الاثنين، 8 نوفمبر 2021

التخفي والإخفاء القسري للنساء في الأدب: الكاتبات يكتبن من غرفتين لاواحدة.

 مقالة نقد أدبي وثقافي منشورة على موقع جيم

تاريخ النشر 8 نوفمبر 2021

عدد الكلمات:  1444

موقع "جيم"موقع يهتم بالإنتاج المعرفي والنقدي والثقافي في شؤون الجندر والجنس والجنسانية خارج عن الخطاب السائد لوسائل الإعلام المهيمنة.

المقالة هى الثانية في سلسلة "الأدب النسوي: أداة إبداعٍ، مقاومة، وتحرر".

يمكن قراءة المقالة الأولى من هنا.

*******

التخفي والإخفاء القسري للنساء في الأدب: الكاتبات يكتبن من غرفتين لا واحدة.

الصورة من تصميم فريق جيم

زووم إن

في إحدى مساءات عام 2013، وصلَتني رسالةٌ من مُحرّر الجريدة الشهيرة مفادها أن مقالتي الأولى ستظهر في عدد اليوم التالي. فركتُ عينيّ وقرأتُ الإيميل مراتٍ عدة. لم أنَم ليلتها، وحين أشرقَت الشمس ركضتُ في الشارع الذي لم يكن اكتظّ بعد بعوادم السيارات والهياكل البشرية. وصلتُ إلى "فرشة الجرائد" (أي المفروشة على الرصيف) ووقفتُ ثابتةً لبرهةٍ كمَن تنتظر لحظة التتويج، "إنتي ريهام عزيز اللي مقالتها موجودة في ملحق ضربة شمس!" استفقتُ سريعًا على ابتسامة النصر القريب تعتلي وجهي. لكن… لم يتعرّف عليّ البائع! تبخّر حلم التحقّق قبل أن يُولد. في طريق العودة إلى البيت، واجهتُ نفسي بالحقيقة التي كنت أراوغها. كان قراري بنشر ما أكتبه سيؤجّج غضب العائلة، أوّلًا لأني أصررتُ على إرسال صورتي المُرفقة بالمقالة من دون غطاء الرأس، وثانيًا لأني أكتُب، ما يعني "إضاعة الوقت" في مهنةٍ ضبابيةٍ تُعطل المسار الواضح المُتوقع منّي إما زوجةً لأحدهم أو أستاذةً جامعية. كما أن تاريخ العائلة لا يضمّ ولو شخصًا واحدًا انطلق في المسار عينه، فلماذا أجرؤ على فعل ما لا يحمل مرجعيةً تليق بتقاليد العائلة التي تضرب جذورها في الصّعيد؟

في السنوات الأولى التي خُضت فيها مغامرة الكتابة، لم أكن أنشر باسمي الحقيقيّ، بل راوغتُ عبر التخفّي وراء اسم "ريهام مهدي" لأمنح التجربة مساحةً آمنةً كي تنمو بعيدًا عن تشويش الغضب القادم من كلّ حدبٍ وصوب.

منحني عام 2017 منعطفًا وتجذيرًا، قدّمتُ نفسي بعلانيةٍ مطلقةٍ مُخلّفةً ورائي كثيرًا من المرارة ومحاولات الكرّ والفرّ. مضيتُ أتساءل: هل شهد تاريخ الكتابة والإبداع لدى النساء عبر الأزمنة رغبةً في إخفاء هوياتهنّ؟ لماذا فعلنَ ذلك؟ هل كان إخفاءً قسريًا أم اختفاءً مؤقتًا ضروريًا كي تنضج التجربة؟ أم كان شيئًا آخر؟ 

زووم آوت

شهد التاريخ العديد من الأديبات اللّاتي كنّ يُخفين هويّاتهنّ ويكتبن بأسماءٍ مُستعارةٍ رجالية، أشهرنّ الكاتبة الفرنسية آمانتين لوسيل أورور دوبين (Amantine Lucile Aurore Dupin) التي عُرِفت باسم "جورج ساند" (George Sand). لجأت آمانتين لدينامية الإخفاء تلك كي تنتزع لأدبها الاحترام الذي لم يكن يُمنح سوى للأدباء الذكور في تلك الحقبة الزمنية. لم تقتصر تلك المراوغة على الكتابة الأدبية فحسب، بل ارتدَت آمانتين ملابس وُصفت بأنها رجاليةً في زمنها، وعُرف عنها تدخين السيجار الكبير على الملأ، مُحطمةً بذلك الصورة النمطيّة عن المرأة الكاتبة التي يجب أن تكون حالمةً ورقيقةً ورومانسيّة.

تقول آمانتين إنّ "ارتداء الملابس الرجالية منحها راحة وحرية في التحرك في أماكن لم يكن مسموحًا للنساء ولوجها"،1 لكن هذا الخيار وضعها تحت مقصلة الوصم والتحقير، إذ ربط النقاد بين شكلها وطريقتها في تقديم نفسها أمام المجتمع من جهة، وموهبتها الأدبيّة من جهةٍ أخرى، واصفين ما تكتبه بـ"التخريبيّ". وحتى حين حاول بعض الأدباء إنصاف كتاباتها، ظلّوا يعلّقون على شكلها وهويّتها الجندريّة، كما فعل الأديب الفرنسي فيكتور هوجو الذي قال "جورج ساند فكرة، تبوأت مكانها الاستثنائي في وقتها. لدينا رجالٌ عظماء، وهي امرأةٌ عظيمة. ولكني لا أعرف على وجه الدقة هل أخاطبها بأخي أم أختي!".2

أما الروائيّة البريطانية ماري آن إيفانز (Mary Ann Evans) التي عُرفت باسم "جورج إليوت" (George Elliot)، فحياتها تصلح لأن تكون رواية مُشوّقة في حدّ ذاتها؛ بدءًا بالشائعات التي تحدّثت عن كتابتها مقالاتٍ لصاحب دار النشر "تشابمان" لمدة ثلاث سنوات، ووصولًا إلى اختيارها إصدار روايتها الأولى باسم "جورج"، الرجل الذي ربطتها به علاقةٌ عاطفيةٌ لما يزيد عن عشرين عامًا، وظلت تجلب لها الوصم والنبذ في المجتمع الفيكتوريّ شديد المحافظة حتّى بعد وفاته، لمجرّد أنه كان متزوجًا.

يشير كثيرٌ من النقاد إلى أنّ استبدال اسم الكاتبة ماري آن إيفانز على غلاف روايتها باسم رجل، كان هدفه منح القرّاء والقارئات فرصةً لاستكشاف الرواية بعيدًا عن الرأي السائد بأنّ الكاتبات النساء لا يكتبن سوى رواياتٍ رومانسية. لكن بعد أن لاقت الرواية رواجًا أدبيًا مُلفتًا واكتُشفت هويّة كاتبتها، بات مستحيلًا الفصل بين حياتها الشخصية وما تكتبه، فظلّت الأعين تلاحقها بسبب علاقتها بالفيلسوف جورج لويس، ولاحقًا بسبب زواجها بشابٍ يصغرها سنًا. 

يمكن القول إنّ الأديبات في القرن التاسع عشر تحديدًا سُحقن في صراعٍ مع ذواتهنّ ومع المجتمع لإخفاء هويّاتهنّ باستخدام أسماءٍ رجالية، وهو صراعٌ يتغلغل في نسيج النساء كما وصفَت الأديبة فيرجينيا وولف (Virginia Woolf) ويؤجّج رغبتهنّ في "حجب أنفسهنّ امتدادًا لإرث العفّة الذي لا يزال يتملكهنّ".3 

يُحسب للمبدعات العربيات أنهنّ - وإن حجَبن هوياتهنّ أحيانًا - لم يستبدلنها بأسماء رجال، فالمصرية زينب فواز نشرت روايتها الأولى باسم "فتاة مصرية"، لكنها في الطبعة الثانية أفصحَت عن هويتها. أما ألِيس بطرس،  فكانت أول امرأةٍ تنشر قصّةً قصيرةً عام 1891 باسم "صائبة". من جهتها، نشرَت الأديبة اللبنانية ميّ زيادة بأسماء مستعارةٍ عديدة، نذكر منها "عائدة" و"إيزيس كوبيا"، وكانت أوّل امرأةٍ تكتب في جريدة الأهرام المصرية. أمّا الكاتبة المصرية عائشة عبد الرحمن التي لم تعتد أسرتُها المحافظة انخراط النساء في العمل الثقافي، فكانت تنشر باسم "بنت الشاطئ" في إشارةٍ إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل. وكانت الحقوقيّة والأديبة مقبولة الشلق أوّل امرأةٍ سوريةٍ تحوز إجازةً في الحقوق، كما كانت تنشر قصصَها ومقالاتها باسم "فتاة قاسيون".4

وإن اختارت الأديبات الأوليات إخفاء هوياتهنّ لدوافع مختلفة، فقد برزَت لاحقًا حيلةٌ خبيثةٌ بثّت سمومها ضدّ الإنتاج الأدبي النسائي وكانت أشبه بالإخفاء القسري عبر التشكيك بحقيقة أنهنّ كتبنَ أعمالهنّ بأنفسهنّ، لاسيما إذا ما حقّقت أعمال الكاتبة نجاحًا ملحوظًا. ونسوق مثالًا على ذلك قضية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي وثلاثيّتها "ذاكرة الجسد" (1993)، و"فوضى الحواسّ" (1997)، و"عابر سرير" (2003)؛ إذ أُشيع بأنّ الشاعر نزار قبّاني - صديقها المقرَّب آنذاك - كان قد كتبها.5

أما مسيرة الأديبة المصرية أليفة رفعت، فشهدَت دينامية حجبٍ مختلفة، إذ قلّما تجدين أعمالها متاحةً للقراءة، كما اقترن اسمها بوصف "المثيرة للجدل" ليزيد من تجاهل النقّاد لإنتاجها الإبداعي في مجال القصة القصيرة. وفي محاولتي لمعرفة المزيد عن حياتها، لم أجد سوى مقالة وحيدة للكاتبة صافيناز كاظم بعنوان "الأديبة التي فرّت إلى الله".6 ذكّرني العنوان بموجة تحجيب واحتجاب الفنانات المصريات في منتصف الثمانينات. لم أفهم يومًا كيف يُمكن للبعض اعتبار الفنّ أو الأدب خطيئةً تستوجب التوبة إلى الله! 

في المشهد الأدبي المعاصر، طوّعت الأديبات الغربيات الإخفاء كاختيارٍ حرٍ لا كقيد، إما حفاظًا على خصوصيّاتهنّ الإبداعية كما فعلَت الإيطالية "إيلينا فيرانتي" لسنواتٍ طويلة، أو لمنح أنفسهنّ مزيدًا من التجريب واستكشاف المغامرة الأدبية كما فعلَت الكاتبة الشهيرة ج. ك. رولينج (J. K. Rowling) لمعرفة ما إذا كانت سلسلة "هاري بوتر" (Harry Potter) ستلاقي ترحيبًا لدى القرّاء الذكور، كما اخترعَت اسم "روبرت غالبريث" (Robert Galbraith) لتكتب رواياتٍ خياليةً عن الجرائم.

عند التفكير في الحيَل التي كانت تلجأ إليها الأديباتُ لولوج عالم الأدب المُحتكر من قبل الذكور، ندرك حجم التحدّيات والمسارات الشاقّة التي يتوجّب على النساء اجتيازها في كلّ مرّةٍ يُقرّرن فيها الخروج من الصندوق والقطع مع السائد والمألوف. وعلى الرغم من أن اللحظة الآنية ما عادت تفرض كل تقنيّات المراوغة تلك، أعتقد أنّ ثمة خيطٌ رفيعٌ ما زال يربط الحاضر بالماضي، فحواه أنّ فعل الكتابة بالنسبة للنساء هو مغامرةٌ مضاعَفةٌ لأنها تبحث عن حماية الموهبة الأدبية من ناحية، وصون الحياة الشخصية من الانتهاك والتشويش والوصم من ناحيةٍ أخرى.

كنتُ أودّ أن أحسم موقفي فأقول كما قالت إحدى الأديبات العربيات - بيَقين العارفين - إنّ الأديبات النساء صرنَ يتبوّأن المكانة ذاتها مع الأدباء الرجال، ولا داعي على الإطلاق لنعرات الأدب النسوي وادّعاءات النضال، بحسب قولها! لكني لن أفعل، بل أتساءل: هل جرّب أحد الكُتاب أن يستكشف الكتابة والنشر تحت اسم امرأة؟ وأيّ مواضيع كان ليتناول؟ أم أننا سنكتفي فقط بالتهليل والمباركة في كل مرّةٍ "يحرّر" فيها الرجلُ المرأةَ بأدواته ولغته، ويتحدّث باسمها وعنها وإليها!

في واقع الأمر، حين تشرع المرأة الكاتبة في فعل تخليق الكتابة، تكون في داخل رأسها غرفتان: الأولى تجلس فيها بالقدر الكافي كي تحدّق بالصفحة البيضاء بينما تمنحها الشخوص والأفكار واللغة نسيجًا مترابطًا عمّا تود أن تكتب عنه بدقةٍ كاملة؛ والثانية تجلس فيها لتراقب العالم بينما تدور في ذهنها كل احتمالات الانتهاك الوشيكة التي سيتوجّب عليها أن تخطو فوقها بكلّ قوة. تلك القوة التي تأتي من اختيارها الواعي بأن تمنحها مغامرةُ الكتابة ما تتوق إليه من التحرّر الأعظم، ذاك التحرّر الذي وصفَته فيرجينيا وولف - بينما كانت تقبع في غرفةٍ تخصّها وحدها - قائلةً "أليسَ التحرّر الأعظم هو حرية التفكير في كل شيءٍ على حقيقته؟"؛ وأزيد: والإعلان عمّا نفكّر فيه بلا مواربة.


* هذا النص جزءٌ من سلسلة مقالات بعنوان "الأدب النسوي: أداة إبداعٍ ومقاومةٍ وتحرّر"، وهي عبارة عن مجموعة نصوصٍ تحمل إشاراتٍ للكشف والتبصّر في الذات الكاتبة لدى النساء وما يواجهن من تحدياتٍ من السلطة بأشكالها المُعلنة والمبطّنة. تُتضمّن كل مقالةٍ معارف متنوعةً من علم النفس المعرفي لاسيما علم نفس الإبداع، الأنثروبولوجيا اللغوية، الدراسات الثقافية، النظرية النقدية والتقاطعية النسويّة، مرفودةً بمُقارباتٍ من الثقافة العربية المعاصرة بُغية التعرّف إلى مفهوم البيئة الآمنة للنساء المبدعات، لاسيما في مجال الكتابة.

