الاثنين، 27 مايو 2019

قراءة نفسية في «زي الشمس» إمكانية أن نُعيد قراءة عمل درامي للعبور نحو عوالم النفس المعتمة

مقالة منشورة على موقع "مدى مصر"

تقرير- قسم ثقافة وفنون ودراما

تغطية فنيّة- مسلسلات رمضان

تاريخ النشر: 27 مايو 2019

موقع "مدى مصر" أحد أهم مواقع الصحافة التقدمية المستقلة في العالم العربي

الموقع قد يكون محجوبًا في بعض البلدان، يُنصح باستخدام محرك "ثور".

************



قراءة نفسية في «زي الشمس» إمكانية أن نُعيد قراءة عمل درامي للعبور نحو عوالم النفس المعتمة

رغم أن السطور المقبلة تتناول عملًا دراميًا تلفزيونيًا، إلا أنني في البدء أود استعارة أحد مفاهيم المسرح، ألا وهو «الشريط الأحمر» red thread، ويقصد به الرابط اللامرئي بين فصول تُروى، قد تبدو للوهلة الأولى عشوائية، غير أن شيئًا فشيئًا يتضح خيط حريري أحمر يمكنه تطريز مفاصل الروايات جميعها في نسيج واحد.

تبدو لي رحلة الكتابة عند مريم نعوم تحمل مثل هذا الشريط الأحمر، ففي معظم أعمالها، مثل «بالشمع الأحمر» (2010)، «ذات» (2013) ثم «موجة حارة» (2013)، «سجن النسا» (2014)، «تحت السيطرة» (2015)، «سقوط حر» (2016)، ومؤخرًا «زي الشمس»، يمكن أن نشير إلى أن البطل الأساسي هو المرأة، ثم يتم بناء عوالم الشخصيات وتفاعلات الأحداث وديناميكيتها انطلاقًا منها ومن أزمتها الشخصية.

في إطار هذا هل يمكننا وصف رحلة الكتابة لدى مريم نعوم بـ«الكتابة النسوية» أو هل هذا هو الشريط الأحمر الذي يربط بين أعمالها؟

أستعير مقولة الكاتبة الكندية الشهيرة، مارجريت آتتوود، حين وصفت كتابتها بـالنسوية، خاصة بعد مسلسلها الذي حقق نجاحًا مدويًا مؤخرًا «حكاية خادمة» The Handmaid’s Tale 2017: «في كل مرة أكتب بصوت المرأة توصف كتابتي بأنها نسوية. جلّ ما أفعله هو استخدام اللغة في الإشارة إلى الشوفينية الذكورية وممارستها، رغبة مني أن أشير إلى أن النساء لا يُعاملن بالقدر الذي يستحقنّه بالفعل. أتحرك بداخل الزمن، وبخاصة الماضي منه لأنسج خيوط الأحداث، غير أن الماضي لا يحاصرني، فأنا امرأة تعيش الآن، فأضع على لسان بطلاتي، وفي بعض الأحيان أقوم بإخراسهن عمدًا فتأتي قصصهن مشتبكة مع واقعنا الحالي. لا اعرف هل تلك النسوية أم لا، غير أني أؤمن أن النساء يستحقن الأفضل».

أرى أن الشريط الأحمر الذي يضفر كتابة مريم نعوم، يحمل في نسيجه شيئًا من وصف مارجريت، ولكن أميل لترك الاختيار للكاتبة لتستخدم هذا الوصف أو تختار ألا يحمل تعريفًا محددًا. غير أني أرى أن نفس الشريط الأحمر يمكن رؤيته أبعد من تصنيف كتابة بعينها بكونها نسوية أو لا، ليتعدى إلى شخصية المرأة التي تتناولها محطات نعوم السبع، بما يتخطى وجودها النوعي، فالشخصيات يتحركن في ثيمة الحصار أو «السجن» باختلاف أشكاله وأنماطه.

قد يكون مسلسل «سجن النسا» هو الأقرب لتلك الفرضية بعنوانه المباشر، وبأحداثه التي تقع خلف قضبان السجن أو تلك التي تؤدي ببطلاتها نحو مصيرهن بداخله. بخلاف «سجن النسا» نجد أن «ذات» محاصرة في تركيبة شخصيتها المستسلمة التي تترك الحياة والآخر والزمن يفعل بها ما يشاء، فباتت كمن يعيش في سجن تبدو جدرانه ملونة بينما هو يتسع بمرور الأعوام.  وفي «موجة حارة» عندنا شخصيات نسائية محاصرة في ماضيهن أو عوالمهن السرية، أو وجودهن المتألم في خندق الزواج، وفي«بالشمع الأحمر» هناك الشخصية المحاصَرة في متطلبات مهنتها التي تؤدي بها لدفع الثمن كاملًا، أما في «تحت السيطرة» فالشخصيات – التي في أغلبها نساء- محاصرات في إدمان المخدرات والتعافي، ثم «سقوط حر» تكون الشخصية محاصرة في «جريمة عائلية» قبل أن تنتقل إلى سجن عقلي، ألا وهو المصحة.

