر قاموس «ميريام ويبستر»، إلى أن الكلمة التي تم إحياؤها من التاريخ الإنساني القديم تعني الفترة التي تمتد إلى 40 يومًا من العزلة. تعود جذور الكلمة إلى السياق الديني، وبخاصة التراث المسيحي الذي يقوم الفرد خلاله بصيام 40 يومًا اتباعًا لصيام المسيح في الصحراء للمدة ذاتها. كما أن المعنى الاجتماعي للعزلة أو الخلوة أو الانعزال، بجانب وجوده في كثير من التراث الديني، فهناك ممارسات اجتماعية يظهر فيها بشكل جلي، على سبيل المثال، هناك العزلة التي تُفرض على الأرملة عند وفاة زوجها بالامتناع عن تأجير منزلها لمدة أربعين يومًا، فهي فترة العزلة والحداد. 

وفي العصور الوسطى، كان البحارة الإيطاليون يُبقون السفن القادمة في الماء مدة 40 يومًا قبل أن يقوموا باستقبالها على الشاطئ خشية أن يكون هناك وباء بين البحارة على السفينة القادمة من بلد غريب.

أما عن الاستخدام المعاصر لكلمة «كورانتين»، فهي تراوحت ما بين الحظر، العزلة، العزل، ثم ظهرت كلمة «التباعد الاجتماعي».

Social Distancing.. التباعد الاجتماعي

كلمة التباعد الاجتماعي ليست وليدة الوقت الحاضر، فتاريخ الكلمة يرجع إلى العام 1960، إلا أن إحياء المصطلح واحتلاله مسرح أكثر الكلمات استخدامًا وبحثًا،  صاحبه محاولة لتطويعه بما يتناسب مع اللحظة الآنية. وفي تلك اللحظة هناك محاولة لإعادة تدوير المصطلح ليصبح «تباعدًا جسديًا» وليس «اجتماعيًا» كمحاولة لإدماج الوعي بدلالة الكلمات من منظور نفسي، إذ أنه وقت الأزمة الشديدة قد تخلق كلمة واحدة أو مصطلح ما يسمى في علم النفسي بإثارة triggers، الخوف أو الهلع.

Flattening the curve.. تبطيط المنحنى

أصبحت «شبه الجملة» تلك أكثر التراكيب اللغوية استخدامًا -وفق دراسة التايمز- في الحياة العامة. وبمقدور من تتبع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، العثور على مثل تلك التراكيب دون أن يرتبك، فقد أصبحتَ متورطًا بالكلية في المعرفة.. تلك المعرفة التي تتجاوز العمل الأكاديمي أو المختبر الطبي أو الأسوار العالية ذات اللغة الأكاديمية شديدة التعقيد.

Herd Immunity.. مناعة القطيع

لكلمة «قطيع» دلالة اجتماعية ربما نتناولها لاحقًا في القاموس الشعبي الذي أتى مصاحبًا لفيروس كورونا، غير أن هذا المصطلح من ناحية طبية يعني، كما رصدته الدراسة المعنية، أن بعض الناس قد يصبحون محميين من الإصابة بالفيروس لتواجدهم في مجتمع ذي مناعة عالية (الغالبية ذات مناعة عالية) وبالتالي تتضاءل فرص انتشاره داخل هذا المجتمع.

هل يفرض «كورونا» احتياجًا لـ «لغة» عالمية للعلم؟

تلك كانت إشكالية تكاد لا تتجاوز المختبرات العلمية المتخصصة، وتغادرها فقط لتمتد إلى المختبرات اللغوية. إن ما حدث في فيروس كورونا، تجاوز الحدود المعروفة بين العلم الأكاديمي الصارم والعلم الشعبوي. أصبح الجميع يتشاطرون الرغبة في المعرفة والفهم. من ناحية، ظهر احتياج قوي لأن تكون هناك لغة موحدة بين الأطباء والحكومات والدول عبر العالم لكي يتم تناقل المعرفة من خلالها، تساقطت الحدود الوهمية التي صنعت حاجزًا لفهم الكثير من الظواهر والتي وقفت اللغة حائلًا دون فهمها أو ترجمتها إلى لغة أخرى.

