يُعد كتاب "مقالات سهير القلماوي فيالأدب والثقافة"- تقديم وتحرير جابر عصفور كتاب موسوعي لي. يعتمد الكتاب على تجميع عدد من المقالات المنشورة لسهير القلماوي في شتى صنوف القضايا التي لا تفقد حوارًا حولها بالرغم من تباعد الفترة الزمنية الفاصلة. فثمة شىء يُقال، يُقرأ، يُفند دومًا حول ما يعني الأدب، وموضعه في الثقافة المصرية، ما تعنيه الثقافة، وما الذي يعنيه الأدب والثقافة للنساء على وجه الخصوص.
اقتنيتُ الكتاب من المركزالقومي للترجمة، والذي لا أستطيع أن أُخفي تقديري لهذا المكان وما يقدمه من كتب
أرى أنها تأسيسية لتغذية "لحم رأسي"، ولتجديد الاتصال مع المؤسسين
والمُؤسسات في مجال الأدب، الثقافة، والمعرفة.
استوقفني الكتاب، وحرصتُ أن يحتل مكانًا مميزًا في قائمة القراءة. وخطف قلبي التقديم من "التلميذ" جابر عصفور لأستاذته سهير القلماوي. لم أكن أقرأ لرجلٍ يمارس سُلطته كمحرر يفرض سطوة ما على النص، بل كان باحثًا قديرًا يود أن يبقى الحوار ممتدًا مع من يدين لها بالفضل والعرفان في تكوينه المعرفي وتأسيسه البحثي. يعترف التلميذ بأستاذية امرأة ولا يرى في ذلك انتقاصًا أو غضاضة أو مرارة مكتومة.
يتشارك أحد سمات الباحث الجاد الذي يتصدر
لعملية إنتاج المعرفة، والتي تتخطى المناخ الأكاديمي ومساراته الضيقة. أرى أني حين
أقرأ التقديم تاريخي البحثي أيضًا في مرحلة ما، الرغبة في إتمام البحث والتأرجح ما
بين تراكم المعارف، وغربلتها وبين الرغبة في أن يكن لي صوتي الخاص في كل ما أقرأ
وأكتب وأبحث عنه. أتذكر أيضًا خوفي القديم من أني تحول العمل البحثي لمجرد أرشفة
للمصادر، الكتب، أبحاث الآخرين ومساراتهم دون أن أصل إلى مسارٍ خاص بي في رحلتي
البحثية وفي القراءة النقدية أيضًا.
تصميم غلاف الكتاب تحتل صورة "سهير
القلماوي"، بينما تأتي صورة جابر عصفور في الخلف. أعجبني هذا كثيرًا. أيضًا
أعجبني أن بكل صفحة على اليمين، يعتمد التنسيق الداخلي للكتاب على وجود أيقونة
صغيرة لوجه سهير القلماوي، فكأنني كلما قرأت صفحة، أرفع عيني لأعلى فأرى،
"الأستاذة" في زمنٍ ما، تراقب وتقرأ، فاجد نفسي ابتسم من مخيلة أن كلانا نتشارك شيئًا ما سويًا في لحظة تتخطى الحدود الزمانية والمكانية.
التقط الكتاب اليوم، وأتوقف معه قليلًا. أقف عند أحد المقالات بعنوان "نسويات". تدلف المقالة لعرض رائدات الحركةالنسوية في العالم، دون التورط في فعل استعراض معلومات أو حرق متعة قراءة أصول الكتب المُؤسسة للنسوية وبخاصة كتاب سيمون دي بوفوار، "الجنس الآخر"، وكتاب بيتي فريدان "اللغز الأنثوي" التي ذُُكرت في متن المقالة.
وهذا لا يمنع على الإطلاق من تقديم شروحات ونقد لما ورد فيها من أفكارٍ رئيسية، مع ربطها في سلسلة تاريخية من الأفكار التي لحقتها.