 

 

1. Patricia Thomson, "George Sand and English Reviewers: The First Twenty Years”, Modern Language Review, Vol. 67, No. (3): 501–516, July 1972, London: Modern Humanities Research Association. Available at:  https://www.jstor.org/stable/3726119. Retrieved on 2 November 2021.
2. Victor Hugo, The Saturday Review: Politics, Literature, Science and Art, London, Spottiswoode and Co., 1893, p. 77.
3. فيرجينيا وولف، "غرفة تخص المرء وحده"، ترجمة: عهد صبيحة، سوريا، دار نينوى، 2017، ص 68.
4. سها عرّاف، "بأسماء مستعارة: عن النساء والكتابة، مقالة أدب"، موقع فُسحَة، 2019.
5. سها عرّاف، نفس المرجع السابق.
6. صافيناز كاظم، "حكاية أديبة فرّت إلى الله"، مقالة ضمن كتاب "صنعة لطافة"، القاهرة، دار العين، 2007

الخميس، 23 سبتمبر 2021

النسويات والسيرة الذاتية: كيف نتحرر من سجن الهامش؟

مقالة نقد أدبي وثقافي منشورة على موقع جيم

تاريخ 23 سبتمبر 2021

عدد الكلمات:  2288

موقع "جيم"موقع يهتم بالإنتاج المعرفي والنقدي والثقافي في شؤون الجندر والجنس والجنسانية خارج عن الخطاب السائد لوسائل الإعلام المهيمنة.

******

تقديم:

"الأدب النسوي: أداة إبداعٍ، مقاومةٍ، وتحرّر" هي سلسلة مقالاتٍ متصلةٍ تحمل إشاراتٍ للكشف والتبصّر في الذات الكاتبة لدى النساء وما يواجهنّ من تحدياتٍ من السلطة بأشكالها المُعلنة والمبطّنة. تُتضمّن كل مقالةٍ معارف متنوعةً من علم النفس المعرفي لاسيما علم نفس الإبداع، الأنثروبولوجيا اللغوية، الدراسات الثقافية، النظرية النقدية والتقاطعية النسويّة، مرفودةً بمُقارباتٍ من الثقافة العربية المعاصرة بُغية التعرّف إلى مفهوم البيئة الآمنة للنساء المبدعات، لاسيما في مجال الكتابة.

*****

مقالة (1- 5)

 

النسويّات والسيرة الذاتيّة: كيف نتحرّر من سجن الهامش؟

 


 

        ثماني سنواتٍ في القاهرة استسلمتُ فيها لغواية التحديق من النوافذ التي تمنح العابرين بالمجّان تفاصيل حياتيةً حميمةً يمكننا تخيّلها كيفما شئنا طالما لم يُسدِل أصحابُ البيت ستائرهم. ثمة غواية ما في التلصّص على عوالم الآخرين، لا أدري هل تلك طبيعةٌ إنسانيةٌ تنبعُ من فضولٍ غريزي أم رغبةٌ في التقاط التفاصيل خارجنا من دون التورط فيها؟

يحدثُ الأمر نفسه مذ أدركتُ شغفي بقراءة السِّير الذاتية. كلما أحببتُ شخصًا ما، تقمّصتُ دور المحقّقة وتتبّعتُ سيرته/ا وتلصّصتُ على تفاصيله/ا. كنتُ أقرأ سيَر ليلى مراد، وفاطمة المرنيسي، وشارلي شابلن (Charlie Chaplin)، وأناييس نن (Anaïs Nin)، ونيكوس كازنتزاكيس (Nikos Kazantzakis)، وأجاثا كريستي (Agatha Christie)، وليف أولمان (Liv Ullman) والحاضرة دومًا سوزان سونتاغ (Susan Sontag) ويومياتها: "كما يسخر الوعى للجسد"، و"ولادة ثانية" مدخل إلى دوريس ليسينج، وغير ذلك، حتى أني كثيرًا ما شعرتُ بيَد الصداقة والرفقة تمتد إليّ وتربّتُ على كتفي مُتجاوزةً محدودية الزمان والمكان.

        بدأ المسار يتخذ تبئيرًا أعمقَ حين بدأتُ في تتبّع سِيَرٍ ذاتيةٍ نسويّةٍ بعينها مثل "رحلة جبلية، رحلة صعبة" لفدوى طوقان، "القبيلة تستجوب القتيلة" لغادة السّمان، "أوراقي حياتي" لنوال السعداوي، "أوراق شخصية" للطيفة الزيّات، "أثقل من رضوى" لرضوى عاشور وغيرها. كنتُ أسير كقفاءةِ أثر. ألَم يخبرنا قاموس اللغة أن السِيرة مفردةٌ تعني "الذهاب نحو وجهةٍ ما"؟ يبدو أني تلقيتُ مكافأةً لقراءتي كل تلك السِيَر بأن سرتُ "سَيْرًا ومَسِيرًا وتَسْيارًا ومَسِيرةً وسَيْرورَةً" في حيواتٍ وعوالم ثريةٍ من دون أن أغادر منزلي. إن كنتُمنّ من محبّي ومحبّات قراءة هذا الجنس الأدبي وتشاركوننا الفتنة النائمة وشغفنا بالتلصّص الإيجابي على حيواتِ نساءٍ مُلهمات، أصحبكمنّ معي في هذه الرحلة القصيرة التي سنتوقّف خلالها في بعض المحطّات كي نلتقط أنفاسنا ونفكّر.

 

التاريخ الشخصي: وثيقةٌ نسويّة


        تقول مُعلمة الكتابة الإبداعية باتريشيا فوستر (Patricia Foster) في كتابها "تحت جلدي مباشرةً" (2004): "إنّ كتابة السيرة الذاتية تساعد كثيرًا في التبصّر بمراحل تطوّر الهوية النسوية"، مُضيفة: "هناك رغبةٌ لدى القارئ المعاصر في ألا يُسلّم زمام عقله للمخيلة أو اللايقينيّات، فقد أصبح عالم الفانتازيا متخمًا، ضيقًا ومحدودًا. تمنحني كتابة الخيال قربًا من تجارب وخبراتٍ بعينها، لكنه يتركني فور أن أفرغ من القراءة فأشعر بالخواء، وهذا ما دفعني للكتابة عن ذاتي وهويتي مرتكزةً على أرضٍ صلبة".[1] الجدير بالذكر أن فوستر، في رحلتها الذاتية الإبداعية، هجرَت الفنون البصرية وتفرّغَت لكتابة القصص القصيرة، ثم تخصّصَت في كتابة السير الذاتية وتحوّلت إلى تدريسها.

في مقالها "كتابة وقراءة السيرة الذاتية لتشكيل الوعي: إذا كان الشّخصي سياسي، هل يمكن النظر إلى السيرة الذاتية على أنها وثيقةٌ نسويّة؟" (2005)، تتفق أستاذة الدراسات النسوية والمؤرّخة هيلين بنّان (Helen Bannan) مع استنتاجات فوستر سابقًا قائلة: "كان دومًا الإفصاح عن الذات من ركائز البيداغوجيا النسوية وتوجهاتها، بل الإصرار على أن يكون للكاتبة موقفٌ واضحٌ وصريحٌ ومحددٌ يُعد من أهم مؤشرات المسار النسوي". وتضيف: "السيَر الذاتية التي تكتبها النساء هي مصادر ثريةٌ للغاية للفهم والتبصّر. من ممارستي التعليم، وجدتُ أن الطالبات والطلاب يميلون دومًا للمقالات التي تحمل صوتًا شخصيًا للكاتب/ة. مقالات السيرة الذاتية تلك تمنح رؤيةً متجذّرةً  للخبرات والتجارب وسياقًا محددًا يُمكِّنهم لاحقًا من الوقوف على مسافةٍ لتحليل كل تلك النصوص ومن ثمّ تكوين معارفهنّ/م وحقائقهنّ/م المستقلة".[2]

        لعلّ كتابة أدب السيرة الذاتية بأنماطه المختلفة، مثل اليوميات والمراسلات والحوارات، يدفع عن المرأة الكاتبة التهمة التي تُلصق بها دومًا، ألا وهي تهمة "التحديق بالذات" من خلال كتابة رواياتٍ عن عالمها الداخليّ بينما ينشغل الأدباء الرجال بتأريخ رحلاتهم في الحياة كأبطال. تأتي تهمة "التحديق بالذات" بوصفها سُبّةً أو خللًا نفسيًا، كما تدفع البعض إلى توجيه سهام النقد نحو الكاتبات النسويّات ونعتهنّ بـ"النرجسية". يمكننا دحض تلك الادعاءات بما قدّمه عز الدين إسماعيل في كتابه "التفسير النفسي للأدب" (1963)، لاسيما في تقصّيه هوية الكاتب وادعاء النرجسية بقوله: "إن الأديب الحق ليس الذي تقوده رغبةٌ في تمجيد ذاته، بل تقصّيها. وإذا كان لا بد من إحساس الكاتب بذاته ونرجسيته، فيجب أن يُدرك المبدع أن نرجسية الفنان نرجسيةٌ محوّرةٌ أو منقولة، أو لنقل إنها نرجسيةٌ مُلغاةٌ يعوّضه عنها العمل الفني بنرجسيةٍ أرحب".[3]

هذا ما طرحته الباحثة الأكاديمية آنا إيلزه (Anne Else) في دراستها للدكتوراه المعنوَنة "تغيير البنيان: السرد الذاتي، النظرية النسوية، والكتابة كممارسة" (2006)، وصاغته بسؤالٍ محدد: "كيف يُمكن للنساء فهم ذواتهنّ باعتبارهنّ ذواتٍ ناطقةٍ ناقدةٍ ضمن سياقٍ تاريخي ما يحتجن إلى خلخلة الهيكلة المجتمعية بالاحتكام لمنطقٍ ما، ومساءلة كل تلك البُنى والروابط والديناميّات المجتمعية ومن ثمّ تغييرها، من دون أن يتحدَثن بصوتٍ مرتفعٍ ويوثّقن هذا الصوت؟".[4]

حين نقترب من الإنتاج المعرفي كما قدّمته السيَر الذاتية النسوية، يصبح لدينا إرثٌ يجمع بين السرد الذاتي، وتأريخ الحراك النسوي وتقنيّات المراوغة والبقاء التي قادتها النسويات الأولَيات في سياقاتهنّ ليتحرّكن خارج الهوامش الضيقة المفروضة عليهنّ. عندها، تتحول قراءاتنا لهذا اللون الأدبي من مجرد قراءةٍ أدبيةٍ ممتعةٍ إلى توثيقٍ وتأريخٍ يمكن الالتفات إليه، الانتقاء منه، تفكيكه والبناء عليه. كما يُتاح لنا أيضًا فهم كيف كانت النسويّات يتحرّكن ويُفكّرن ويتعلّمن في السنوات الأولى من تشكّل الوعي النسوي، وكيف تتسع ذواتهنّ وينطلقن من كل ما هو شخصي ليُصبحن جزءًا من همّ جماعي. بالإضافة إلى ذلك، يُتاح لنا الاستفهام عمّا إذا كان الانخراط في بُنيةٍ جماعيةٍ يصبح فقدًا للذات الوليدة، أم يسمح بنحتها أبعد من تصوّراتها المسبقة في سيرورةٍ ممتدةٍ لسفر تكوينٍ من نوعٍ خاص؟

ديناميّات الحماية، الإخفاء والظهور في السيَر الذاتية النسوية

"ككاتبٍ، يجب أن يكون لديك الإرادة القوية والشجاعة المماثلة لشجاعة السير في الطريق العام عاريًا! سيتوجّب عليك في كل مرةٍ تخطّ كلمةً على الورق أن تُعلن الكثير عن ذاتك، بل وستتعلّم كيف تصبح صادقًا في الكتابة عن كل ما لم يُشعرك بالراحة والطمأنينة من قبل، تضعه خارجك، تمشي عاريًا، ثم تودع كل ذلك في كل مرةٍ تقرر الكتابة". - نيل جايمان

        تُذكرنا هذه المقولة للكاتب الإنكليزي نيل جايمان (Neil Gaiman) بمثلّث الكتابة: الصدق، والشجاعة والرؤية بعينٍ مغايرة. لكن هل يمكننا تخيل مشاقّ كتابة سيرةٍ ذاتيةٍ لامرأةٍ أو نسويةٍ في مجتمعاتنا! يذكر الكاتب والأكاديمي العراقي حاتم الصكر (2014)، أن هناك "تناظرٌ بين عودة السيرة الذاتية كجنسٍ أدبي من هامش اهتمامات الكُتّاب والقرّاء إلى مركز اهتمامهم، وبين إسهام المرأة التي هي  جزءٌ من هامشٍ اجتماعي بحكم موقعها وعلاقاتها وعملها والوعي بدورها. فكأنما أصبح التناظر متحققًا عبر الاهتمام بالسيرة الذاتية كتابةً وقراءة، والاهتمام بكتابة السيرة الذاتية النسوية. ولكن المرأة سيكون لها حضورٌ (خاص) داخل الجنس السِيري المُستعاد من الهامش، ينعكس في خصوصية تجربتها ذاتها، المتشكلة تحت وطأة ظروفٍ لا تماثل ظروف تجارب الرجل كاتب السيرة. فهو يكتب في مجتمعٍ ذكوري، ساهم باعتباره رجلًا في صياغة لغته، خطابه، وأعرافه، فيما تكتب المرأة في المجتمع الذكوري ذاته، كصوتٍ هامشي مضغوطٍ أو مقموع، مما يلوّن سيرتها الذاتية بالمزيد من المحذورات والمحظورات والإكراهات التي تعاني منها السيرة الذاتية عامة".[5]

        ولعلّ أبرز ديناميات المراوغة حول تلك المحظورات المتوقعة هو عدم ذكر الجنس الأدبي على غلاف الكتاب، أو وضع عباراتٍ مثل "أوراق" و"شذرات" و"أعمال غير كاملة" للإشارة دومًا إلى أن ثمّة صندوقٌ لم يُفتح بكلّيته. هذا بالتحديد ما استهلّت به فدوى طوقان سيرتها الذاتية "رحلة جبلية، رحلة صعبة - سيرةذاتية" (1985) بالقول: "لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كل الخصوصيات. هناك أشياء عزيزة ونفيسة، نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفلة، فلابد من إبقاء الغلالة مسدلة على بعض جوانب هذه الروح صونًا لها من الابتذال. ما كشفت عنه هو الجانب الكفاحي الذي ذكرت قبل قليل. كيف استطعت في حدود ظروفي وقدراتي، أن أتخطى ما كان يستحيل تخطيه لولا الإرادة والرغبة الحقيقية في السعى وراء الأفضل والأحسن، ثمّ إصراري على ان أعطي حياتي معنى وقيمة أفضل مما كان مخططًا لها".[6]

        أما غادة السمّان، فاختارت لسيرتها الذاتية "القبيلة تستجوب القتيلة" المسارَ الإبداعي عبر تخيّل صحافيّين وصحافيّات وهميّين يستجوبونها بشأن كل ما يتعلق بها،[7] فكأنها بذلك جمعَت مسافةً كافيةً لتتأرجح بين الطريقة التقليدية القديمة التي يُقسِم فيها الكاتب/ة منذ البداية على أن يكون صادقًا في ما يكتبه من مذكراتٍ ويوميات، والتجريب الذي منحها قدرة العبور نحو الضفة الأخرى حيث هناك دومًا مساحاتٌ لا يمكن الجزم بين الحقيقي والمُتخيل فيها! ولربما تقنية المراوغة تلك تقودنا إلى فهم كتابة السيرة الذاتية كفعلٍ إبداعي، لا كأدبٍ توجيهيّ يتحول تدريجًا إلى كتابٍ مقدسٍ لا يجب المساس به أو الاشتباك معه بالنقد والتحليل.

السيرة الذاتية والذاكرة: ألعاب خِفةٍ ذهنية!

        يذكر حاتم الصكر أن كتابة السيرة الذاتية تعتمد على "خلق الماضي"،[8] وهذه إشكالية ينبغي أن نتمعّن فيها، فما هو الماضي؟ ومَن ترويه؟ وكيف ترويه؟ تمنحنا اللغة الفرنسية إشارةً مهمةً في هذا الصدد، فمفردة السيرة الذاتية بالفرنسية هي "mémoire"، وهي مشتقةٌ من اللاتينية "memoria"، أي الذاكرة. ما الذي يوجد في الذاكرة البشرية؟ وهل يمكن للمرء أن يتذكر ماضيه؟ أو على نحوٍ أكثر دقة: ما الذي يتذكّره المرء ممّا حدث في زمنٍ مضى؟

        تقدّم الباحثة والمعالجة النفسية تارا بينيت-جولمان (Tara Bennett-Goleman) في بحثها المستفيض في علم النفس المعرفي، كيف يتعامل العقل مع كل ما يتعلّق بالذاكرة. وفي كتابها "الخيمياء الوجدانية: كيف يمكن للعقل أن يُشفي القلب؟" (2001)، تشير إلى أن العقل بمثابة أرشيفٍ للملفات التي ينتقيها "اللاوعي"، وهي الملفات ذات الدلالة الانفعالية الأعمق، وتكتسب عمقها الانفعالي من أن صاحب/ة الذكرى لم يكن وقت حدوثها متيقظًا بالقدر الكافي لمعالجة الانفعالات المصاحِبة للتجربة، فتكتّلَت وتعملَقَت داخل اللاوعي كبُركانٍ هائلٍ قابلٍ للانفجار إذا ما ظهر شرخٌ ما يحرّكه. وتتابع جولمان قائلةً إن إعادة زيارة الماضي وترميمه هى أحد مداخل التعافي النفسي من الصدمات، لاسيما تلك المتّسمة بالانفعالية الشديدة التي تتفتّت فيها الذات إلى أجزاء متصارعة. بناءً عليه، يبدأ الطريق إلى الالتئام في جمع أجزاء الذات كلّها تحت ضوء الوعي، ثم إضفاء معنًى مختلفٍ أو جديدٍ على كل ما حدث.[9]

        تضع المؤلفة والمعلّمة والمصوّرة الفوتوغرافية الأميركية، مورين موردوك (Maureen Murdock)، تلك الإشكالية في سياق كتابة السيرة الذاتية النسوية في كتابها "حقيقة لا يمكن تصديقها: السيرة الذاتية والذاكرة" (2003). تقول موردوك: "أتّفق مع طبيعة الذاكرة كونها انتقائيةً متشظية، لكنها في الوقت عينه تحمل إرثًا انفعاليًا هو حقيقة مشاعر الذاكرة. ومن الضروري الاعتراف بتلك المشاعر كجزءٍ أصيلٍ في عملية تشكيل وتطوير الهوية النسوية لاحقًا، بل إن كتابة السيرة الذاتية في جوهرها تحمل شقّ التشافي بالكتابة ذاتها وعبر مراحلها. هنا تظهر قوة كتابة السيرة الذاتية كأداةٍ استعاديةٍ للصوت والسردية التي تود الراوية أن تمنحهما لقصّة حياتها، ما يعيد إليها قوتها المُستلبة". ثم تستطرد موردوك في موضعٍ آخر من الكتاب نفسه قائلة: "هناك دومًا الاحتياج الإنساني للتواصل، ومن خلال تتبّعي آثار كتابة السيَر الذاتية للنساء، أرى تطورًا تاريخيًا  وتقدمًا في قدرة النساء على التعبير بأصواتهنّ الحقيقية عمّا يمثّل أهميةً لهنّ على مرّ العصور، وفي ذلك انعتاقٌ هائل".[10]

كيف ستبدو السيَر الذاتية النسوية المعاصرة؟

        تختلف باتريشيا فوستر مع رؤية بعض النقاد أن كتابة السيَر الذاتية هو جنسٌ أدبي في طريقه إلى الأفول بنسيجه القديم، وأنه أدبٌ ميتٌ أو مغامرةُ الكاتب/ة لتأبين نفسه/ا. في هذا الصدد، تقول: "في عصورٍ سابقة،  كانت الرواية والشّعر رافدَي الأدب اللذان يخبران عن القصة التي لم تروَ، يُخبر الكاتب/ة من خلالهما عن هويته/ها وعمّا يصبو إليه في العالم، وهذا ما تفعله بدقةٍ تامةٍ مقالاتُ السيرة الذاتية بصِفتها المعاصرة". وتضيف فوستر: "هناك نوعٌ من مقالات السيرة الذاتية يحمل في جوهر سطوره قلبًا ذكيًا قادرًا على تحريك أفكار ومشاعر القرّاء، بل وإفساح المجال أمامهم/ن لفهم سياقاتٍ ثقافيةٍ مرتبطةٍ بالعصر الحالي". وترى الكاتبة أن جوهر الثقافة المعاصرة كما يعبّر عنها الأدبُ بجميع أشكاله يكمن في "قدرته على مساعدة المرء في إيجاد موضعٍ لذاته وسط عالمٍ شديد التغيّر والتحوّل، فلا يرتبك ولا تُصاب هويته الفردانية بالتهديد والصراع المتكرّر بسبب ما يحدث حوله في العالم من تحولاتٍ مستمرة". وتعتبر فوستر أن "السيَر الذاتية النسوية تقدّم سرديةً تتجاوز السائد، وتتيح رؤية ما يقبع في الهامش الذي لطالما نُبذ وأُلحق به الخزي والعار، كأنها اشتهاءٌ روحاني لكل ما لم يُسمع صوته عبر الأزمنة، وتوقٌ للوصل والفهم والاقتراب والبوح".[11]

        أميل إلى الاعتقاد بأنّ تطوّر الجنس الأدبي للسيرة الذاتية على نحوٍ أكثر مُعاصَرة، سيحتفظ بالسّمة القديمة لهذا النوع ألا وهي الرغبة في تتبّع مسار امرأةٍ  بطلةٍ استطاعَت التغلّب على العقبات والتحدّيات التي واجهتها في زمنها، كأننا نقترب من توثيق رحلة بطل/ةٍ ما كما عرَضها جوزيف كامبل (Joseph Campbell) في كتابه "البطل بألف وجه". من ناحيةٍ أخرى، ولأن واقعنا المعاصر يفرض أيضًا إشكالياتٍ كثيرةً بشأن مفهوم "البطل/ة" كمُخلّص/ة، أرى أنّ الوقت حان لنتخلّص من القالب القديم المتهالك الذي يُحيل فعل قراءة السيرة الذاتية إلى فعل سلطةٍ خفيةٍ بين الكاتبة والقارئة، وأن يتحرّر نصّ السيرة الذاتية النسوية من سِمات الأدب التوجيهي، أي أدب النصائح المُعلبة الذي يصنع دينامية سلطةٍ بين الكاتب والقارئ، فيظهر الكاتب بصفته الطرف الأكثر فهمًا ومعرفة، يتكلّم كحكيمٍ ويسرد كنبيّ. وقد يتحوّل النص كما وصفه فيليب لوجون (Philippe Lejeune) إلى نصٍ علائقي يبني علاقةً بين الكاتبة والقارئة، علاقة تجد طريقها بين امرأةٍ تختار أن تشارك نورها وعتمتها مع أخرياتٍ عابراتٍ للزمان والمكان. لكن وجودنا في استلاب السلطة وأطرافها وطبقاتها المتشابكة يجعل قراءة تلك السيَر بمثابة نوافذ على طرقات الحياة، تستقبلنا، تفتح لنا ذراعيها، تمنحنا علاماتٍ استرشاديةً لبعض الوقت وتتركنا نشتبك مع بعضه الآخر. نبتسم حين نجد الفجوات التي حجبَتها الكاتبة. تتشكّل بيننا رابطةٌ سرّية. وأيّ رابطةٍ يمكن أن نراهن عليها إذا ما أتت من مشاركة يوميّات الحياة وتفاصيلها ودقائقها، بما في ذلك لحظات الهشاشة الكبرى ولحظات التحقّق الغامرة؟ لربّما كان هذا هو الاتصال الذي نبحث عنه؛ أن نتّصل حين ترى إحدانا انعكاسَها في عين الأخرى من دون أن تفقد ذاتها، فتسمح للتقاطع بالحدوث وتستكمل مسارها وفقًا لإيقاعها، لترويَ هي أيضًا سيرتها الذاتية لامرأةٍ عاديةٍ أخرى.



[1] Patricia Foster, “Just Beneath My Skin: Autobiography and Self-Discovery”, Athens, GA, University of Georgia Press, 2004, p. 76 and p. 82.

[2] Helen M. Bannan, Writing and Reading Memoir as Consciousness-Raising: If Personal is Political, Is the Memoir Feminist?”, Feminist Collections, Volume 26, No. 2-3, Winter-Spring 2005, pp. 1-4.

 

 

[3] عز الدين إسماعيل، "التفسير النفسي للأدب"، القاهرة، مكتبة غريب، 1984، ص 24.

[4] Anne Else, “On Shifting Ground: Self- narrative, feminist theory and writing practice”, PhD thesis, New Zealand, Victoria University of Wellington, 2006, p 1 . Available at: https://core.ac.uk/download/pdf/41335646.pdf. Retrieved on Sept. 15, 2021.

 

[5]  حاتم الصكر، "البوح والترميز القهري: دراسات في كتابة السير الذاتية"، سلسلة إبداع عربي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2014، ص 13.

[6] فدوى طوقان، "رحلة جبليّة، رحلة صعبة"، الأردن، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1985.

[7] غادة السمّان، "القبيلة تستجوب القتيلة، بيروت، منشورات غادة السمّان، 1981.

[8]  حاتم الصكر، "أقنعة السيرة وتجلّياتها"، عمان، دار أزمنة للنشر، 2017.  

[9] Tara Bennett-Goleman, “Emotional Alchemy: How the Mind Can Heal the Heart”, New York, Harmony Books, 2001, pp. 324-340.

[10] Maureen Murdock, “Unreliable Truth: On Memoir And Memory”, New York, Seal Press, 2003, pp. 24-83.

[11] Patricia Foster, “Just Beneath My Skin: Autobiography And Self-Discovery”, Athens, University of Georgia Press, 2004, pp. 83-109.