أصبح العالم بأكمله ينطق كورونا، كوفيد 19، بل أن القاموس المرتبط بالفيروس لم يعد حكرًا على المختصين فحسب، بل أصبح الجميع يمكنه أن يسرد توصيفًا دقيقًا للأعراض والمسببات باستخدام كل المفردات السابقة، وقد حدث ذلك في وقت يعد قياسيًا. ومن الناحية الأخرى، فبالرغم من عالمية المفردة في اللحظة الحالية، إلا أن «فيروس كورونا» اختبر تحديًا جديدًا من حيث تنوع استخدامه وفق التنوع اللغوي داخل البلد الواحد، مما يمنحنا رؤية لمسار مفردة واحدة وكيف يتم تطويرها في زمن قياسي داخل مجتمعات مهمشة.

عند بدء الجائحة في الصين، أثار صانعو السياسات الصينية في مجابهتها، الانتباه نحو الاحتياج إلى مزيد من البحث التجريبي حول وسائل وأدوات الاتصال بين قطاعي الصحة والإعلام، والاحتياج لتوصيل رسائل عن الفيروس بلغة محلية تتطور لتستوعب مستجدات التحدي الراهن، مؤكدين بذلك على رغبتهم في تقصي التواصل والفهم المشترك حول المعلومات الصحية/ الطبية باستخدام لغات الفئات الأقل تهميشًا على سبيل المثال. 

وقبل أن تشتد وطاة الجائحة في الصين، كان هناك اهتمامًا بتواجد منصات تواصل اجتماعي ثنائية اللغة، الغرض منها أن تصل إلى مستخدمين من خلفيات إثنية مختلفة ولهجات مختلفة كذلك. تم تصميم تلك المنصات ثنائية اللغة لتحرير المعرفة الطبية من الاحتكار من طبقة بعينها، وتسهل التعريف بالقرارات الحكومية، كما كان من المخطط لها أن تكون خطوة نحو تدشين كرنفالات ثقافية نابعة من المجتمعات المحلية. 

بعد اجتياح جائحة فيروس كورونا، رُصدت مبادرات محلية لتبادل المعلومات حول الجائحة باستخدام لهجات محلية، وبخاصة للمجتمعات المهمش والتي تعيش على الحدود مع ميانمار، تمثّل ذلك في تكوين مجموعات من هؤلاء السكان، وتبادل النصائح والمعلومات باللغة الدارجة. بل لقد تمّ استخدم اللغة الخاصة بمجتمع الأقليات من التيبت، وتمّ اعتبار أن كبار السن غير القادرين على التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحد شرائح المستهدفين من تطوير لغة محلية حول تطورات الجائحة.

وفي سابقة من نوعها، تمّ رصد عدد من قصص الفلكلور المنغولي والأغاني الشعبية وعزف بعض من المقطوعات الشعبية مثل التصفيق باستخدام خشب البامبو، كممارسات شعبية للتكاتف الاجتماعي ورفع الروح المعنوية للمناطق المنكوبة. وأصدرت الصين منشورات توعوية حول فيروس كورونا ظهرت في 39 لغة محلية، وبالتعاون مع دور النشر في جميع المقاطعات الصينية. بالإضافة إلى إعادة إحياء اللغات المنسية واللهجات المحلية، تم طرح إشكالية غاية في الأهمية وهي استخدام اللغة الإنجليزية كلغة للعلم والطب. 

يشير زانج جي Zhang Jie إلى أن اللغة أصبحت سلاحًا ذو حدين، ويشتد ذلك في وقت تصاعد النزعة الوطنية المحلية بضرورة إنقاذ الوطن. أشار زانج إلى أن عددًا من الباحثين الصينيين نتيجة لنشر أبحاثهم باللغة الإنجليزية حول كورونا في مجلة «بريطانيا العظمى للأبحاث الطبية»، تم وضعهم قيد المساءلة وفُتحت عليهم نيران الاتهام، وصلت إلى اتهامهم بالخيانة لعظمى. برصد تلك الحادثة، يعيد المشهد تذكيرنا بما يمكن أن نطلق عليه اللغة العالمية للعلم، ومساءلة الإنجليزية كلغة للعلم واختبار فرضية: هل يملك الجميع كفاءة لغوية كافية للبقاء في وقت تبدو فيه المعرفة وضرورة تداول المعلومات بكل وسيلة ممكنة أمرًا حتميًا لا امتيازًا يختص به البعض دون غيرهم؟

هل أعاد الفيروس تاريخ قديم للكراهية عبر اللغة؟

كما تمت الإشارة سابقًا إلى أن بعض المفردات التي أُعيد استخدامها لتتواكب مع توصيف مستجدات اللحظة الآنية، طُرح التساؤل: هل اللغة الخاصة بالجائحة أنتجت مفردات للكراهية والعنف اللغوي؟

يخبرنا التاريخ أن تلك ليست المرة الأولى التي يقود الخوف من الإصابة بالوباء وحالة الذعر العام إلى موجة من العنصرية تصب غضبها نحو العمالة الآسيوية، والتي تمتد جذورها إلى منتصف القرن التاسع عشر بوصول أول عامل آسيوي إلى أمريكا الشمالية. بعيدًا عما تمّ رصده من ممارسات عنف ضد الصينيين والآسيوين في الأشهر الماضية، تداول مستخدمو الإنترنت تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بوصفه الفيروس بـ«ذلك الفيروس الصيني»، مما اعتبره كثيرًا من المراقبين دعوة صريحة لإحياء كراهية تاريخية قديمة نحو دول شرق آسيا. 

في نفس الوقت تواردت أنباء عن تعرض أمريكيين من جذور آسيوية للبصق والاعتداء والصراخ والتهديد، ووصل الأمر إلى الطعن والضرب، كما حدث في مونتريال، ورصد لتصاعد العنف نحو محال العمالة الآسيوية تصل إلى ما يزيد عن 650 هجمة عنصرية في الأسبوع الماضي فقط.

على صعيد شعبي، رُصد العديد من الكوميكس الساخرة حول عادات الأكل في الصين، واستتبع ذلك توطئة لكراهية مبطنة يمكن توصيفها بأن بعض الشعوب قد تبدو أكثر «قذارة» من غيرها.

القاموس الشعبي لـ«كورونا»

في 16 مارس الماضي، تمت إضافة كلمة covidiot إلى القاموس الشعبي، وهي تجمع بين الجذرين corona and idiot (أبله- الكورونا) تشير إلى النمط السلوكي الذي تزامن مع ظهور الجائحة، وهو نمط الأشخاص الذين يستخفون بتحذيرات البقاء في المنزل أو يخزنون البضائع الغذائية دون داعٍ.

استقبل المصريون لفظ «كورونا» بما يتشابه مع ما هو مُخزن في ذاكرتهم الجمعية وبنيتهم المعرفية بتقريب كورونا لنوع الشيكولاتة الذي لم يعد رائجًا قبل أن تحدث الجائحة، غير أنه منذ أن تسارعت وتيرة الأحداث توقف الجميع عن استخدم نفس الإيفيه.

ثم لم يلبث أن أصبحت كلمة «كورونا» جزء من الحوار اليومي المعتاد. ولم يجد المصريون أي صعوبة في تداول كلمات مثل الكورونا أو الكارونا (كما يتم نطقها في أحد مواقف الميكروباصات)، أو بعد بضعة أيام، أصبحت الغالبية تستعيض عن «الكورونا» وتشير إلى «كوفيد 19» دون الحاجة للشرح المطول حول الكلمة أو إلى ما ترمز.

ظهرت أغنيتان باللهجة المصرية تتسمان بخفة الظل، الأولى لعمر طاهر يعيد تدوير الفلكور الصعيدي «سلّم عليّ»: الكوكب اللي رافع حاجب.. ع الغلابة بيتعاجب.. عمل الكورونا معاه الواجب.. خلاه ماشي يندب ع الناي.. الحظر خلاني في حالة.. فكيت وديعتي المتشالة.. ومراتي في البيت شغالة.. رايحة وجاية تعمل شاى.

والثانية للدمية الأشهر «أبلة فاهيتا» بعنوان «الكورانتينا»: طول اليوم بوزنا في بوز بعضينا.. مش طايقين روحنا يا رب ألطف بينا.. شاكين في جيرانننا وحتى في أهالينا..  مع بعضنا لابسين في الكوارنتينا.

بل أن مفردة تحمل خلفية محتملة للتحقير، ألا وهي «القطيع»، بما تشير إليه من الاتباع الأعمى لقطعان الماشية، ربما كانت تتحرر شيئًا فشيئًا من تاريخها في الثقافة الشعبية المصرية حين ظهر عدد من المبادرات المجتمعية تحمل في جوهرها ضرورة التكاتف كمجموع.

ربما الجانب الأكثر خفة في تناول الكورونا اللغوي، أنها لم تتح الفرصة لأي من الجدالات التي يدور اللغويون في رحاها، على شاكلة «الحاسوب» عوضًا عن «الكمبيوتر» أو «الذكاء الاصطناعي» عوضًا عن «الأرتيفيشيال انتجيلينس».

بل أن الأمر امتد إلى أن يصطبغ بمسحة شعبوية تم رصدها من خلال الباعة الجائلين الذين منحوا بعدًا ابتكاريًا جديدًا حين أصبح النداء لتخزين الثوم هو: «يا مزين البلكونة.. يا قاتل الكورونا». في إشارة واضحة لتضفير الأسطورة الشعبية بقوة الثوم الشافية على طرد جميع الأرواح الشريرة، ومما لا شك فيه فإن الشر الذي يحمله «فيروس كورونا» لن يصمد أمام «حزم الثوم المعلقة في البلكونات»بل أن الأمر امتد إلى أن يصطبغ بمسحة شعبوية تم رصدها من خلال الباعة الجائلين الذين منحوا بعدًا ابتكاريًا جديدًا حين أصبح النداء لتخزين الثوم هو: «يا مزين البلكونة.. يا قاتل الكورونا». في إشارة واضحة لتضفير الأسطورة الشعبية بقوة الثوم الشافية على طرد جميع الأرواح الشريرة، ومما لا شك فيه فإن الشر الذي يحمله «فيروس كورونا» لن يصمد أمام «حزم الثوم المعلقة في البلكونات»..

السبت، 4 أبريل 2020

تذكرة سينما

 قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 255- أبريل 2020

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الشاعر والروائي زياد عبد الله

***

تذكر سينما



ثمة تحذير مكتوب على التذكرة

سيتم العرض في قاعة معتمة

لأربعين دقيقة كاملة.

ستبقى الشاشة معتمة

لا شريط للصوت يحمل نصاً مكتوباً يخبرنا عن الخيانات المتكررة للحياة.

لا أبطال يتصدرون الشاشة

لا موسيقي تدغدغ الحواس

لا خبرية من عالم آخر تطمئنك أنك لست الأشد حزناً في هذا العالم

لا شيء.

***

ثمة تحذير مكتوب على التذكرة

مساند مقاعد المشاهدة مزودة بمجسَّات رقيقة حادة الحواف

خلايا جلدك المحترق للمرة الثالثة،

سيتم قرضها بأسنان فأر يعبث بأثاث منسي لبيتٍ قديم.

***

يوشك العرض أن يبدأ

لكن كتيب العرض لا يذكر على وجه الدقة

كيف نبحث عمّا فُقد؟!

الشاشة معتمة

ستبقى أربعين دقيقة كاملة

في محاولة أخيرة لأن تدفع خارجاً كامرأة في مخاضها لا ترى رأس وليدها،

يتسرب سائل ككتيبة نمل مدربة في أطرافك الممسمرة على صليب خشبي.

***

يوشك العرض أن يبدأ

تندفع ربة البيت التي تأتي مع كل شروق لجلي الصحون

تقتطع جزءاً من السلك المعدني المخبئ بعناية في قفصك الصدري

تبهرك قدرة كفيها على البتر من دون أن تؤلمها حواف السلك المدببة.

تمضي مهرولة لمتابعة مهام الحياة العاجلة

تخبرها مراراً أن تتبع التحذير المكتوب على التذكرة

يجب أن تُحكم إغلاق ستائر الغرفة

يوشك العرض أن يبدأ

في قاعة معتمة

والشاشة معتمة أيضاً

لأربعين عاماً أو أقل.

***

الصورة من أعمال الفنان المغربي فريد بلكاهية (1934 – 2014).

الأربعاء، 25 مارس 2020

خط ساخن لتقديم الدعم النفسي في أيام الأزمة الحالية- كورونا/ كوفيد 19

مقترح خط ساخن لتقديم الدعم النفسي

مما يجدر ذكره أن الدولة استجابت للنداء، وتمّ بالفعل تدشين خط ساخن تابع لوزارة الصحة.

كتبت: ريهام عزيز الدين

25 مارس 2020

في ديسمبر 2019 دشنت وزارة الصحة والسكان مبادرة شديدة الأهمية وهى إطلاق خط ساخن لتقديم الدعم النفسي والاستشارات الداعمة لمن تراوده أفكار انتحارية. تعد تلك الخطوة ترسيخًا لمسار يعيد وضع الصحة النفسية والسلامة المعنوية في أولويات العمل وقت الأزمات الكبرى.

أتساءل لماذا لا يتم تفعيل نفس الخدمة في الوقت الحالي؟

إن ما يشهده الجميع من حالة الخوف الجماعي، أو الفردي من مجهول لا يستطيع فهمه أو استيعابه أو القدرة على وضعه في إطار المنطق والسيطرة، يجعل من الأهمية إعادة النظر في تفعيل تلك الخدمة او استحداثها إذا لزم الأمر.

البقاء في المنزل، والاهتمام بسلامة العائلة والمقربين نفسيًا ومعنويًا لا يقل أهمية عن إتباع إجراءات السلامة والوقاية التي يتشارك الجميع في المسئولية المجتمعية نحو تحقيقها.

البقاء في المنزل، قد يستجلب مشاعر متدفقة من الخوف أو التوتر وفي بعض الأحيان قد يصل إلى نوبات الهلع الكاملة وبخاصة في حالة تشخيص أحد أفراد العائلة بالإصابة. سيعاني الجميع من أعراض متفاوتة ودرجات مختلفة في الخوف، الخوف من الإصابة بالمرض، الخوف من فقد شخص عزيز، الخوف من خسارة مادية وتوقف الأعمال. كل تلك المخاوف لا يمكن إنكارها أو تشتيتها لأنها ستعود أكثر حدة وقسوة وقد تمتد إلى ضعف المناعة الجسدية. أما إذا ما تمّ التعامل معها بأنها جزء من طبيعة تدفق الطيف الانفعالي البشري الطبيعي، لا تسبب أى خطر، هكذ أرجو.

لا يخفى علينا تدني مستوى الوعى بالصحة النفسية في المشهد حزمة الأولويات في إدراة الأزمات.لا يمكن لعين أن تخطىء مؤشرات هذا التدني متجسدة في عدم مناقشة أمور وإجراءات السلامة النفسية ووضعها في  وإجراءات السلامة النفسية وتخطي الأزمات الخانقة دون أن تترك مثل تلك المشاعر ندبتها على الجسد او تسبب في إثارة ذعر جماعي قد يتسبب في خسائر لن نستطيع تحمل تكلفتها بشكل فردي أو جماعي.

ولذا، أقدم اقتراحي بتفعيل خدمة خط ساخن مجاني وللجميع لتقديم الدعم النفسي والتوعية باجراءات وممارسات يتم تطبيقها حول العالم للتعامل مع نوبات الخوف، والتوتر الشديد ، وتجاوز نوبة الهلع.

زيارة الطبيب النفسي والتماس يد العون من متخصص هو ضرورة وليس رفاهية، غير أني أرجو من خلال هذا الاقتراح أن نحقق تقدمًا إنسانيًا في مسارنا نحو إدارة الأزمة الحالية بأن نمنح الجميع فرصة عادلة وحقيقية لكى نعبر فوق نهر الخوف بأقل خسارة ممكنة.

وفيما يلي بعض من اقتراحات التشغيل وفق مقارنة سريعة بما طبقته الدول الأخرى في ظل التعامل مع أزمة شديدة الخطورة:

1-      أن تكون وزراة الصحة والسكان بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي المسئولتين عن تفعيل الخط الساخن لتقديم الدعم النفسي. من الأهمية بمكان أن تتم إتاحة تلك الخدمة مجانًا للجميع.

2-      فتح باب التطوع من أفراد ومؤسسات المجتمع المدني للمشاركة في تنظيم تشغيل الخط الساخن، هناك الكثير من الأفراد والمؤسسات والجمعيات التي تطمح أن تلعب دورًا جوهريًا حقيقيًا في المشاركة في تخفيف توطئة ما يحدث.

3-      كما هو الحال في تصنيف مراحل الفيروس في حالة الاشتباه والإصابة إلى ثلاث مراحل، يمكن تصنيف مكالمات تلقي الدعم إلى "ثلاث" فئات

- الفئة الأولى "دعم خفيف": لمن يمروا بنوبة خوف أو توتر عابرة غير أنه يصعب التحكم فيها بمفرده/ها.

- الفئة الثانية "دعم متوسط": تستهدف تلك الفئة من يقومون بالاتصال بالخط الساخن الذي وفرته وزارة الصحة في حالة الاشتباه بالمرض.إن طمأنة الفرد بشكل طبي على قدر من الأهمية، غير أن الطمأنة النفسية تتساوى مع ذلك، حتى لا يفضي بنا الأمر إلى التكدس الشديد في المستشفيات من حالات يمكن القول أن ما يحركها هو خوف وهلع شديدين وليس المرض.

- الفئة الثالثة "دعم نفسي متخصص": لمن تم التشخيص بإصابته بالمرض، أو في انتظار أى نوع من التحاليل، ويتم تقديم الدعم هنا للفرد ولعائلته، فكلاهما يقف عاجزًا أمام ما يمكن في الأيام التالية فور التشخيص.

4-      أن يتم تقديم الخدمة من خلال الهاتف، وإمكانية تقديمها من المنزل. إن إبقاء شخص في نوبة خوف/ هلع/ توتر على الهاتف حتى يعود جسمه إلى وضع السكون ليس أمرًا هينًا ويتطلب قدرة نفسية عميقة لكنه ليس بالأمر المستحيل أيضًا.

5-      اختيار من يقوم بتلك المهمة في ضوء معايير واضحة، واقتراحي السابق بتمكين مؤسسات المجتمع المدني والأفراد ذوي الخبرات الهامة في مجال ممارسة تمارين اليقظة والحضور والتهدئة عبر التنفس هو اقتراح لإزاحة العبء ودعوة للمشاركة والمسئولية الاجتماعية.

أرجو أن يجد اقتراحي صداه للقائمين على الأمر، وأرجو أن يقدم الإعلام فقرة كاملة يومية لطمأنة الناس وفق لالتزام بمعايير وممارسات السلامة النفسية المعتمدة.