أتوقف عند الاقتباس التالين حول المرأة المستقلة الجادة:
"الجادات المُحققات لذاتهنّ لسن نقابة، ولا حزبًا ولا تجمعًا ليكسبن الحق قوة من الدفاع عنه والجهاد في سبيله.المراة الجادة التي تسعى إلى تحقيق ذاتها كانت مشغولة وما زالت بإثبات ذاتها أولًا قبل أن تبدأ بتحقيق هذه الذات. إنها تريد أن يعترف المجتمع بوجودها كأساس تبدأ منه عملةتحقيق الذات، والمجتمع من حولها بنسائه- للأسف- وبرجاله بالطبع لايزال يقاوم هذا الوجود أصلًا. الجادات المحققات لذاتهنً يترفعن عن تفاهة المعركة المرهونة بينها وبين الرجل، المرأة المستقلة التي لا تعتمد على الرجل لا اقتصاديًا ولا معنويًا ولا نفسيًا، هى مشغولة بتحقيق ذاتها، وتفاهة تلك المعركة أنها تبدو وأن هذا المسعى نحو تحقيق الذات وكأنها كى تستكمل وجودها تسلب الرجل حقًا.
إنها في الواقع تعطيه
حقًا جديدًا حق التكامل مع إنسان كامل- وليس تبع- إنسان كامل لايعيش عيش الطفيليات
وإنما يعيش حياة النبت المستقل الكامل. الجادات المحققات لذاتهنّ- وعلى الرجل أن
يعينها والمجتمع في ذلك- تصبو أن تتخطى العراقيل والترسبات المجتمعية والأساطير
التي تجعلها تمركز وجودها حول الرجل، فهذا يُعمق شعور المرأة بانها تبع، كأنها
محتاجة إلى الرجل احتياجًا غير متبادل، وكأنها لا تستطيع أن تعيش بدونه؟
فكأنها تمركز وجوده حوله، بينما الحقيقة
أنهما كلاهما لابد أن يُمركزا وجودهما حول الوجود الإنساني العام. الجادات المُحققات
لذواتهنّ يقعن في صراع بين ما تصبو إليه شرعًا وعدلًا من وجود إنساني كامل وبين
ترسبات يُشجع عليها المجتمع لتظل تبعًا. تقع المرأة في ترسبات المجتمع حين تشتد
عليهنّ ظروف العمل المُجحفة، فتتخلى عن وجودها وتهفو لرجل تُحمله مسئولية هذا
الوجود، تبحث عن رجل يُنفق عليها لتخلد للراحة فتتفقد سلاحها وهو إنسانيتها الجادة
المؤمنة بوجودها المستقل".
وأجدني أضيف الجملة التالية:
ويخسر الرجل فرصة الوجود الحقيقي أن يلتقي
بالانسان الكامل، ليس اللقاء بامرأة ، المرأة كتجسيد خارجي لمفهوم الإنسان الكامل،
وإنما في كل مرة يتخلى عن الانحياز لترسبات المجتمع، ويتخلى عن الانتصار لها أو
تلميعها، فهو بذلك يعين المرأة على المجتمع المشوّه لكلاهما، وحين تصل المرأة لإنسانيتها
كاملة، يصل أيضًا للانسان الكامل بداخله. ويكون اللقاء بينهما حق في الوجود، وليس
قيد أو هبة، أو تفضل من أحدهما على الآخر.
أرى أن الكتاب من الكتب التي يتوجب اقتناؤها، قراءتها مراتٍ عدة. المعرفة تراكمية وانتقائية، لكنها تبدأ من نقطة ما، تُفرز، تُنقد ومن ثمّ تصبح هناك إمكانية للبناء عليها وضخ الدماء في عروقها بشكل حىّ ومعاصر.
----------------------------
* كتاب "سهير القلماوي- مقالات في الأدب
والثقافة"- تقديم وتحرير جابر عصفور. (2019). المركز القومي للترجمة- مقالة
بعنوان "نسويات" من صفحة 707- 715.
المقالة نُشَرت في الهلال- فبراير 1976.
* اللغز الأنثوي- بيتي فريدان- ترجمة عبد الله بديع فاضل- العربية للنشر والتوزيع- 2014
* الجنس الآخر- سيمون دي بوفوار- ترجمة سحر سعيد- دار الرحبة للنشر- 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق