الجمعة، 23 أبريل 2021

لماذا لم أحب قط "النظارة السوداء" و "أنا حرّة"- قراءة إحسان عبد القدوس 2021

 لماذا لم أحب قط فيلمىّ "أنا حرة" والنظارة السوداء؟

مقالة منشورة: ملف العدد- إحسان عبد القدوس

مجلة فنون للثقافة والأدب- مصر

23 أبريل 2021.

قراءة نقديّة مُعاصرة لفكر الكاتب والروائي المصري الشهير إحسان عبد القدوس، وبخاصة الفيلمين المذكورين، تفكيكهما من خلال فهم ديناميكية العلاقة بين الكاتب "الذكر" والأم، وإمكانية مراجعة ما نادت به تلك الأفلام في عام 2021.

صورة شخصية قديمة للكاتب والروائي المصري "إحسان عبد القدوس" في طفولته.

لماذا لم أحب قط "النظارة السوداء" و "أنا حرّة"- قراءة إحسان عبد القدوس 2021؟

لا أعلم عدد المرات التي شاهدت فيها فيلمى "أنا حرة"- 1959 أو "النظارة السوداء"- 1963 المأخوذين عن روايتين بنفس الاسم للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، ولكني أعلم أنه في كل مرة أفرغ من نهاية المشاهدة يكبر بداخلي حائط أسمنتي يعلو المرة تلو الأخرى ويقف حائلًا لرؤية مفهومىّ الحب والحرية كما تمّ تقديمهما في الفيلمين. أحاول استكشاف الأمر بشكل أكثر موضوعية عن طريق قراءة مقالات نقدية عن أعمال "إحسان عبد القدوس" وبخاصة السينمائية منها، وأتعثر دومًا في توصيف جلّ النقاد له، بأنه "كاتب الحب والحرية، وأصدق من عبّر عمّا يجول في عالم المرأة الانفعالي". في حقيقة الأمر، يُغضبني الشطر الثاني دومًا ويضعني في مثار السؤال الممتد بداخلي، لماذا يتمّ الاحتفاء بالكاتب الرجل إذا ما اختار طواعية أن تصبح شخصيات رواياته أو أفلامه شخصيات نسائية، أليس ذلك بديهي في فعل الكتابة كما يفترض به- هكذا أظن- أن تكن الكتابة في جوهرها فعل متجاوز للكاتب نفسه وإخلاصًا بلا مواربة لعالم أبطال الرواية/ الفيلم. أليس بديهيًا في تكوين هوية الكاتب أن ينغمر بالكلية في العوالم الانفعالية لشخوصه دون أن يتوحد بها، ويسرد ما رآه في رحلته لكهوف شخصياته المعتمة ويعبر بالقرّاء نحو فهم أعمق ليس لذواتهم فحسب وإنما تعقيدات الروح التي لا تفصح عن نفسها بكل تلك المباشرة المعهودة خارج الكتابة؟ لربما لم يتحقق ذلك في عالمى "أنا حرة"، و"النظارة السوداء" بالنسبة لي، على وجه الخصوص، ولذا دوما شعرتُ فور الفراغ من مشاهدتهما بالغضب والخيبة.


أفيش فيلم "أنا حرة"- لبنى عبد العزيز، شكري سرحان، صلاح أبوسيف


قبل أن تبدأ أحداث الفيلم، لدينا أفيش بعنوان "أنا حرّة" أشبه بصوت قرار واعٍ تمّ الوصول إليه مبكرًا، يخبرنا كل من المؤلف والمخرج والممثلة أن "الحدوتة" ستنتهي بتلك العبارة، وكان ذلك جديرًا أن يمنح المشاهد قبل أن يدلف الفيلم شعورً بالطمأنينة، غير أن هذا لم يحدث. بطلة الفيلم "أمينة" منذ الوهلة الأولى يتم نعتها بأنها صعبة المراس، تنتقل بنا الأحداث بين سياقات مختلفة يجمعها رابط واحد، إظهار كيف تتمرد "أمينة" على كل ما لايعجبها في تلك السياقات وكيف تصطدم في كل مرة تفصح فيها عن رأيها واختيارها، ونتيجة حتمية يتم تنفيذ العقوبة المجتمعية المتعارف عليها إما بالنبذ أو بالرغبة في "شد اللجام" ومحاولات التدجين المستمرة لفرخ البط الأسود. لا أنكر أنه في مشاهدة أحداث تجري في الأسرة أو تجمع النساء، أو في الشارع، وجدت تعبيرًا حقيقيًا عن صورة ذلك الصراع والصدام ومحاولات الكرّ والفرّ بالرغم من أني أشاهد "أمينة" في داخلي وأنا في عام 2020. حقق لي الفيلم "تنفيسًا" مؤقتًا حين أدرك أن اختياراتنا في الحياة كنساء في مجتمعاتنا لن تأتي بكل تلك السهولة، وأن لنا "رفيقات" حتى وإن كنّ عابرات كطيف متخيل لرواية أو من وراء شاشة عرض سينمائية. إذن من أين نبتت الخيبة؟

ينتهي الفيلم بالبطلة والبطل يتعانقان وينتصر الحب ويصفق المشاهدون، وأتململ كعادتي. إذن في نهاية المطاف الأمر لم يكن أن "أمينة" تسعى للتمرد على تقاليد مجتمعها البالية والتصدي لها، في نهاية المطاف تحول الأمر إلى البحث عن "رجل" بمواصفات "مختلفة"، إذن كانت رحلة "أمينة: رحلة البحث عن الحب وليس الانعتاق والحرية لبنات جيلها. ولا ضير في ذلك على الإطلاق، أن تصبح "أمينة" باحثة عن الحب، عن قصتها الشخصية في الامتزاج مع "آخر، لا ضير على الإطلاق، لكن ما شأن الحرية بذلك المسار! أشادت كثير من المقالات النقدية بالفيلم باعتبار "أمينة" رمزًا لكيان أكبر، وهو الوطن. ولكن حتى بتبني تلك الفرضية والتي لا يمكن اعتبارها سوى "مساحة" أخرى لإيجاد معنى أو طرح تفسير متخيل، لماذا إذن قضايا المرأة يتم تأطيرها ضمن قضايا الوطن، هل ذلك يمنحها اتساعًا في الرؤية، أم يفرغها بالكلية من مضمونها. أما عن حرية "أمينة" الذي وعدنا بها الفيلم منذ "عنوانه"، فلماذا الحرية تأتي إليها عن طريق "رجل" ظل يرقبها طيلة حياتها، ثم يتحين الفرصة المناسبة كى يقوم بدور "المعلم" الذي حتمًا في نهاية الأمر يود أن تصبح "تلميذته" النجيبة مُستحقة للعلامة الكاملة، حينئذ يمكنها الحصول على الجائزة والتكريم، وسيصبح هو ذات نفسه الجائزة بعد أن يقبل بها بعد أن تعبر كحصانٍ يستعرض قدراته بالقفز فوق حواجز معدة له مسبقًا، ينتظرها على الناحية الأخرى ليمنحها قلبه ومحبته!! لم يمنحني "أنا حرّة" ما وعدني به بتقديم مفهوم الحب والحرية من عالم المرأة، كما قيل لي.


أفيش فيلم "النظارة السوداء"- نادية لطفي


نفس المسار يُعيد نفسه مرة أخرى في  فيلم "النظارة السوداء" الذي تمّ تقديمه في عام 1963، غير أن المسار يصبح أقل تعقيدًا وأشبه بترسيم مبكر للحدود بين الأبيض والأسود بطريقة محسومة. ف"مادي" بطلة الفيلم بنمط حياتها في جزء الفيلم الأول لربما يثير الغضب في شريحة عريضة من جمهور الطبقة المتوسطة- كما أفادت المواد الأرشيفية عن الفيلم- بينما يأتيها الخلاص من خلال البطل الذي يحثها على إعادة مفهوم الحرية بداخلها لنراها تتحول بدرجة 180 في النصف الثاني من الفيلم، بل وزيادة على ترسيخ رغبتها في الانتماء لمقبولية جديدة، تبدأ في الانخراط في العمل الخيري من أجل الوطن. الفيلم لا يشعرني فقط بالخيبة، بل يجعل المقولة الشعبوية التي تتردد دومًا على أفواه الوعى الجمعي "طبعا إحنا مؤمنين بالحرية، بس بشروط" شديدة الإيلام بالنسبة لي.

سيبدو بديهيًا القول أني أشاهد الفيلمين بعين تنتمي لعالم  وسياق مختلفين، وفارق زمني يتجاوز الستين عامًا. وهذا يحمل بعض الصحة لا شك، لكن أليس هذا هو الهدف من المراجعة النقدية لكل ما نملكه من أرشيف إنساني، ألا نترك ما خلفه السابقين يبتلعنا بين الحين والآخر، بل نحوّله لعتباتٍ نتكأ عليها في لحظتنا الآنية. من ناحية أخرى، دفعتني الخيبة التي شاهدتها في الفيلمين المذكورين إلى البحث عن إجابة لتساؤلٍ آخر، كيف كانت النساء أنفسهن يرين الحرية في تلك الفترة الزمنية؟ ويضعني ذلك في مأزق تساؤل آخر، من "النساء" التي أود التعرّف عليهن عن قرب وأحملهما معي من تلك الحقبة ! من "النساء" المُخاطبات بمفاهيم الحب والحرية عبر الروايتين أو الفيلمين في تلك الحقبة؟

لم تبدو أيًّا من "أمينة" أو "مادي" عوامل جذب لي على الإطلاق، فوضعت عني كل ما يحملان من رمزية أو معانٍ تمّ إقحامها في وعيي القديم قسرًا. عدتُ إلى التاريخ، وحملني بلا أدنى مواربة نحو "درية شفيق"، والتي تزامن وجودها وعملها ما يحدث في مسار مواز لتلك الحقبة التاريخية. اقتبس الفقرة التالية من مسيرة "درية"، وأتوقف عندها قليلًا:

"في عام 1951، قبل ثورة 1952، اقتحمت درية شفيق- وهى قائدة الحركة النسوية ، وقد عكست التوجه الليبرالي للنسويات الحديثات ومعها 1500 امرأة البرلمان، مطالبات بحقوقهن السياسية كاملةً، وإصلاح لقانون الأحوال الشخصية، ومقابل عادل لساعات العمل.

بعد قيام ثورة يوليو أصدر مجلس قيادة الثورة بيانًا يعلن فيه عن حل جميع الأحزاب السياسية، وحظر جميع الحركات النسوية المستقلة، واستُبدلت تلك المنظمات والحركات بكل ما يتبع النظام. في تلك الفترة، ارتدت الحركة النسوية للعمل الخيري فقط.

في عام شاركت "دريّة" ومعها عدد من النساء في إضراب عن الطعام لعشرة أيام، اعتراضًا على لجنة دستورية لم يكن للنساء فيها مكان. وقد كانت أكثر المواجهات مباشرةً بينها وبين عبد الناصر في عام 1957، فقد بدأت في إضراب آخر عن الطعام في مظاهرة ضد احتلال مساحات من الأراضي المصرية من قِبل القوات الإسرائيلية، واعتراضًا (كما رأت) على «الحكم الديكتاتوري للسلطات المصرية والتي تدفع البلاد نحو الإفلاس والفوضى». تمّ وضع درة شفيق في الإقامة الجبرية لانتقادها جمال عبد الناصر، لتبدأ عزلتها من عام 1957 وتنتهي بانتحارها المأساوي في عام 1975."[1]

إذن في الفترة التي قُدمت من خلالها "أمينة" و"مادي" في تتبع لمسارهما الشخصي مفاهيم عن الحب والحرية، كان الواقع المصري في نفس الوقت  يمتلك جسدًا وروحًا وحياة متجسدة بكل وضوح، كانت لدينا رواية لم يلتقطها من وصفه النقّاد بأنه كاتب الحب والحرية! بالطبع الإجابة البديهية هى تجنب استثارة حفيظة السلطات والصدام مع "المغضوب عليهم" من قبل القيادة السياسية آنذاك، قد يصل إلى التواطؤ في تمريرمفهوم الحرية في تلك الفترة ليصبح  مفهومًا "مسالمًا" مدجنًا من الحرية التي تأتي في نهاية المطاف من "السلطة" الذكورية التي تبارك تلك الحرية التي تحصل عليها المرأة فقط حين تكون مستوفية لل"شروط".

قادني ذلك البحث إلى تساؤلٍ جديد، " هل مطلوب من الروائي/ صانع السينما في واقعنا العربي أن يكون نسويًا؟" أو بمعنى أدق أن يكون متماشيًا مع ما يحدث في واقعه إذا ما قرر أن يتناول "قضايا النساء"؟ يفتح مثل هذا التساؤل المزيد حول ما تمنحه الكتابة من حريات في التقاط من أين يود الروائي أو صانع السينما أن تبدأ قصته سواء داخل الرواية أو الفيلم وأين تنتهي، وذلك لا يمكن التفاوض حوله بأى طريقة. لكن يمكننا أن نتخفف قليلًا من منح الألقاب المجانية في توصيف العمل أو الكاتب، وبخاصة في منطقة يبدو فيها بشكل واضح أنه يقدم مفاهيم تقترب للتشويش حول الحب والحرية، تلك المفاهيم السامة المغلفة بغلاف فضفضاض من الدعوة المجاهرة بالحرية بينما تبطن بداخلها تدجينًا وتأطيرًا يكاد يقترب كثيرًا من يمينية التقاليد والأعراف التي تمّ الإعلان والوعد بتحطيمها. من ناحية أخرى، إذا ما أزحنا جانبًا فقط لبعض الوقت الإشادة بقدرة الكاتب على تقديم تنويعات من الشخصيات النسائية،  التي لا ريب حولها في تقديمه تنويعة من الشخصيات والتي في أساسها المرأة، لماذا لا يوجد ضمن كل تلك النماذج نموذجًا يشبه "روز" والدته!


صورة أرشيفية للسيّدة روزاليوسف وإحسان عبد القدوس


مرة أخرى، ستقف حرية الكاتب في اختيار الفصل الكامل بين حياته الشخصية والمهنية، غير أن شخصية "روز اليوسف" بكل ما تحمله من ثراء إنساني يصب مباشرة في مسارات تكشّف معنى الحب والحرية يصعب عدم التوقف عنده من الشخص العادي، فما بالنا بشخصية "كاتب" يقف ويتأمل ولا يمرر كل من يعبر في حياته، بل يتحول العالم بالنسبة له نسيجًا لا يمل من إعادة غزله بمختلف الشخوص المرة تلو الأخرى. تشير الكتابات الأرشيفية حول "إحسان عبد القدوس" أن هناك ثلاث نماذج نسائية تأثر بهن الكاتب، ألا وهنّ: والدته، عمته التي تولت تربيته، وزوجته. سأستبعد الزوجة لأن دورها يأتي مساندًا بعد تشكل اللاوعى- مخزن الإبداع الأكبر- في سنين الطفولة الأولى. تحمل طفولة "إحسان" لكثير من التأرجح بين عالمين عبر عنهما بكل قوة جسد العائلة من ناحية الأب التي اتسمت بالمحافظة على التقاليد والأعراف، وناحية الأم التي تجسدت في حياة "روز اليوسف" تلك السيدة التي توصف بأنها "أكبر من الحياة ذاتها" لما مرت به من تجارب وخبرات وتعقيدات جعل حياتها نسيجًا يصعب تكراره.

منحت الحياة الطفل "إحسان" سيناريو يتجسد من خلال والدته، غير أنه حين اختار كتب- في بعض الأحيان- وقدم لنا نماذج نسائية متنوعة، لكنها نماذج مرتبكة، تقف حائرة في المنتصف، يستسيغ لها أن تلعب دور الضحية، ضحية شىء أكبر منها، وسيأتي البطل ف النهاية ليقدم لها يد العون ويعبر بها نحو الأمان. نساءٌ لا يستطعن التحقق سواء بالاندماج الكلي في مجتمعاتهن أو بتحمل مسار التحرر للنهاية، أى نهاية تنظرها بطلاته!! نهاية مرتبكة.

نعم قدم الكاتب "إحسان" نماذج نسائية متنوعة أمر لا شك فيه، غير أن النموذج الذي كان الطفل بداخله يخشى منه ويحبه في آن واحد لم يظهر، "روز". يُقرضنا علم النفس بعضًا من الفهم بتوضيح أن اكثر النماذج التي نتعلق بها ونحبها في آنٍ واحد هى النماذج التي "نخافها" لأنها تستدعي بداخلنا "جُرح" قديم. وفي علاقة الطفل بوالدته، جرح الفقد وبخاصة في السنين الأولى يصبح شديد الوطأة وشديد التعقيد بين الرغبة الشديدة لاحقًا في البحث عمّا فقد كمحاولة للالتئام، يستتبع ذلك دوران المرء في ضبابية المشاعروالانفعالات والهواجس حول أحقيته واستحقاقه للمحبة من أول مصدر لها، والرغبة الموازية في "عقاب" من يظن الطفل أنها تخلت عنه، مُغلفةً بالرغبة في إخفاء ذلك كله بسلوك "التقديس" المبالغ به. كما يمنحنا أيضًا العلاج النفسي مسارًا للفهم والتكشف، حين نرى الطفل ينمو لكنه يميل إلى تكرار نفس البرمجة التي تربى عليها، و تجذرت في لاوعيه فباتت مثل ماكينة تحرك أفكاره وأفعاله ورغباته مستقبلًا. يكبر يبحث عمّا فقد عن طريق إعادة كتابة "سيناريو" قصة حياته المرة تلو الأخرى. يتحقق الشفاء والتعافي حين يتمكن من إعادة كتابة سيناريو حياته بطريقة مغايرة شرطة أن يتخلص في روايته من دور الضحية، قد يغير الأبطال، يحولهم من ضحايا مفعول بهم إلى فاعلين، هنا يتحقق الشفاء. 

كتب "إحسان" سيناريو قصص وروايات حقيقة لا مجازًا، لكنه لربما لم يشف من جرح "فقد الأم" في الطفولة، وحين وعى بأمه رآها وكأنها "بعيدة المنال" فاختار طوعًا أو لاوعيًا أن ينمو في "ظلها"، ومن هنا دخل الضوء.

 


الخميس، 8 أبريل 2021

عجائزنا المَوصومات: لا تعتذِرن عن التقدّم في السّن

 مقالة منشورة على موقع جيم

تاريخ النشر 8 أبريل 2021

موقع "جيم"موقع يهتم بالإنتاج المعرفي والنقدي والثقافي في شؤون الجندر والجنس والجنسانية خارج عن الخطاب السائد لوسائل الإعلام المهيمنة.


مجتمعاتنا ولغتنا حافلتان بالعبارات والجمل التي تنمط المرأة المتقدّمة في السن بطرق مختلفة، مثل "الجدّة الوقور" ذات الهالة الملائكية و"العجوز الشمطاء" التي تبدو كالمِسبة. فهل تحمل المُخيلة الجَمعيّة إمكانيةً تتجاوز تلك الصُور الروتينية للمرأة حين تشيخ؟

حين تُذكر الجدّة، تقفز إلى المخيّلة فورًا صورة "الجدّة الوقور" ذات الهالة الملائكية، تجلسُ مُطمئنةً على أريكتها، يُحيط بها الأحفاد من مختلف الأعمار ناظرين إليها بخشوعٍ وتبجيلٍ واحترام، قبل أن ينحصر دورها في سرد حكاياتٍ تقطر حكمة. تقطع حديثها بين الحين والآخر لتُتمتم بصوتٍ خافتٍ بعض التسابيح والأذكار، حتى إذا ما وقع عليها الموتُ وجدَها "طاهرةً" ولائقة. 

تسقط تلك الصورة الملائكية ما أن تزيح المفردةُ قيد أُنملةٍ لتنتقلَ من "الجدّة" إلى "المرأة العجوز". عندها، تباغتُنا صورةٌ ذهنيةٌ مُتعارفٌ عليها في الفولكلور والأساطير، تُشهِر نفسها باستمرارٍ منذ الطفولة: صورة العجوز الدميمة التي ترتدي ثيابًا سوداء وتمارس السحر. فهل تحمل المُخيلة الجَمعيّة إمكانيةً تتجاوز تلك الصُور الروتينية للمرأة حين تشيخ؟

قدّمت الباحثتان دافنا ليميش (Dafna Lemish) وفاردا موهيلبور (Varda Muhlbauer) دراسةً نقديةً عن صورة "المرأة العجوز"، تشير إلى تعرّضها لتمييزٍ مضاعفٍ في الثقافة المعاصرة، الأول على مستوى السّن والثاني على مستوى الجندر. ووفقًا للدراسة، تسود صورةٌ ذهنيةٌ محددةٌ يُروّج لها عن "المرأة العجوز"، تمرّ بأربع مراحل أساسيةً وتؤثّر في وجود وحيوات أولئك النساء في المجتمع، هي: الحجب والتعتيم، التنميط والنمذَجة، الإقصاء والخندَقة، والإدماج في المجتمع وفق شروطٍ محددة. وتتحدّث الباحثتان عن وجود حاجةٍ كبيرةٍ إلى مناقشة تلك الصُور الذهنية، كي تستطيع النساء العجائز منح تجربة التقدم في السّن معنًى يتفق وخبراتهنّ وواقعهنّ المُعاش.1

الصورة تصميم فريق عمل جيم

مانيفستو النساء المتقدّمات في السّن

وضع النظامُ الأبويّ مسارًا مُحددًا لتشيخَ المرأةُ ضمن حدوده. أحكم هذا المسار قبضَته على النساء بالقوالب الجاهزة والقواعد المرصوصة رصًا في اللاوعي الجَمعي. ذلك ليس بالأمر الجديد، فهو المنهج القمعي ذاته الذي يلاحق النساء دومًا في كافة مراحل وجودهنّ بُغية تنميطهنّ والسيطرة عليهنّ. 

تبدو لنا الصورة الذهنية السابقة عن "الجدّة الوقور" محاولةً ظاهريةً للتبجيل مكسوّةً بشفقةٍ وودّ، إلا أنها تنطوي على رغبةٍ في تأديب النساء العجائز عبر رهبنتهنّ بعد أن فقَدن امتيازهنّ الوحيد للبقاء داخل المنظومة الأبوية، ألا وهو جاذبيتهنّ الجنسية/الجسدية وقدرتهنّ على العمل والإنتاج. يتحوّل باقي أفراد المجتمعات البطريركية المحيطين بالنساء العجائز من أهلٍ وأقارب - وحتى النساء أنفسهنّ - بفعل الاستلاب الذهني على مرّ الأزمنة إلى عيونٍ مُحدّقةٍ إلى الوراء، تعتاش على نوستالجيا النظر في ألبوم صورٍ بالأبيض والأسود تعرض وجوهًا نضرةً وبشرةً لم تحتلّها بعد علاماتُ الزمن. 

تُبقي هذه الدينامية المُجتمعية على النساء العجائز بدافع الشفقة بقاءًا وجاهيًا مجتمعيًا، شريطة أن يلتزمن بصورة "الجدّة الوقور"، بينما يوظّف المجتمع كل أدواته لإقصائهنّ والدفع بهنّ إلى الاختباء وتجريدهنّ من أيّ أثرٍ أو وجودٍ خارجي - ما عدا داخل المانيفستو المُعدّ لهنّ مُسبقًا - أو يتلاعب ذهنيًا بهنّ في حالات العجز والوهن لاستلاب قوتهنّ المالية. وهناك حالاتٌ عديدةٌ لنساءٍ وقّعن دون إرادتهنّ توكيلًا بإدارة أموالهنّ لأبنائهنّ أو أزواجهنّ أو أحد ذكور العائلة، ليستوليَ هؤلاء على كل شيءٍ لاحقًا. 

يعمل المجتمع الأبويّ على اختراع وفرض أنماطٍ من القولبة على النساء في كافة أعمارهنّ، ما يدفعهنّ إلى العزلة ويعمّق شعورهنّ بالاغتراب. ويصل الأمر حدّ أن تُحرم المرأةُ الوعيَ بذاتها والاستبصار بنقاط قوتها وقدرتها على التجدّد والتماهي مع نهر الحياة. عبر الزمن، جرى تقطيع أوصال كلّ ما من شأنه منح النساء القوةَ والتجذّر، خشية أن تُغير النساءُ شروط اللعبة أو يستحدثن لعبةً جديدةً وفق شروطهنّ تنبثق عن خبراتهنّ وتجاربهنّ. 

أصبح البقاء داخل "المتاهة" المرسومة بعنايةٍ عبر الأزمنة لتشكيك المرأة في ذاتها، أمرًا مصيريًا لمجتمع السلطة الأبويّ الذي يستمدّ هيمنته من وجود طرفٍ مقهورٍ يُغذّي نرجسيّته السّامة. مثل هذا الاستلاب وما يتبعه من عزلةٍ وإقصاء، يصبح جليًا لدى النساء العجائز اللواتي تتضاعف في داخلهنّ مشاعرُ العزلة والاغتراب بسبب بعدهنّ عن جوهر ذواتهنّ أكثر فأكثر. فمَن يستطيع أن يحفر في أذهان النساء العجائز أنهنّ مقبولاتٌ ولسنَ عبئًا ثقيلًا، وأنّ ما يختبرنَه من تحوّلاتٍ ليس ضربًا من الجنون أو وصمًا مستمرًا بالهستيريا، وأنّ هناك خياراتٌ للحياة تتجاوز انتظار الموت؟

كيف تشيخ المرأة في اللغة؟

في اللغة العربية، المرأة الطاعنة في السّن هي امرأةٌ عجوز. لكن وفقًا للسانِ العرَب، يمكن القول "لامرأة الرجل وإن كانَت شابة: هي عجوزه، وللزوج وإن كان حدثًا: هو شيخها". كما وجدتُ أن أكثر المصطلحات التصاقًا بالذاكرة الجَمعية للثقافة العربية هي مفردة "شمطاء" التي غالبًا ما تقترن بكلمة "عجوز". يخبرنا القاموس أن "الشمطاء" هي من خالط سوادُ شعرها البياض، أو الشجرة التي سقطَت أوراقها. وبالرغم من أن للصفة "مذكرٌ" هي "أشمط"، إلا أنها لا تُطلق على الرجال الطاعنين في السّن، فعبارة "رجلٍ أشمط" تبدو غير مألوفة. هنا تساءلتُ، لماذا اقترنَت صفة "شمطاء" بالنساء العجائز كـ"مسبّةٍ" بالرغم من أن معناها غير سلبي؟ ومن أين أتَت تلك الصورة الملتصقة بها في الاستخدام الشعبي المعاصر؟ 

مستعينةً بعلم أصول الكلمات، وجدتُ أن وصف المرأة بالعجوز الساحرة والمُنفّرة وسريعة الغضب قد ظهر في اللغة الإنجليزية القديمة، لاسيما في بداية القرن الثالث عشر.

ولعل المثير للدهشة أن المفردة الإنجليزية القديمة، "Hag"، تقترب في النطق من كلمة "حاج" في اللغة العربية، فنحن عادةً ما ننادي كبار السّن بـ"يا حجّ" أو "يا حجّة" لإضفاء المزيد من الوقار والطّهر عليهمن.

أما جذر المفردة في اللغة الإنجليزية القديمة، فيَرِدُ في الألمانية القديمة بمعنى "الساحرات والأشباح"، بينما يُفيد في النرويجية معنى "السيدة الكسيحة التي تنتمي إلى عالم الجنّيات أو الشياطين". أما في اللغة الليتوانية، فتعني المفردة "الروح التي تطير بعيدًا، وتتبعثر وتختفي".

تذكر الباحثة روزاليند كلارك (Rosalind Clark) في دراستها النقدية الأدبية عن أصل الكلمة، أن أحد المعاني المُقترنة بالجذر المؤسّس لكلمة "المرأة العجوز" بالإنجليزية، كان يدلّ على "المرأة ذات القوى الروحانية العالية والقدرات الخارقة، والتي يجب احترامها والخوف منها". وتشير الباحثة هنا إلى تأثير الديانة الوثنية التي سادت في أوروبا الشمالية آنذاك واعتبرَت المرأة التجسيدَ الأول للألوهة، قبل أن تختلط المعاني في الثقافة الشعبية ومعها دلالاتُ الكلمة.2

أما قاموس اللغة الإنجليزية المعاصر، فيوردُ المعنى الفولكلوري القديم لمفردة "المرأة العجوز" كما يلي: "امرأةٌ ساحرةٌ تمتلك قدراتٍ روحانيةً ويُمنع استخدامها ضد النساء أو لتأجيج الكراهية ضدهنّ".

هل يمكننا إذًا طرحُ فرضية أنّ اللغة العربية، بعكس الإنجليزية، لم تنحَز سلبًا إلى "تنميط المرأة العجوز"؟ لكن يُحسب للّغة الإنجليزية أنها طوّرَت نفسها وتخلّت عن إرث الكراهية المنتمي إلى العصور المُظلمة، فلماذا إذًا بقيَت الكراهية والصورة المُقولبة المقترنة بعبارة "عجوز شمطاء" حاضرةً في الأذهان حتى اليوم؟

الخيال الأدبي يُعيد الدماء للجدّات "غريبات الأطوار"

في مطلع عام 2021، أعادَت صحيفة ’نيويورك تايمز‘ طباعة ونشر رواية 'بوق السمع' للكاتبة والفنانة النسوية لينورا كارينغتون (Leonora Carrington). وكانت الرواية ظهرَت للمرة الأولى عام 1974 لتحكي قصة ماريان ليذربي، امرأةٌ في سنّ الثانية والتسعين، تشيخ وفق مانيفستو المجتمع؛ فهي شخصيةٌ مسالمةٌ للغاية وحالِمة. تعاني ماريان من فقدان السمع، ويتضاعف شعورها بالعزلة عندما تشعر بأنّ مَن حولها يتآمرون عليها. أما صديقتها كارميلا، فمن لحظة ظهورها الأولى في الرواية، تضربُ عرض الحائط الأحكامَ المُسبقة عن النساء العجائز. تحرص كارميلا على صبغ شعرها باللون الأحمر القاني، لا تكفّ عن كتابة الرسائل لحبيبٍ مجهول، تدخّن بشراهةٍ لأنها تشعر بمتعة نفث الدخان في الهواء، وتطلق الريح كلّما تسنّى لها الأمر إذ يُشعرها بالارتياح، غير مباليةٍ بكلام الناس ونعتهم لها بـ"غريبة الأطوار".

الواقع يخبرنا كل يومٍ أنه حين تطالب النساء باسترداد قوتهنّ أو وعيهنّ، تتهاوى كل أقنعة السلطة المتمثّلة في تبجيل العجائز، والشفقة نحوهنّ وغير ذلك من صورٍ مُهترئةٍ

ترسم الرواية خيطًا إنسانيًا للصداقة بين سيدتَين متقدّمتين في السّن، تبدوان على طرفَي نقيض. لكن مع توالي الأحداث، نتذكر "أُختيّة النساء" وضرورتها في دعم بعضنا البعض. هكذا، تُهدي كارميلا - "غريبة الأطوار" - صديقتها الحالِمة بوقًا للسّمع كي تخفّف من وحشتها. وما أن تبدأ ماريان باستخدامه، حتى يبدأ عالمُها القديم الذي صمّت أذنَيها عنه في محاولةٍ للتماهي وتجنّب الإقصاء، بالكشف عن وجهه القبيح. تتأكد عندها من تآمر ابنها الوحيد مع زوجته بعد أن ملّا انتظار موتها، فيُرسلانها إلى مؤسّسةٍ مختصّةٍ برعاية كبار السّن، حيث تواجه ماريان بصورةٍ فجّةٍ ومكثفةٍ كل مظاهر النفاق المُجتمعي والديني تجاه النساء، لاسيما الطاعنات في السّن. وللمرة الأولى في تاريخها، تمارس ماريان التمرد رافضةً الانصياع لكلّ ما مرّت به سابقًا في العالم الخارجي، فيتمّ إقصاؤها ومعاقبتها بقسوة. عندها، تأتي صديقتها كارميلا لإنقاذها وتنطلقان معًا في رحلةٍ غرائبيةٍ تشبه رحلة ’أليس في بلاد العجائب‘.3 تبدأ رحلة "أُختيّة كارميلا وماريان" ببواباتٍ للعبور إلى العالم السفلي المليء بالأساطير القديمة، غير أنهما تقابلان الوجهَ الأنثوي الذي يقلبُ كل تلك الأساطير رأسًا على عقب. تنتهي الرواية على نحوٍ غير متوقع، تاركةً القارئة لتُعيد التفكير في كل ما كانت تظنّ أنها تفهمه كراحةِ يدها عن عالم النساء المتقدّمات في السّن.

من خلال الرواية، تقوم البطلَتان الموصومتان بغرابة الأطوار بصنع هامشٍ للحياة لا تصِله قبضةُ السلطة الخارجية، فترفُضانها عبر اختراع حياةٍ جديدةٍ متوسّلتَين الاتصال بـ"روح الألوهة الأنثوية القديمة". في رحلة "أُختيّة كارميلا وماريان"، نقرأ كيف تعيش المرأتان وسط صفحات ’بيستيس صوفيا‘، كتاب الحكمة وتفسير نشأة الكون وفق العقيدة الغنّوصية والمرويّ بصوت القوة الأنثوية. كما تتجسّد للبطلتَين باربيلو، وهي وفق العقيدة ذاتها، محاولةُ التجسّد الأولى للألوهة في هيئة أنثى، فتشعران بالقوة تتدفّق في أوصالهما رغم كل ما ينعق حولهما ليقنعهما بأنّ عظامهما هشّةٌ وذاكرتَيهما معطوبتان ومسمّمتان بالخيال، ذاك الخيال غير المُباح سوى في طفولةٍ غادرَتها البطلَتان منذ عشرات السنين.

العجوز تُهدي النسوية مزيدًا من غرابة الأطوار

لاقت رواية ’بوق السمع‘ في طبعتها الجديدة استقبالًا هائلًا من الناقدات والنقّاد والقرّاء والقارئات لما قدّمته من عوالم سرياليةٍ في السرد، ووُصِفت بأنها التوأم السحري لـ'أليس في بلاد العجائب'، إذ تتحوّل فيها أليس إلى ماريان ليذربي وكارميلا في سنّ التسعين. 

تناولَت الأديبة والناشطة الحائزة على جائزة نوبل أولغا توكارتشوك (Olga Tokarczuk) الروايةَ في قراءةٍ نقديةٍ معمقةٍ من منظورٍ نسوي، وأفردَت لها مقالةً بعنوان ’غرابة الأطوار والنسوية‘. وتشير الكاتبة في مقالها إلى أن بطلتَي ’بوق السمع‘ تقتربان من مفهومٍ لطالما شابهُ الوصمُ والتحقير، هو "غرابة الأطوار"، معتبرةً أنّ النسوية بحاجةٍ إلى تفكيكه والتصالح معه، بل واتخاذه بديلًا واجبًا في شريعة النسويات مقابل البطريركية. فوفقًا لها، كل ما يوصَف بغرابة الأطوار هو فعلُ اقترابٍ من صفات الألوهة الأنثوية في الروح القديمة التي حرصَت على طمس المعرفة والاتصال بها المجتمعاتُ الحداثية المتأسّسة على الأنظمة البطريركية. وتستكمل توكارتشوك التحليل بالتأكيد على أن "غرابة الأطوار" بالنسبة إلينا كنسوياتٍ هي بمثابة استردادٍ للاتصال مع ما فُقد من قوةٍ ومعرفةٍ وحكمةٍ قديمة. 

وتستَتبع توكارتشوك تعليقها بتوضيح نوع الاستلاب الذي تعرّضَت له امرأةٌ في سنّ التسعين، مقتبسةً قول بطلة الرواية ماريان: "لم أكُن خائفةً من بقائي وحيدةً بسبب تقدّمي في العمر، بل كنتُ أخشى أن تُنتزع مني وحدتي من قِبَل عديمي الرحمة"؛ فالعجوز التسعينية ظنّت أن بمقدورها استرداد قوّتها بعد أن قدّمَت فروض الولاء ودفعَت صكوك وقرابين الانتماء للسلطة طيلة حياتها السابقة، فإذ بها تُعاقب على انخراطها في عالم الساحرات الموصومات. 

في الحقيقة، أتفق مع قراءة توكارتشوك، فالواقع يخبرنا كل يومٍ أنه حين تطالب النساء باسترداد قوتهنّ أو وعيهنّ، تتهاوى كل أقنعة السلطة المتمثّلة في تبجيل العجائز، والشفقة نحوهنّ وغير ذلك من صورٍ مُهترئةٍ تبدأ بالتساقط واحدةً تلو الأخرى فور تعرّضها لتهديدٍ متخيلٍ يمسّ كل ما جرى تركيبه بعنايةٍ من صُورٍ مُنمّطة.

تقف النساء اللواتي تجاوَزن سنّ السبعين وحيداتٍ خارج النسوية، ونقف نحن في داخلها وحيداتٍ من دونهنّ

على النحو عينه، أتفق مع مناداة النسوية دومًا بكسر العزلة المفروضة على التقدم في السّن. تقف النساء اللواتي تجاوَزن سنّ السبعين وحيداتٍ خارج النسوية، ونقف نحن في داخلها وحيداتٍ من دونهنّ. هل يمكن لعوالمهنّ التي يُنفَين إليها منحنا نحن النسويات والنسويّين فهمًا طازجًا ينتمي إلينا وينبع من بواطننا؟ هل نحتاج نحن كنسوياتٍ ونسويّين للعبور إليهنّ، اكتساب القوة من عوالمهنّ وضمهنّ إلينا في "أُختيةٍ" متبادلة، لاسيما أولئك الموصومات بغرابة الأطوار؟

يخبرنا علم النفس أن الكراهية التي مُورسَت ضد النساء عبر الأزمنة وقولبتهنّ جاءت نتيجة الخوف من قوتهنّ إن هنّ اكتشفنَها. فهل بإعادة الاتصال بالقوة المفقودة، تعود الساحرات، لكن هذه المرة وفق شروطهنّ؟

2021: عام عودة الساحرات

لم يعُد النقاش بشأن "غرابة أطوار" النساء العجائز مطروحًا في الساحة الأدبية فحسب، ففي شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام الذي شهد عودة رواية ’بوق السمع‘ والضجّة التي رافقتها، منحَنا الواقع المصري حادثتَين تستحقان الانتباه.

تصدّرَت الحادثة الأولى الأخبار على موقع غوغل والترند على مواقع التواصل الاجتماعي، فهبّ الجميع يتكلّمون عن نساءٍ متقدّماتٍ في السّن في صدد الاحتفال في أحد النوادي الخاصة بتورتةٍ على شكل قضيب. هؤلاء النسوة الموصومات بـ"غرابة الأطوار" نتيجة "عدم احترامهنّ سنّهن"، تعرّضنَ لحملة سبٍّ وشتمٍ ومضايقاتٍ بلغَت حدّ طلب البرلمان المصري من النادي المعني إجراء تحقيقٍ عاجلٍ وفوري واتخاذ إجراءاتٍ صارمة بحقّ السيدات. أربكَت الحادثةُ البنيةَ الذكورية الهشّة والسّامة في مجتمعٍ تأسّس على الكبت والانضباط، فكان لزامًا أن يستدعي إرثه من الكراهية لإجبارهنّ على الاعتذار عن "فعلتهنّ"!

بعد يوميَن من تلك الحادثة، تصدّر خبر وفاة الداعية الإسلامية عبلة الكحلاوي صفحات الأخبار. في تلك اللحظة، يبدو أن المجتمع وجد أمانه المهدّد في الصورة التقليدية التي قدّمتها الداعية الراحلة، إذ وصفها كثرٌ في تأبينها بـ"الأم الرؤوم" و"الجدّة الحانية". هكذا، تحوّلَت جنازتها إلى احتفاءٍ جماهيري يليق بالقدّيسين والقدّيسات بُغية استرجاع المجتمع جزءًا من طمأنينته الزائفة. 

الأيام تمضي. يراهن الجميع على ذاكرةٍ مُجتمعيةٍ كذاكرة السمك. اختفَت نساء التورتة الجنسية. توارَين عن الأنظار كما شاء لهنّ قانونُ السلطة، لا لأنهنّ فقَدن السمع مثل بطلة رواية ’بوق السمع‘، بل لأنهنّ بالَغن في إظهار الحياة وإعلان وجودهنّ، وارتضَين أن يكنّ كارميلا التي لم تكترث قط بنعوت غرابة الأطوار، بل صنعَت منها نيشانًا زيّنت به حياةً عاشتها من دون أن تقدم أيّ اعتذار.

أودّ لو تتوقف كلّ عجوزٍ عن الاعتذار، وأن تقف بوجه كل ما يتسلّل خفيةً في أوصالها ليجبرها على الانسحاب من مسرح الحياة. أريد أن تكفّ العجائز عن إعلان التوبة عن خطيئةٍ مُتخيّلة. ففي كل مرةٍ تتوقّف فيها جدّاتنا وأمهاتنا عن الاعتذار، نتصل بهنّ أكثر، ونستعيد بدورنا رغبتنا في الامتناع عن شرح ذواتنا في مراحلنا العمرية كافة. 

فَليكُن الاعتذار الوحيد لذواتنا في كل مرةٍ نخونُ فيها أنفسنا ونفقد الاتصال بجوهرنا. وإذا تطلّب الأمر أن نكون ساحرات، فلنوقظ الساحرات في دواخلنا ولنستردّ سحرَنا القديم.

  • 1. Dafna Lemish and Varda Muhlbauer, ‘Can’t Have It All: Representations of Older Women in Popular Culture’, Women & Therapy Journal, Vol. 35, Issue 3-4, 2012, p. 165-180
  • 2. Rosalind Clark, ‘The Great Queens: Irish Goddesses from the Morrígan to Cathleen Ní Houlihan’, Maryland, U.S.A: Rowman & Littlefield Publishers, 1991, p. 5, 8, 17, 25
  • 3. تمكن مشاهدة فيلم الرسوم المتحركة 'أليس في بلاد العجائب' على هذا الرابط.

الجمعة، 26 مارس 2021

 مقطع صوتي من قصيدة "كان طفلًا"

أداء صوتي: ريهام عزيز الدين.

شعر: ريهام عزيز الدين

القصيدة كاملة

موسيقي: قانون تركي.

مسمع من عمل فني قيد التجهيز: دراما إذاعية بعنوان"صندوق باندورا" سيتم إطلاقها خلال العام الحالي 2021 .





الخميس، 18 فبراير 2021

علم النفس النسوي: تأريخٌ لاسترداد قوتنا المُستلَبة

 مقالة منشورة على موقع "جيم"

بتاريخ 18 فبراير 2021

موقع "جيم"موقع يهتم بالإنتاج المعرفي والنقدي والثقافي في شؤون الجندر والجنس والجنسانية خارج عن الخطاب السائد لوسائل الإعلام المهيمنة.


 هل ثمة تاريخ غير مروي للنساء في علم النفس؟ هل هناك دورٌ آخر أدّته النساء غير أن يكنّ "مريضاتٍ" أو مستقبلاتٍ للخدمة العلاجية أو فأرات تجارب؟ لماذا تُعالَج النساء بعلمٍ لم يشاركن أنفسهنّ في إنتاجه وبنائه وتكوينه؟ ولماذا لا يُعترف بهنّ وبمنجزهنّ العلمي في المجال ذاته؟ ريهام عزيز الدين تحاول الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها في هذا البحث الاستكشافي.

حين يأتي ذكر العلاج النفسي، دائمًا ما يقفز اسم سيغموند فرويد (Sigmund Freud)، وربما يكون مُحاورنا أكثر اطّلاعًا فيُضيف بعض الأسماء الأخرى مثل كارل يونغ (Carl Jung)، كارل روجرز (Carl Rogers) وأوليفر ساكس (Oliver Sacks). لكن المشكلة هي أنّ الأسماء ذاتها تُطرح من دون أن نضع على الطاولة أيضًا أسماء طبيباتٍ لديهنّ مُنجزٌ معرفي في هذا التخصّص الدقيق. هل ثمة تاريخ غير مروي للنساء في علم النفس؟ هل هناك دورٌ آخر أدّته النساء غير أن يكنّ "مريضاتٍ" أو مستقبلاتٍ للخدمة العلاجية أو فأرات تجارب؟ لماذا تُعالَج النساء بعلمٍ لم يشاركن أنفسهنّ في إنتاجه وبنائه وتكوينه؟ ولماذا لا يُعترف بهنّ وبمنجزهنّ العلمي في المجال ذاته؟ كيف يمكننا قراءة المعرفة التي أُنتجت في علم النفس والعلاج النفسي تحديدًا إن لم نكُن نسوياتٍ ونسويّين؟ ما معيار تقييم فاعلية النساء في هذا المجال، هل هو عدد الطبيبات الملتحِقات بالتخصّص مقارنةً بالرجال، أم عدد الطبيبات الحاصلات على الدكتوراه في التخصّص ذاته، أم عدد الطبيبات القادرات على تأسيس مدرسةٍ خاصةٍ بهن؟ هل يحتكر الرجال المعرفةَ المُنتَجة في مجال العلاج النفسي كما يحدث في شتى أنواع المعرفة؟ كيف يمكن تفعيل دينامية نقل المعرفة عن النساء إليهنّ إن لم يشاركن هنّ في إنتاج تلك المعرفة انطلاقًا من عوالمهنّ الذاتية؟

هذه تساؤلاتٌ قد لا تتسع لها مقالةٌ واحدة، لكنها تظل مشروعة. حين بدأتُ أبحث في علم النفس النسوي كانت تعتريني شكوكٌ كثيرة، هل هو مجرد إلصاقٍ جديدٍ لمصطلح "نسويّة"، أم أنّ هناك تاريخٌ كاملٌ وجوانب غير مكتشفةٍ يمكنها تقديم بعض الإجابات على التساؤلات أعلاه؟ فلنكتشِف معًا.

تاريخ علم النفس النسوي

ابتدعت الطبيبة النفسية الألمانية كارين هورني (Karen Horney) مصطلح "علم النفس النسوي"، وهي تُعدّ رائدة هذا التخصّص من خلال ما قدمته من أوراقٍ بحثيةٍ بلغ عددها أربعة عشر بحثًا بين عامَي 1922 و 1937، استكشفَت فيها معنى علم النفس النسوي. وفي عام 1967، جُمِعت هذه الأبحاث ونُشِرت في كتابٍ يحمل عنوان التخصّص: 'علم النفس النسوي'. قدّمت هورني في بحثها المنشور عام 1935 بعنوان "معضلة الماسوشية النسائية" خريطةً مقترحةً لتفكيك علم النفس بصورته التقليدية آنذاك، لتُعاد قراءته في ضوء فهم الأنماط السلوكية للنساء. كما تقصّت دور الثقافة المجتمعية في تشجيع النساء ليصبحن أكثر اعتمادًا على الرجال عاطفيًا بُغية الحصول على الحب، والصورة الاجتماعية المقبولة، والثروة، والاهتمام والحماية. كما أن استكشاف دينامية الصوَر التي تختزنها المرأة عن ذاتها وتحرّكها من أجل البقاء والحصول على القبول المجتمعي، وفقًا لقول هورني، تأتي من صورةٍ صنعها الرجل عن المرأة كشيءٍ هشٍ ورقيقٍ وجميل، وهو تأطيرٌ يتنافى واحتياج الإنسانة إلى الوعي بذاتها وكُليّتها.

ركّزت هورني في مجال بحثها على استكشاف الدور الذي يؤدّيه العقل الواعي، لا فقط المكبوت في اللاوعي

لم تكن هورني صوتًا يأتي من فراغ العدم أو يحاول إثارة ضجةٍ مفتعلةٍ في ذلك الوقت، بل على العكس من ذلك، فمُنجزها المعرفي يضرب بجذوره في مراحل ما قبل تأسيسها علم النفس النسوي. كانت هورني بين الفاعلين والفاعلات في الجبهة النقدية لما قدّمه فرويد، إذ على الرغم من اتفاقها معه في مناحٍ رئيسةٍ عدّة، احتفظَت بهامشٍ للتفكير استطاعَت من خلاله أن تعارض مدرسته في التحليل النفسي. ومن أهم نقاط نقدها لفرويد، اعتقادها بوجود عوامل كثيرةٍ تؤدّي إلى اضطراب الشخصية، تأتي من الظروف المجتمعية المحيطة، لا سيما في مرحلة الطفولة المبكرة. وركّزت هورني في مجال بحثها على استكشاف الدور الذي يؤدّيه العقل الواعي، لا فقط المكبوت في اللاوعي. كما ناهضَت مفهوم فرويد عن غيرة النساء من الرجال وما أسماه بـ"حسد القضيب"، قائلةً بوجود حالة "حسد الرّحم" الذي يثير أيضًا الغيرة لدى الرجال المضطربين، مفسّرةً رغبة الرجل في النجاح والإنجاز والتحقق كبدائل يصنعها اللاوعي لتعويض عدم قدرته على الخلق، والولادة ورعاية الأطفال. كما ساءلَت هورني سردية "عقدة أوديب" المهيمِنة التي تبنّاها كثيرٌ من تلامذة فرويد في التحليل النفسي، واستعاضَت عنها بسرديةٍ بديلةٍ تفيد بأن التعلّق بأحد الوالدَين ونشوء مشاعر الغيرة من الوالد الآخر، ترجع إلى القلق الناجم عن اضطراب العلاقة الوالدية في مرحلتها المبكرة، لا عن العقدة الأوديبية المتوارثة في التحليل النفسي. 

بالرغم من انقطاع هورني في منتصف الثلاثينات عن تطوير أبحاثٍ خاصةٍ بعلم النفس النسوي، استمرّت في تطوير بحثها في العلاج النفسي مُؤسِّسَةً "نظرية النضج" ككُلٍ إنساني غير محدّد الهوية الجندرية. يقدّم برنارد باريس (Bernard Paris) - كاتب سيرتها الذاتية - فرضيّته بشأن هذا الانقطاع قائلًا: "بدَت هورني كمَن فقدَت الشغف، لربما لم تكن في حقيقة الأمر نسوية، على الرغم من اعتبارها بما لا يدعُ مجالًا للشك، رائدةً في تقديم رؤيةٍ نقديةٍ للبطريركية الفكرية و"مركزية القضيب" المهيمِنة في التحليل النفسي سواء في ثقافة مجتمعها حينذاك، أو في ثقافة التعلم التي لم تختلف كثيرًا". ويذهب باريس إلى حدّ القول إنّ مناهضتها لمُنجز فرويد المعرفي ساهم كثيرًا في تمهيد الطريق وإلهام المعالِجات النسويات لاحقًا، حتى وإن لم تنخرط هي ذاتها كفردٍ في الصراع السياسي أو في الحركة النسوية الجَمعية". ويردف قائلًا إن إسهام هورني في فهم الشخصية الإنسانية عبر ما طرحَته في "نظرية النضج" يُعد إسهامًا لا يُستهان به في تطوّر البحث النفسي، غير أنه لم يلقَ اعترافًا يليق به.

ضربةٌ لصحة النساء النفسية 

كما ذكرنا سالفًا، توقفَت هورني عن تغذية أبحاثها في علم النفس النسوي مع نهاية عام 1937، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية قرابة عامَين. تغيرَت خريطة الصحة النفسية جرّاء الحرب، غير أنها بلغت خطورتها عام 1942 حين استحدَث عالم النفس الأميركي إدوارد ستريكر (Edward Stricker) مفهوم "الالتصاق بالأم" الذي يُعنى بالتصاق الصبية الذكور بأمهاتهم إلى حدٍّ يعطّل نضجهم كـ"رجال"، وقد أُدرجَ ذلك المفهوم كعَارضٍ مَرضي ضمن مؤشرات الاضطراب النفسي لدى منظمة الصحة الأميركية آنذاك. كان يمكن لهذا الكشف أن يمشي جنبًا إلى جنبٍ مع مسار النظرية النسوية الساعية إلى تحرير النساء وعدالة الحقوق، لكن المثير للدهشة هو أنه دفع بمسار علم النفس نحو الاعتقاد باحتياج النساء إلى مزيدٍ من "العلاج النفسي" باعتبارهنّ أصبحن نساءً "ذوات نزعةٍ ذكَرية" وأمهاتٍ يُعطلن تطوّر "رجولة" أبنائهنّ الذكور. كما جرى تحويل مسار البحث في ذلك الوقت إلى التمترس خلف الأدوار التقليدية للمرأة كـ"أم" والشكل المُتعارف عليه للأسرة كوحدةٍ اجتماعية. أكثر من ذلك، اعتُبِر امتلاكُ المرأة أفكارًا مستقلةً وسعيها إلى تحقيق ذاتها خارج المنزل بحثًا عن السعادة، مؤشراتٍ خطيرةً تهدد المجتمع.

علم النفس النسوي: استردادُ القُوة 

شهدَت فترة السبعينيات حراكًا واسًعا عكَس التقاء النظرية النسوية بعلم النفس، وانطلق من مدينة تورونتو في كندا. صنع هذا الحراك جسرًا لالتقاء قضايا نفسيةٍ ومجتمعيةٍ في إطارٍ نسوي بلا مواربة، مثل قضية الإجهاض. وفي عام 1971، قدّمت الأكاديمية والمعالجة النفسية النسوية إستر غرين غلاس (Esther Greene Glass) بحثًا علميًا استمر قرابة خمس سنوات، جمعَت فيه مقابلاتٍ عديدةً عمّا كان يتداوله المجتمع الكندي حينذاك من سردياتٍ وأساطير مجتمعيةٍ بشأن الآثار النفسية للإجهاض. نُشرت الدراسة لاحقًا عام 1976 في كتابٍ مستقلٍ بعنوان "بعد الإجهاض"، وساهمَت في تحدي القانون الكندي الخاص بالإجهاض آنذاك. في الفترة ذاتها، أنتجَت الأكاديمية والنسوية الكندية نورا روك (Nora Ruck) بالشراكة مع الفنانة النسوية الأميركية إيرين بيسليكس (Irene Peslikis) سلسلة مقالاتٍ بعنوان "تحرير العقول - زيادة الوعي بين النسوية وعلم النفس في السبعينات"، أكّدتا فيها أن ازدياد الوعي بتقاطع النظرية النسوية مع علم النفس من شأنه التقليل من حدّة التوترات الناجمة عن التباس ما هو شخصيٌ وما هو سياسي. استطاعت كتابات روك وبيسليكس أن تمنح علم النفس النسوي موضعًا أكثر وضوحًا عبر الإشارة إلى قدرة الوعي بذلك التقاطع على تقديم تفسيراتٍ ثريةً للممارسات اليومية حتى خارج غرفة العلاج، بل والمساعدة في إنتاج وتطوير المعرفة العلاجية المؤسّسية. ويمكن لكل ذلك أن يتحقق عن طريق إفساح المجال أمام النساء لدراسة تخصّص علم النفس النسوي بالتزامن مع تموضعهنّ في الفضاءات العامة الأخرى، كي يمتدّ تأثير العلاج النفسي إلى خارج غرفة العلاج وعوالم النساء الذاتية، توصّلًا إلى اقتلاع القمع المُتوارث من جذوره الضاربة في المجتمع والمتجسّد بوضوحٍ ضد النساء.

ازدياد الوعي بتقاطع النظرية النسوية مع علم النفس من شأنه التقليل من حدّة التوترات الناجمة عن التباس ما هو شخصيٌ وما هو سياسي

تستمرّ حتى الآن عملية استرداد القوة لعلم النفس النسوي مصحوبةً بتطوّرٍ في مساره البحثي. وتركّز الأبحاث المعاصِرة على مسائل استكشاف المشاعر كموضوعٍ رئيسٍ لا تتفرّد به النساء حصرًا، بل تدعو إليه الحاجة في المجتمعات كافة. ووفقًا للمقاربة النسوية، يصبح مسار المشاعر مسرحًا للهيمنة المجتمعية على النساء، وبخاصةٍ حين يوصَفن ويوصَمن بكونهنّ "عاطفيات". هذه الأبحاث المغايرة والحديثة تدحض النظرية القديمة القائلة بوجود اختلافاتٍ جندريةٍ في عملية الشعور، موضحةً أن الاختلاف لا يعود إلى اختلاف الجنس البيولوجي بل إلى اختلاف طريقة الإفصاح، أما اختبار الشعور في حد ذاته فواحدٌ لدى مختلف الأنواع الجندرية. وطريقة الإفصاح عن الشعور هذه تحدّدها إلى حدٍ كبيرٍ المتاريسُ المجتمعية التي يتمّ تأطيرها ثقافيًا على المستوى الجَمعي، وتنعكس نفسيًا على المستوى الفردي. كما تتناول الأبحاث أيضًا مسائل القيادة، والعنف الموجّه ضد النساء، والنظرية الثقافية العلاقاتية.

ساعدَت أبحاث علم النفس النسوي أيضًا في تخليص نساءٍ كثيراتٍ من الوقوع في شراك النمذجة/القولبة المجتمعية، كالأسطورة القائلة بأن المرأة تحتاج إلى الجنس "بدوافع عاطفيةٍ" أكثر من الرجل. فعلم النفس النسوي يكشف خطأ تلك الفرضية، مُثبتًا أن بإمكان النساء ممارسة الجنس من دون التورّط عاطفيًا مع الشريك/ة. ومن ناحيةٍ أخرى، في ما يتعلّق بالنمذجة المجتمعية عن كون النساء أكثر إغراقًا في مشاعر "الحزن" و"السوداوية" أو أكثر عرضةً للاكتئاب، يدفع علم النفس النسوي إلى استكشاف فرضيةٍ مقابلةٍ تفيد بأنّ لدى الرجال القدر ذاته من الشعور وأن لا فجوةً نوعيةً بين الفئتَين. إذًا، يمكن استخلاص أن مثل تلك المغالطات أحدثَت ضبابيةً وتشويشًا نفسيًا لدى النساء (Gaslighting) على المستوى الجَمعي، يماثل أشدّ الممارسات نرجسيةً على مستوى العلاقات الشخصية، ما يحثّنا على العمل لتحرير الهوية النفسية للنساء في المقام الأول، تليها هويات الآخرين، من كل استلابٍ سابق. 

تطور علم النفس النسوي نظريةً وممارسةً ليصبح مُرتكزًا على دراسة البُنى الاجتماعية والجندر، مؤسسًا لأهمية القراءة النقدية لكل ما قدّمه تاريخ البحث والمعرفة في مجال علم النفس، سواء لناحية إنتاج المعرفة من قِبَل الرجال أو هيمنة "الرجل" كوحدةٍ معيارية. يتبنى علم النفس النسوي القيم والمبادىء المؤسِّسة للنسوية، من المطالبة بالمساواة الجندرية وحقوق النساء، إلى بيان تأثّر صحة النساء النفسية في هذا السياق. كما يضع مسائل بارزةً أخرى تحت مجهر البحث والنقد مثل تعريف البشر لهويّاتهم/ن الجنسية والجندرية (مغاير/ة، مثلي/ة، لا جنسي/ة، عابر/ة جندريًا، ممتثل/ة جندريًا، مزدوج/ة الميول وغير ذلك)، تأثير ديناميات البُنى الاجتماعية أو منظومة البطريركية والتراتبية الجندرية على الأفراد والجماعات، دور الجندر في حياة الفرد وتسبّب الأدوار الاجتماعية المفروضة في اعتلال الصحة النفسية للنساء تحديدًا. يبقى هدف هذا التخصّص موضَعة الفرد في منظومةٍ مجتمعيةٍ وسياسيةٍ أكبر، مع الوعي بتشابك الديناميات المجتمعية بالغة التعقيد. تمنح القراءة النسويّة ذلك النسيج المتشابك معطياتٍ جديدةً قادرةً على تزويد الفهم والبحث بمساراتٍ أكثر تنوعًا وثراء.

كيف يمكن للخدمة العلاجية أن تتغيّر إذا ما أصبح/ت المعالج/ة "نسويًا/ةً"

قبل كتابة هذا المقال، انهمكتُ في متابعة قضيةٍ تفجّرت على الساحة المصرية منذ أيلول/سبتمبر 2020، فحواها اتهام أحد المعالجين النفسيّين بالتحرّش بمريضاته. ما زالت القضية قيد التحقيق، غير أن شهادات الضحايا تشير إلى أربع سنواتٍ من الانتهاكات. تثير تلك القضية في ذهني العديد من الأسئلة عن التجربة العلاجية مع طبيبٍ رجلٍ مقابل طبيبةٍ امرأة، ما يدفعني إلى مساءلة كيفية تغيّر الخدمة العلاجية إذا ما أصبح المعالج/ة "نسويًا/ةً". 

يتبنى علم النفس النسوي القيم والمبادىء المؤسِّسة للنسوية، من المطالبة بالمساواة الجندرية وحقوق النساء، إلى بيان تأثّر صحة النساء النفسية في هذا السياق

كما استعرضتُ آنفًا، يمكن لعلم النفس النسوي أن يقدّم الكثير في مجال الصحة النفسية للنساء تحديدًا، ويظهر ذلك جليًا في تحوّله من نظريةٍ إلى ممارسةٍ تُعرف باسم "العلاج النفسي النسوي". يعتمد العلاج النفسي النسوي على مساعدة النساء على تأكيد ذواتهنّ وإعادة تفكيك جميع الأنماط المعرفية - النفسية - السلوكية في مسارٍ للتعافي يعتمد على عدم قبول "المتاح" أو التكيّف/التفاوض معه. يستمد العلاج النفسي النسوي إطاره العلاجي من مبادىء النسوية، وأهمها: الشخصي هو سياسيٌ في جوهره؛ الالتزام بالنضال المجتمعي؛ الاحتفاء بأصوات الفتيات والنساء واحترامها؛ عدم مساءلة تجارب النساء أو التشكيك فيها ضمن سياق العلاج؛ والرفض الكلّي لكافة مظاهر وأساليب تعنيف الناجية. كما يحرص هذا الإطار العلاجي على مراجعة وإعادة مَوضعة النظرية النسوية بشكلٍ مستمرٍ في السياق المجتمعي وفي الوعي الثقافي الجَمعي، مع لَحظ تنوع المعطيات الجغرافية والتاريخية. 

لا شك في أن التجربة العلاجية تتحدّد بفعل عوامل عدّةٍ قد تبدأ قبل زيارة غرفة العلاج النفسي وطلب المساعدة، كما أنها تتطلب اتخاذ قراراتٍ تتعلق بجودة وكفاءة الخدمة المقدّمة. أتساءل هنا، هل يمتلك القائمون والقائمات على هذه الخدمات "وعيًا نسويًا" تتضاعف الحاجة إليه في حال كانت طالبة العلاج امرأة؟ فالأمر لا يتوقف عند الإلمام بما قدّمه علم النفس في بداياته عن سيكولوجية النساء، بل يتطلب وعيًا يتحوّل إلى لغةٍ وأدواتٍ وممارسةٍ وديناميةٍ قادرةٍ على رؤية الاستلاب النفسي للنساء داخل الغرفة العلاجية وامتداده خارجها.

هل يمكن للعلاج النفسي النسوي ترميم الصداقة في عوالم النساء؟

يحمل تاريخ النساء القديم وجوهًا عدةً من المساندة والدعم، بل وتبادل العلاج الشعبي أو الشاماني. ولعلّ أحد مفاهيم "العصر الجديد" هو تقديس القوة الأنثوية كقوةٍ شافيةٍ لـ"اللاوعي" الجَمعي المأزوم. لكن علم النفس النسوي يؤطّر بشكلٍ علمي وممنهجٍ ما أسمته الباحثة الأكاديمية والمعالجة النسوية وإحدى أبرز الناشطات في هذا المجال، لورا براون (Laura Brown)، "استعادة الصداقة القديمة في عالم النساء"،1 فالعلاج النسوي يقوم في جوهره على نقاط القوة، كما على مبدأ المساواة في دينامية القوة/السلطة بين المعالِجة ومتلقّية العلاج. في هذا السياق، تنطلق العلاقة العلاجية من نقاط القوة لدى المعالِجة أي خبرتها العلاجية، ونقاط القوة لدى المتلقّية أي فهمها لذاتها وخبرتها عن نفسها ووعيها بذلك. هكذا، تتخلّص متلقّية العلاج من المفهوم القديم القائل بكون المعالج هو "مانح" القوة أو "المنقذ"، فالقوة في العلاج النسوي تأتي من قدرة المعالِجة على جعل المتلقّية تستعيد الثقة في بوصلتها الذاتية وقوّتها المطمورة بفعل التشويش الخارجي من المجتمع. ولعلّ العلاقة العلاجية النسوية تُعدّ بوابةً يمكن للنساء تطبيقها على نطاقٍ أوسع بُغية فهم دينامية شتّى العلاقات المحيطة بهنّ، وإعادة قراءتها، وموضَعة ذواتهنّ لكسر النمط المشوّه (ضحية - منقذ) وانتزاع ما أُخذ منهنّ عنوةً عبر استكشاف نقاط القوة المطمورة في دواخلهنّ. لذا، تؤكد كثيراتٌ من المعالجات النفسيات البارزات في علم النفس النسوي مثل إليانور ماكوبي (Eleanor Maccoby) ولورا براون، أن ممارستهنّ وتخصّصهن أشبه بترميمٍ لمفهوم الصداقة بين النساء الذي لطالما جرت قولبته في إطارٍ ضيقٍ لتاريخٍ مشوبٍ بالغيرة والغلّ كسرديةٍ سائدة.

مُراجعة من الداخل

يقدّم علم النفس النسوي بنيةً معرفيةً ومناهج علاجيةً متطورةً جاءت من الفجوة التي خلّفتها المدارس التقليدية في العلاج النفسي، لا سيما في ما يتعلق بالانتهاكات الجنسية ولوم الناجيات. وتتبنى ممارِساتُ هذا العلاج وممارِسوه مقاربةَ المراجعة الداخلية المستمرة لتصويب المسار. على سبيل المثال، تقول الطبيبة وعالمة النفس الأميركية سالي ساتل (Sally Satel) في مقالتها النقديّة بعنوان "كيف أفسدَت الصوابيةُ السياسية الطب": "إن نقدًا مستمرًا يجب أن يأتي من الداخل، لا من العلاج النفسي فحسب، بل من النسوية ذاتها ومن العلاج النسوي تحديدًا، لأنه قد يؤدّي بنا كطبيباتٍ للانزلاق إلى الترويج لنظرية المؤامرة. ومثل هذا النقد يتجذّر كلما أعدنا التذكير بجوهر العلاج النفسي، وهو مساعدة المريض/ة على استرداد الثقة والقوة من خلال تفكيك أنماط التفكير غير الواقعية والمدمّرة لديه/ا، في ظل رغبةٍ صادقةٍ في معرفة احتياجات الفرد وأبعاد شخصيته/ا المعقدة وتجاربه/ا. كما من الضروري الإحالة إلى النسيج المجتمعي الأكبر المتجاوِز للجندر، لأن فهم المحاور الثلاثة2 الداخلة في تعديل المسار يأتي بشكلٍ كبيرٍ من السياق المجتمعي والظرف التاريخي".3

العلاج النسوي يقوم في جوهره على نقاط القوة، كما على مبدأ المساواة في دينامية القوة/السلطة بين المعالِجة ومتلقّية العلاج

أما لورا براون، فسلَكت مسارًا أكثر وعورةً في كتابها 'حواراتٌ مشوّهة: قراءةٌ نظريةٌ مقترحةٌ في العلاج النسوي'، إذ أرادت إيجاد لغةٍ من قلب مجتمع ممارِسات العلاج النسوي ومن واقع خبرتها التي امتدّت لعشرات السنين، بغية إيضاح الرؤية المهنية في هذا المجال والاتفاق على لغةٍ مشتركة، وهو مسعًى ساهم في منحها جائزة النشر للرابطة الأميركية للنساء في علم النفس. من جهتها، رأت المعالجة النفسية جوديث واريل (Judith Worell) في ورقتها البحثية المقدّمة عام 2000 بعنوان "النسوية في علم النفس: ثورةٌ أم تطور؟"4 أنّ إعادة قراءة علم النفس والعلاج النفسي في إطارٍ نسوي يفتح آفاقًا لم يتمّ التطرق إليها من قبل سواءً على مستوى النظرية، أو البحث العلمي أو الممارسة العلاجية. في الواقع، إنّ كثيرًا من الخطوات الراديكالية في منهجيات وأدوات العلاج النفسي نشأَ عن دراسة عوالم الفتيات والنساء، أو ما سُمّي بـ"الألم في عالم الأنثى"5 وفهم الألم النفسي المزمن من سرديات النساء. وأردفت أنّ مثل هذه المراجعة تُعيد هيكلة الإطار الناظم لديناميات وأولويات العلاج النفسي للنساء في المقام الأول، لكنها تعود بالنفع أيضًا على أطرافٍ أخرى في الإطار العلاجي. إنّ قبول تعدّدية السرديات في المسار العلاجي ودعوة أطرافٍ هُمّشت ووُصِمت على مدار التاريخ إلى مشاركة رواياتها، يساعد في تطوير الممارسة العلاجية لا على مستوى الأفراد فحسب، بل أيضًا على مستوى التراتبية داخل المؤسسات العلاجية، لتصبح أكثر قبولًا وانفتاحًا وتجاوزًا للنقاط المعتمة في الهيكلية المؤسّسية التقليدية، ما من شأنه تحسين السياسات العامة للصحة النفسية لكافة أفراد المجتمع من رجالٍ ونساءٍ وغير ذلك. لذا، توجد حاجةٌ مستمرةٌ لأن يصبح علم النفس النسوي حاضرًا كقوة دفعٍ لتحقيق تغييرٍ عادلٍ ينبع من معالجة الجذور العميقة للقمع/الاضطراب النفسي.

عندما شرعتُ في البحث والقراءة لغرض كتابة هذا المقال، آلمَني عدم توفر موادّ باللغة العربية. وبينما أنظر إلى الشاشة، أرى وجوهٌ قبيلةٍ من النساء اللواتي لا أعرفهنّ على صعيدٍ شخصي، لكني أوقن بأن مسارات السعي لتحرير أرواحنا في مجتمعاتنا تبدأ بالاقتراب من ذواتنا لا معاداتها، وبمدّ جسور صداقةٍ مع العلم والمعرفة، ثم الإيمان بقدرة كلٍ منّا على فعل ذلك في مجالها، لا لأننا نستحق فحسب، بل لأنّنا موجوداتٌ وسنبقى.

 

  • 1. Laura S. Brown, “Feminist Therapy as a Path to Friendship with Women”, Women & Therapy Journal, Vol. 36, Issue 1-2, 2013, p. 11-22. DOI: 10.1080/02703149.2012.720556
  • 2. وفقًا لساتل، المحاور الثلاثة هي: معرفة احتياجات الفرد، وأبعاد شخصية الفرد، وفهم التجربة. ولا يصحّ فهم تلك المحاور على نحوٍ مجرّدٍ أو منفصلٍ عن الواقع، بل ينبغي فهمها في إطارٍ أوسع هو إطار المجتمع والتاريخ.
  • 3. Sally Satel, “How Political Correctness is Corrupting Medicine”, Society Journal, Issue 39, 2002. p. 7- 10
  • 4. Judith Worell, “Feminism in Psychology: Revolution or Evolution?”, The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science, 571, 2000, p. 183-196. Retrieved on February 11, 2021 from http://www.jstor.org/stable/1049142
  • 5. تعني العبارة فهم الألم كما ترويه المرأة. على سبيل المثال، معظم النساء لا يعبّرن عن آلامهنّ الجسدية أو النفسية بسبب وقوعهن عادةً تحت تأثير سرديةٍ سائدةٍ مفادها أن "الأنثى تتحمّل". بالتالي، استرداد حق النساء في تعريف الألم كما يختبرنه هنّ، يمنح العلاج النفسي مساحةً جديدةً في فهم "الألم".