في سياق هذه الثيمة، نطرح التساؤل، ما الذي قدمه «زى الشمس» حتى الآن، استمرارًا لثيمة «الشخصية النسائية المحاصرة»، وأي سجن لدينا الآن في المحطة السابعة لمريم نعوم؟

في «زى الشمس» يمكن القول إن لدينا سجنًا من نوع مختلف عن سابقيه، ألا وهو سجن «الجرح النفسي الذي لم يلتئم». في حلقاته الأولى يبدو أننا بصدد جريمة قتل غامضة، وأن الأحداث ستسير مكللة بالإثارة نحو معرفة من القاتل. لكن  يبدو أن هناك ما هو أبعد من معرفة اسم القاتل. لدينا نسيج من العلاقات المعقدة، كما وصفت ريهام عبد الغفور التي تقوم بدور الضحية وهي تحمل سلسلة أهدتها لها أختها في زمن الصفاء الأخوي بقولها «السلسلة اتعقدت زي كل حاجة ما اتعقدت».

تلك العلاقات المعقدة تخبرنا أن البيت الهادئ ليس كما يبدو، وأن مشاهد براءة الطفولة لم تستمر، وأن هناك إرثًا من غضبٍ قديم، سيتكشّف شيئًا فشيئًا. طبقات من المشاعر والانفعالات المتراكمة التي تتكوّم بداخل كل شخصية دون الإفصاح عنها، فتأتي أفعالهم مغايرة تمامًا للوجوه الملائكية الخادعة. لذلك ما يبدو في بعض الأحيان تطويلًا مملًا، ليس بهدف حل لغز الجريمة؛ حتى وإن كان يبدو هدفًا واضحًا، ولكنه أيضًا لمراقبة كيف تتحرك الشخصيات التي تحمل «جروحًا نفسية غير ملتئمة».

ما هي الجروح النفسية؟

تختلف الجروح النفسية عن الإصابات الجسدية في طرق تشكلها ونموها والتعافي منها لاحقًا- ولكنها تتقاطع معها في ثلاثية العقل كأرشيف معرفي، والجسد كأرشيف جسدي، والروح كأرشيف نفسي.

لمعرفة كيف تحدث الجروح النفسية، سيتطلب منّا الأمر الاقتراب قليلًا من «علم نفس الصدمة»، لنستعين بما قدمه الطبيب النفسي والباحث «بيسيل فان دير كولك» في كتابه الشهير «الجسد يتذكر الندبة».  

يشير فان كولك إلى أن العقل الطفولي لا يمتلك تفسيرًا لما يتعرض له، الصدمة تخلخل المعرفة السابقة، يلجأ الطفل إلى قمع ما حدث بأن يخبره عقله أنه لم يحدث بالفعل، فتتكون لديه تشوهات في مخزونه عمّا يعرفه عن نفسه، عن تصوره عن شخصه، عن استحقاقه للمحبة، بل يشعر أنه «مسؤول» عمّا حدث له، فيمارس أذى مضاد نحو نفسه لشعوره باستحقاقه «الألم» عمّا يظن أنه مسؤول عنه. ثم ينمو هذا الطفل -إذا لم يتلق المساعدة- ليصبح بالغًا يحمل طفلًا داخليًا متألمًا، يركل بكلتا قدميه لكي يجعل ألمه مرئيًا كمعبر للتعافي.

إن إرث الطفولة من الإيذاء النفسي، الذي يتراكم بداخل عوالم النفس المعتمة، يتحرك خفية، قد يضرب الجسد في صورة آلام متكررة، وتسمي «سايكو سوماتيك» أي أعراض جسدية كمؤشرات للألم النفسي، أو قد تظهر في شكل تشوهات معرفية في قراءة المحيطين وصورة الذات والعالم.

أود أن أستعير ما قدمه «علم نفس الصدمة» في النبش وراء ما تحمله الشخصية المحورية من جرح نفسي قديم لم يلتئم، بل يتضاعف ويتكتل لتحمله لنا صدمة الخيانة، والتي ربما لم تكن صدمتها الأولى.

يستعرض المسلسل في بدايته طفولة الشخصيتين الرئيسيتين في شكل أقرب للقالب النمطي للعلاقة بين أختين، إحداهما تلعب دور «الأم البديلة»، بينما الأخرى «الأصغر» ترى عالمها من خلالها. ثم يتكشف لنا في الحلقة العشرين ما تعرضت له الأخت الصغرى من محاولة «تحرش»؛ قد يكون الأب أو أحد أزواج والدتها، وكيف قامت الأخت الكبرى بما تقوم به في العادة وهو حمايتها في غياب كامل من الأم.

قدم لنا المسلسل دور الأم، التي تنتقل في الزيجات المتعددة، دون إشارة واحدة إلى الأب. نحن إذن أمام احتمالات عدة تدور في مثلث يجمع علاقات معقدة بين الأم وبناتها وبين الأختين، وما يمكن أن ينتج عنه من صدمات محتملة، البعض منها قد يتعلق بـ«جرح الأم النرجسي». غير أنه لا يوجد ما يؤكد ذلك في الأحداث. أميل بشكل شخصي إلى فهم صدمة طفولة الشخصية المحورية من خلال قصة «قابيل وهابيل».* لماذا انشق فصام الأخوة، ولماذا تقبل القربان من أحد الأخوة دون الآخر؟ وكيف يبني ذلك التاريخ الشخصي للصدمة، حتى حين تتحقق «الصدمة» المباشرة بالخيانة، تكرّ وراءها إرث قديم من الكراهية.

في العلاج النفسي الأسري، هناك ما يسمى بديناميكيات العائلة المشوهة نفسيًا. يتردد بين العائلات أن هناك دومًا طفلًا مفضلًا عن الآخر. في حقيقة الأمر إذا ما تمّ اعتبار الأم/ الأب/ مقدمي الرعاية، بشرًا معرضين للخطأ وإنسانيين ومن حقهم أن يكون لهم دومًا تفضيلاتهم التي لا تحمل منطقًا واضحًا أو مبررًا، يمكن أن نتفهم لماذا يلعب أحد الأبناء «دور» الأم لدى الأخوة الأصغر. مثل هذا الطفل لا يصل إلى تلك المكانة لكونه الأكبر فحسب، وإنما لأنه الأقرب إلى شخصية الأم فكأن هناك حبلًا سريًا لا ينقطع بين الأم ومن يقوم بدورها داخل الأسرة.

قد يبدو ذلك تفسيرًا منطقيًا يتداوله البالغون، غير أن عقل الطفل لا يمكنه استيعاب ذلك، في حالة حدوث تفضيل لطفلٍ عن آخر أو اختلاط «لعب» الأدوار داخل العائلة؛ يصبح الطفل «شديد التعلق» بمن يقدم له الرعاية الأمومية عوضًا عن مصدرها الأصلي. قدم لنا المسلسل هذا بشكل كافٍ وواضح.

من ناحية أخرى، هذا التعلق الشديد بـ«بديلة الأم» يطوي بداخله «جوعًا» غير مشبع للقبول من قبل الأم ذاتها. إضافة إلى ما يتعرض له الطفل من «صدمة» نفسية يعجز عن تفسيرها، أو تفسير لماذا «حدثت له دونًا عن الآخر»، يتراكم الجرح في أعماق نفسه.

وبفعل ما يختبره الطفل من مشاعر غامرة لحظة الصدمة، يعمد العقل الذي يعمل بكل طاقته لأنه يترجم ما يحدث بأنه حالة «خطر قصوى»، وعليه حماية «الطفل العاجز المُستلب» فيتشكل عدد من التفسيرات في محاولة تهدئة أو تنويم ما يشعر به الطفل. ولكونه طفلًا لم يكتمل إدراكه بشكل كافٍ، فإن أغلب ما يتم «أرشفته» عقليًا بسبب صدمات الطفولة عادة ما يؤدي إلى تشوهات معرفية تظهر في شكل اضطرابات وأمراض سلوكية لاحقًا.

أحد تلك التفسيرات المشوهة، أن ما حدث له بسبب «عطب» به، وأنه غير قادر على حماية نفسه بل و«أنه غير كافِ» أو «غير مستحق» للمحبة من الأساس. تنسج الفكرة بداخله خيوطًا عنكبوتية غير مرئية -بدون التدخل والعلاج- ينمو لدينا بالغ يشعر دومًا بعدم كفايته في الحب والحياة، بل وعدم استحقاقه للمحبة وأنه مسؤول طيلة الوقت لإثبات العكس بالتميز الشديد أو باستدرار العطف والانتباه ما يورطه عادة في علاقات مع آخرين تتسبب في نكأ جراحه التي لم تلتئم.

لذا لم يكن مستغربًا ردود أفعال شخصية نور، التي تسير في الحياة تحمل ندبتها القديمة، حين علمت بخيانة من تحب. ففي إشارات خاطفة يمكننا القول إن الأم تميل نحو تفضيل أختها التي تبدو أكثر إقبالًا على الحياة ومرحًا وحضورًا عن الطفلة التي كبرت لتصبح «سجينة» عالم تسكنه بمفردها وتشعر بالجوع الشديد للحب من آخر.

كما يمكننا أيضًا الاستعارة من خلال علم النفس ما يعيننا على فهم ممرات توغل الجرح النفسي وتجذره من الطفولة، وبالتالي فإن الصدمات التي تظهر لاحقًا هي قشرة لجرح تضرب بجذورها في العمق. بل أميل أيضًا إلى الإشارة من خلال العمل الدرامي إلى أن عدم وضوح الأشياء أمامنا، التي تبدو «زي الشمس»، ليس لأنها فقط جريمة قتل، بل لأنها تكشف كيف يحاصر شخص ما نفسه في صدمة الطفولة الأولى، لتعيده دون وعي منه إلى العالم كشخص لا يمكن التنبؤ بما قد يفعل.

يكشف لنا المسلسل -حتى تاريخه- بعض الأنماط والدلائل لديناميكيات الأسر المشوهة نفسيًا أو غير المُشبِعة لأفرادها انفعاليًا أو للعائلة باعتبارها قوة متماسكة.

على سبيل المثال: بعد حدوث «صدمة» نفسية يميل البالغ إلى نمط نفسي «الصدام – الفرار» flight- fight mode. اعتمدت مريم نعوم في رسم نمو شخوصها النفسي بحدث مثل سفر البطلة إلى بلد آخر لتبدأ بداية تجعلها شخص «جديد»، وكأنها تغادر كل صورة ارتبطت بها في زمن الصدمة الأول. من ناحية أخرى، إن عدم حصول البالغ على العلاج النفسي، يضعه في «سجن» أرشيف الصدمة لديه. نور «فرّت» بجرحها الشخصي إلى مكان أبعد، مكان يمكنها إحكام السيطرة بكل دقة حول شخوصه ومكانتها المهزوزة جراء طفولة مشوهة فتصنع نسخة «جديدة» منها أكثر قوة وحضورًا وتأثيرًا في حياة العائلة، بل لتلعب دورًا لم تعرفه عنها العائلة من قبل وهو دور «الحماية»، تعود نور في نسخة لا تتسم بالضعف أو الهشاشة كما يصور لها «عقل الصدمة» أن ذلك هو السبب المباشر فيما حدث لها في الماضي.

في المنفى يستعيد «الجريح» قوته، غير أنه لا يتعافى، إذا لم يتلق المساعدة. يظل «الجرح» مفتوحًا قابلًا للتلوث بداخله، بل للتغلغل حتى يصبح غرغينا، تتوجب البتر أو القتل. ولأن الـ«جريح» لم يمتلك القوة في زمن سابق لأن يقوم بالدفاع عن «نفسه» أمام ما تعرض له من إساءة نفسية، تتحول طاقة الغضب والجرح والحزن القديم على عدم استحقاق المحبة كاملة ممن أرادها منهم بشدة؛ إلى رغبة في الـ«بتر». يتحول المنفى الاختياري إلى شاشة زجاجية يراقب من خلالها «الجريح» عالمه النفسي القديم، كمن يستعد للعودة ليفرغ طاقته القديمة، ليقوم بإعادة ترتيب عالمه القديم كما كان يجب أن يكون قبل أن يتعرض للأذى، ثم يتحين الفرص ليعود ليسترد كل ما أُخذ منه.

البطلة في «زي الشمس» بالرغم من وضوح الحقائق كالشمس إلا أن عوالم جرحها النفسي معتمة لتشبه بيت قديم إضاءته خافتة، تسكنه روح هائمة.

المعالجة الدرامية للجوانب النفسية

هناك جهد واضح في اختيار الإضاءة وبخاصة داخل المنزل، التي تميل إلى العتمة، فيبدو وكأنه بيت الأسرار والأشباح. هناك جهد في تطويع دلالة اللون وبخاصة الأحمر، فتارة يبدو بالطو الضحية كبقعة دماء كبيرة على وجه الماء، تارة أخرى يبدو كبدلة إعدام حمراء في انتظار أحدهم. غير أن ما يؤخذ على المسلسل -حتى تاريخه- هو عدم الاهتمام بتعميق الحوار فيما يتعلق بتناول المعنى النفسي الذي تنبني عليه عوالم الدراما، فأتى كثير من الحوارات مرتجلًا أو أقرب إلى الكليشيهات المحفوظة، ولا تتلاءم مع التاريخ النفسي للشخصية كما استعرضنا سابقًا، مما أفقد المتابع حماسته نحو تتبع نمو الشخصيات نفسيًا، وأيضًا الأحداث التي تنطفئ جذوتها.

رغم احتياج المسلسل إلى تسريع إيقاعه ليحتفظ بمشاهديه، إلا أن متابعة «زي الشمس» لا تزال قائمة، رغبةً في رصد الشخصية التي تحمل جرحًا نفسيًا لم يلتئم، وكيفية تحرك الأحداث من حولها في محاولة إعادة عالمها القديم الذي انهار يومًا ولا إمكانية لاستعادته سوى بتقديم «قربان» أملًا أن يُقبل هذه المرة.

كيف تزعزع نعوم-آتتود عوالمنا التي نعرفها؟

تعلن آتتوود مرارًا أنها ترى أن «الديستوبيا» هي الطريقة المثلى لخلخلة العالم القائم الآن، ولهذا كان مسلسلها «حكاية خادمة» كما وصفه النقاد، أن نعيش في أسوأ سيناريو ممكن للنساء.

أميل إلى الإشارة إلى أن نعوم في «تحت السيطرة»، «سقوط حر»، وحاليًا من خلال «زي الشمس» تميل إلى الفعل ذاته دون اللجوء إلى عوالم الفانتازيا الواقعية مثل آتتوود. تفعل ذلك من خلال خلخلة من داخل ديناميكية العلاقات المتشابكة في الأسرة. تبني من القصة القرآنية «تربة» لامتداد القصة ذاتها في نسختها الأحدث 2019، بل وتعمد إلى تغيير شخوصها، غير أني أستنكف كثيرًا أن يكون قربان الخلاف هو «رجل» فتنتهي بنا الأحداث إلى أن تلك الجريمة هي «خناقة حريمي على راجل».

قد تكون الديستوبيا لدى آتتوود واضحة كالشمس في رائعتها «حكاية خادمة»، حيث يحمل المسلسل بنية متكاملة لأسوأ ما يمكن أن يحدث في العالم، غير أنها لا تكتفي بذلك فتعود لتأكيد نفس اختيار الديستوبيا كمسار لخلخلة العالم القائم، بمسلسل آخر لم يلق شهرة المسلسل المذكور أعلاه، ألا وهو «أليس جريس» (2017).

تقوم آتتوود بلعبتها المفضلة في 15 حلقة لا أكثر، نبحر في عوالم من الفانتازيا، غير أن هذه المرة، البطلة الرئيسية تخلخل بالكلية كل ما نعرفه، نفهمه، نتوقعه من خلال علم النفس. فالبطلة مدانة بجريمة قتل، غير أنها «تتلاعب» بشكل ما بكل من يستمع إلى قصتها بما فيهم الطبيب النفسي. تقدم آتتوود إمكانية لأن كل ما نعرفه عن علم النفس يمكن أن يتم «مراوغته» وخلخلته بالكلية من قبل شخص قد يكون شديد الذكاء أو محطم تمامًا بشكل يصعب منحه الخلاص. يأتي ذلك في سياق تقديم أحد العلاجات النفسية، ألا وهي التنويم المغناطيسي.

كان لدى نعوم نفس النسيج الذي يمكنها أن تتحرك وتأخذنا معها بداخله، غير أن كل مشاهد الطبيب النفسي جاءت ركيكة وساذجة، ثم ظهر علينا فجأة استخدام التنويم المغناطيسي بشكل طفولي لم يغادر أحد مشاهد السينما القديمة حينما كان يتم تنويم البطل بجملة «شد اللحاف».

أكتفي بالقول أن ما قدمته نعوم في «زي الشمس» كان استكمالًا لفعل الخلخلة لعوالم يظنها المشاهد أنها عصية على ذلك. نعوم نفسها، أشارت في أحد مقابلاتها الصحفية السابقة لعرض العمل، أنها تود أن يتتبع المشاهد التاريخ النفسي للشخصيات. هذا ما حدث، تطور الجرح النفسي القديم وكيف يعلن عن نفسه -أو لربما لا يعلن- في بيئة «مسمومة» لديها إرث غير معلن يمكن دفنه بسهولة في تربة حديقة المنزل، بينما تستغرق الأم بالكلية في زراعة ورعاية الزهور الحمراء، ليبدو كل شيء جميًلا في عين الغرباء، أو عين من تراقبهم بصمت على الجهة الأخرى.

*****

* {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (27) سورة المائدة.

السبت، 4 مايو 2019

أكشاك الحزن

قصيدة منشورة بمجلة "أوكسجين"- العدد 243- مايو 2019

مجلة "أوكسجين" مجلة ثقافية نصف شهرية يترأسها الروائي والشاعر زياد عبد الله

****

أكشاك الحزن



 صبيحة كل يوم أود النهوض من الفراش

هناك قائمة من المهام بانتظاري

حياة مصطنعة يتوجب عليَّ أن أنغمس بها

صبيحة كل يوم يتوجب عليَّ النهوض من الفراش

لكني لا أفعل

أحمل حاسوبي، امتداد ذراعي إلى العالم الخارجي

أنهمك في صياغة أسباب جديدة للغياب

كم أودّ أن يكون هناك عطلات محدّدة للحزن

يمكننا أن نخبر الآخرين بلغة رسمية رصينة عن أسفنا الشديد

لعدم تمكننا من الانتهاء من المهام المطلوبة

سنذيلها بعبارة

أنا فقط حزينة

صبيحة كل يوم أودّ النهوض من الفراش

ولكني لا أفعل

تبدو المسافة الفاصلة بيني وبين باب غرفتي

كقطار وجه قبلي يتعطل في طريقه إلى القاهرة ثماني مرات على الأقل

كل مرة يدلف إلى غرفتي شخص ليخبرني أنه يتوجب عليَّ النهوض

أخبيء وجهي تحت ركام أفكار تنخر عظامي كل ليلة

تبدو عيناي المثبتتان على أطراف أصابعي متماستان بالحياة

لكني

صبيحة كل يوم أودّ النهوض من الفراش

ولا أفعل

أودّ لو أخبرهم أن هيئة مرافق الحي قد أخطأت

وأرسلت عربتين ضخمتين لرصف ظهري

وأن هناك سائلاً أسود لا زال لزجاً يتخللني

لا يمكننا بالطبع أن نجرّم هيئة المرافق

فلنتركه يصنع طريقاً من أسفل ظهري إلى أعلى كتفي

يأتيني صوت أحبه

أخبره

إنني متعبة

البارحة انتهيت من صنع أكشاكٍ للحزن

نثرتها لأيام على الطريق إلى المستشفى

سيرتادها العابرون

بداخلها عصا خيزران ملونة رأسها حية تأكل ذيلها

سيُلبسون العصا جلباباً واسعاً فيبدون كخيال مآتة

يرمم عموده الفقري

بعصا خيرزان ابتاعها للتو من أكشاك للحزن

ثم يغادرون متأهبين للانخراط في طوفان بشري

العصا ستمنعهم من التساقط

ستمنحهم –لبرهة- صموداً واهياً

قبل أن يبحثوا عن كشك جديد للحزن

ليبتاعوا منه عصا جديدة وجلباباً أوسع

يغادرون

تاركين تعريفة تليق بهشاشتهم.

 حين تسألني كيف حالك اليوم

سأخبرك

بأنني وفي صبيحة كل يوم أود النهوض من الفراش

ولكني لا أفعل

وأود الانتهاء من خريطة كاملة لأكشاك الحزن حول المدينة

وأني أتساقط

وأني متعبة

فيما عدا ذلك فإنني بخير

وأنا أكذب.

الجمعة، 29 مارس 2019

"صديقي في البناية المقابلة"- قصيدة

 قصيدة منشورة بجريدة الأهرام الرسمية- ملحق الجمعة الأسبوعي للأدب والإبداع

جمهورية مصر العربية

تاريخ 29 مارس 2019

صديقى فى البناية المقابلة

ريهام عزيز الدين;

أكتبُ إلى طفلٍ فى الرابعة يقطن البناية المقابلة

يُخبره والده كلّ صباحٍ بصراخ يمتد إلى نافذة غرفتي،

أن ينتهى من تناول طعام فطوره فى خمس دقائق،

أن يعتدل فى جلسته قبل أن تنقضى الخمس دقائق،

أن يكُف عن مُحادثة حبّة الموز فى صحنه،

أن يرتدى جوربه فبلاط المنزل بارد!

كلّ صباحٍ بصراخ يمتد إلى نافذة غرفتي،

يخبره أن يكون مؤدبًا،

محترمًا،

جميلًا،

كى يستحق محبته.

صراخ،

صراخ

صراخ

يقطعه جملة وحيدة خاوية،

«توقف عن البكاء الآن وفورا»


الصراخ يتسلل إلى فراشى بينما أختبىء أسفل الغطاء السميك،

أكتب إليك يا صديقى فى البناية المقابلة لأخبرك عن طفلٍ آخر،

اختبأ ذات عُمرٍ مضى فى خزانة ملابسه

الصراخ القادم من خارج الغرفة،

كان يطرق الباب بكلتا يديه ويركله أحيانا بقدميه الطويلتين.

أكتب إليك يا صديقى لأخبرك أنه لا بأس أن تختبىء بعض الوقت،

حتى تستريح الحُنجرة من الصراخ،

وتكف عن البحث عنك لتكيل لك اللكلمات.

أكتب إليك يا صديقى فى البناية المقابلة،

لأنى عاجزة عن إنقاذ العالم من قسوته،

أو الخطو نحو الصراخ،

واقتلاعه من حنجرته

وإسكاته للأبد.

أكتب إليك يا صديقى لأخبرك أنه لا بأس أن نلتحف العتمة،

وأنه لا بأس على الإطلاق من البكاء

حتى وان أخبرونا بعكس ذلك.

أكتب إليك لأنى أعلم أنك تكوّم الغضب فى معدتك،

تمضغه مضغًا

تؤرشفه بعنايةٍ على أرفف الخزانة

تُعبأ البعض منه فى صناديقٍ ملونة.

تنتهى من ذلك كله دون أن يعلم من بالخارج إرثك القديم.

الصراخ يتعالى،

وعلينا أن ننتهى قبل أن تمضى الخمس دقائق.


أكتب إليك يا صديقى فى البناية المقابلة،

لأن لدينا طريقٌ طويل

كى نتقيأ كلّ هذا الغضب

دون أن نعاود الصراخ على الصوت

أو نبادله اللكمات إذا ما تسنى لنا ذلك لاحقًا.

أكتب إليك يا صديقى فى البناية المقابلة،

لأن كلانا سيمضى نحو حديقته

يُفرغُ أرفف خزانته القديمة،

سيعبر حتمًا كما تمليه طقوس الطريق

نحو طبقات التراب المتراكمة

سيتوجب أن يُفرغ ماءَ قلبه كاملًا

لينبش بكلتا يديه عن محبةٍ لم تلتفت إليه.

الطريق إلى الحديقة يا صديقى فى البناية المقابلة

لن يكون سهلًا متوردًا،

سيؤلم أقدامنا العارية،

سيتوجب علينا مراتٍ -لا يعرف أحد عددها على وجه الدقة-

أن ننسلخ عن جلودنا القديمة،

فى كلّ مرةٍ تتساقط قطعة من الجلد،

يمكننا البكاء،

يمكننا ممارسة طقوس الحزن كاملةً،

واستبدال أحبال الصوت فى الحنجرة

بصوت حانٍ

يخبرنا أنه لا بأس فى البكاء

أو الاختباء

وأن هكذا طرق المحبة مُوعرة

وأن حديقتك ستنبت يومًا لا محالة.

أكتب إليك يا صديقى فى البناية المقابلة،

لأنى عاجزة

وآسفة

وأحبك

وأنتظرك

لنخطو سويا

نحو

حديقةٍ

تنتظر كلانا

بمحبةٍ – جدًا- مُمكنة.


الثلاثاء، 26 مارس 2019

شعبوية الكتابة عن العلاج النفسي: تساؤلات ونقد

 مقالة منشورة على موقع عربي 22

 تاريخ 26 مارس 2019

إن ما يعني المقالة الحالية هو طرح تساؤلات حول ما يصل إلى يد القارئ من كتب مطبوعة يتم تقديمها بأنها كتب "علم نفس" أو كتب تتناول "العلاج النفسي" والاقتراب بنظرة متفحصة من عملية تراكم المعرفة وإنتاجها أو تخليقها في زمنٍ يتسم بالسيولة الشديدة سواء في تنوع مصادر الإتاحة للوصول لكم هائل من المعلومات بكبسة أزرار، أو ثراء ما يتم طرحه ومدى اقترابه من واقعٍ لدى أفراده احتياجًا مطردًا للبحث والتعلم والإقبال على ذلك المنحى من القراءة.

لا تهدف المقالة الحالية إلى هدم محاولات جادة لأصحابها بقدر ما أن اهتمامها ينصب على القارئ ذاته الذي يجلس متلقيًا “وعيًا” حول علم النفس أو العلاج النفسي الذي قد يتركه في حيرة من أمره، أو لربما يساعده على تلّمس طرق الشفاء باتخاذ القراءة سلمًا للتعافي أو لا أحد منهما فيمضي الكتاب بمحتواه نحو ذاكرة النسيان.

كيف تتشكل المعرفة؟

اعتمدت المجتمعات البدائية في نشأتها على ما يسمى ب”الطب الشعبي”، وهو عبارة عن خبرة شفاهية يتناقلها أفراد القبيلة/ المجتمع الواحد تعكس موروثهم الثقافي، معتقداتهم وأفكارهم السائدة، وكيفية تفاعلهم مع بيئتهم المحيطة لحل مشكلاتهم الصحية (تحديدًا الجسد). يقوم بتلك المهمة ما يطلق عليه “المعالج”، في قبائل الهنود الحمر له اسم محدد "shaman" أو "من ينادي على الروح المفقودة". كان المعالج الشعبي -باختلاف تسمياته- يحصل على تلك المكانة بعد عبوره طقوس روحانية من أسلافه. في المجتمع المصري نفسه يظهر نفس المفهوم من خلال "راجل بركة" أو "عطّار عنده وصفات بلدي متجربة".

بتطور المجتمعات، أصبح العلم ضرورة كأداة للتطور لا يمكن الاستغناء عنها إلا إذا اختارت تلك المجتمعات الانعزال طواعية. بالرغم من استمرارية ممارسات “الطب الشعبي” إلا أنه يتم على استحياء وخفاء في وقتنا الحالي، بل يتم أيضًا تحت مسمى الطب البديل، فهنا لدينا إشارة واضحة أن لدينا "طبًا" له أُسس ومختبرات، ونتائج وأبحاث يجب أن يعتد بها وإلا سنتحول إلى قبيلة في غابات الأمازون ينتظرون “مخلصهم” الذي يحمل في جعبته “شوية وصفات بلدي ترد الروح”.

ما علاقة ذلك بعلم النفس والعلاج النفسي؟ العلاج النفسي هو طب في جوهره.

يصل إلى أيدينا ثلاث أنواع من الكتابات عن/ من داخل الطب النفسي: عاملون بمجال العلاج النفسي (أطباء، أخصائين نفسيين)، أشخاص يروون تجاربهم الذاتية مع المرض النفسي، وترجمات من لغة إلى أخرى حول أحد الموضوعات الرئيسية في علم النفس.

تتجاوز المقالة الفئة الثالثة فالترجمة تقطع الطريق لمساءلة النص في عملية تشكل المعرفة. أما الكتابة الثانية فتأطير المحتوى داخل الخبرة الشخصية يجعل القارئ يقف دومًا على مسافة من المحتوى المكتوب، أما ما تفرزه نوع الكتابات الأولى على أيدي العاملين من داخل المجال نفسه، فهي محل المناقشة والمساءلة هنا في ضوء تزايد دوائر الاهتمام بما يقدم من خدمات في مجال العلاج النفسي.

الطبيب النفسي/ المعالج النفسي كاتبًا، لماذا؟

"لو أن شخصًا أنقذ من الغرق شخصًا آخر، فإنه سيكون عملًا عظيمًا بلا شك، لكن لو أنه بعد ذلك أعطى لذلك الشخص الذي تمّ إنقاذه على يديه اشتراكًا في دروس السباحة، فما هو الخير الذي سيتمخض عنه ذلك؟ لماذا يحاول المنقذ للآخرين أن يجعل الأمر بهذه البساطة بالنسبة لنفسه؟ لماذا يرغب في أن يواصل إلى الأبد إنقاذ الآخر بوجوده المستعد دائمًا". بالرغم من أن ذلك التساؤل وضعه "كافكا" في أحد رسائله مخاطبًا "ميلينا" (كتاب بنفس العنوان- صفحة 195)، إلا أنه يتماثل مع تساؤلي الشخصي لماذا لا يضع طبيب العظام/ الأسنان/ الكبد على سبيل المثال على عاتقه تثقيف وتنوير وإيقاظ وعي القرّاء حول مرض تخصصه، بنفس القدر الذي نرى العاملون في العلاج النفسي يفعلون ذلك بكل أريحية.

إن إشكالية دخول الطبيب أو المعالج النفسي عوالم الكتابة، ليست بالأمر الجديد في الإنتاج المعرفي في ذلك التخصص تحديدًا لكنها تجدد نفس التساؤل.. ما المحتوى الذي يتم تقديمه؟ لدي قناعة ذاتية، كقارئ، أن كل طبيب نفسي يتصدى للكتابة من داخل تخصصه فهو يقع على عاتقه أن يخبر قراءه، هل نحن بصدد “خبرات شفاهية” أم نحن بصدد “علم” حقيقي؟ هل نحن نقف على عتبة "مضغ الكلام" وهو ما أشار إليه ألبرتو مانغويل في كتابه "مدينة الكلمات": “بعض المجتمعات تميل إلى مضغ الكلام وإعادة تدويره كطفل يتعلم الحبو، يتعرف على العالم بترديد الصوت من حوله. بالرغم من ذلك فإن تلك المجتمعات لديها رغبة غير معلنة للتعافي”، أم يسعى لتأسيس منهجية واضحة في إتاحة محتوى ذو ثقة ومصداقية؟ هل ما يشهده مضمار الكتاب والنشر من تصاعد لكتابة “نفسية” باتت شيئا أقرب لـ “وصفات بلدي مجربة” من "عطّار" النفسية في المجتمع حاليًا أم أننا بصدد محاولات تجريب قد تتطور لاحقًا شريطة أن يستتبعها بل ويصاحبها وعى نقدي من شريحة كبيرة من القراء؟

الكتابة الفيسبوكوية ككتابة شعبوية:

يتيح الفيسبوك كوسيط إلكتروني مساحة تقترب في شكلها البدائي مع جلسات العلاج الجماعي أحد فنيات العلاج النفسي. يتم تشكيل المعرفة من خلاله كالتالي: يسرد أحدهم في المربع الضيق تساؤلاته أو خبراته الشخصية أو وجهة نظره الشخصية أو قراءاته، ومؤخرًا تشارك بعض الأطباء النفسيين اقتباسات مأخوذة من جلساتهم العلاجية. يقوم الآخرون (العابرون دورا يفرضه مستخدمي الموقع ذاته على الغرباء الذين يشكلون “عددًا” يصنع كرة ثلج، تتدحرج كرة الثلج عبر الكبس على أزرار الإعجاب أو المشاركة  بتداول وتناول نفس الخبرة. تتغلغل الخبرة ذاتها وتتأصل لتصبح جزء من الوعي الجمعي ليس لمستخدمي الوسيط ذاته بقدر ما يتطور الأمر إلى تجميع تلك الخبرات في وسائط أخرى كتب ونشرها ليصبح لدينا كما يسميه علماء اللغة corpus أو مادة مهولة يتم تصنيفها تحت مسمى “كتابات في العلاج النفسي أو من داخله”.

يتساءل البعض عن استخدام الفيسبوك ذاته كوسيط لتراكم المعرفة أو انتشارها، لا زال هذا المجال متروكًا للتقصي في مجال دراسات اللغة وعلم الاجتماع متقاطعة مع دراسة تطور استخدام التكنولوجيا. لكن حتى اللحظة الراهنة يتم اعتبار الفيسبوك "متنفسًا" ترفيهيا وفي أوقات أقل يتم ملاحظته كمختبر افتراضي لدينامكية التفاعل عبر الوسيط الرقمي، لكنه قطعًا لا يحمل الجدية التي يتطلبها البحث العلمي المؤسس.

ما هو مطروح للتساؤل، كيف تنتقل “بوستات” الفيسبوك ويتم تجميعها لتصبح "كتابًا" فيما بعد؟ وحتى إن لم تكن منشورة كبوست “مشاع” للعامة، هناك سمة تجمع الكتابة في الوقت الحالي آتية من سهولة النشر على الفيسبوك، ووهم الإقبال العددي على محتوى بعينه، يؤدي إلى إغراء  نشر محتوى يحتاج للمساءلة حول اقترابه من تأسيس علم أم صناعة وهم في مجال العلاج النفسي.

إن تشريح "القراء" أو استعراض الخبرات التي يتلقاها الطبيب النفسي في الجلسات المغلقة على المنصات الاجتماعية، يضع تساؤلًا حول خصوصية ما يقال في الجلسة العلاجية، فيشير بموضع عطب محتمل في ديناميكية التعافي بين المعالج وحالته حيث يتحول اهتمام المعالج إلى “جامع” عبارات “هتسمّع” مع الناس عوضًا عن التركيز على وجود إنساني هش يلجأ إليه للمساعدة.

كتابة من داخل علم النفس/ علاج نفسي أم تنمية بشرية (كوتشينج): تضليل أم تثقيف؟

لا أميل بشكل شخصي إلى القفز للانتصار لمعسكر فوق الآخر، فكل مجال له قواعده ومعاييره المؤسِسة وكذلك الاحتياج لوجوده وتطويره على منحى النمو النفسي للفرد وللمجموعة. لكن أرى كتبًا تتأرجح بين كونها مجرد مساعدة ذاتية بينما يصر أصحابها على تصنيفها ك ”كتابات في العلاج النفسي". الفصل والتمييز بين نوع وجودة المعرفة المقدمة من خلالها من الأهمية بمكان لأن العلاج النفسي هو بمثابة عملية جراحية للروح الإنسانية، لا يمكن أن يتصدى لها سوى من تمّ الاعتراف بمهارته في الاقتراب من الجرح، كما أنه لا يمكن على أي وجه من الأوجه الإدعاء أن الكتابة عن الجراحة ستكسب أصابعك الحرفية لممارسة التشريح المجاني للقراء. قد نسمع أصواتًا مطالبة بمزيد من التثقيف والتوعية بالعلاج النفسي وأهميته في اللحظة الراهنة من مجتمعنا، وبقدر ما تبدو النوايا طيبةإلا أنها يمكن أن تمنح ضوءًا أخر لتمرير ضلالات معرفية والمساهمة في صناعة الوهم ب”مضغ الكلام” عن العلاج النفسي دون إنتاج معرفة حقيقية. وهذا ما يطلق عليه تحديدًا "العلم الزائف" أو ما يشبه العلمpseudoscience وهو عدم الخضوع لأسس البحث العلمي وقواعده المعترف بها، فيتحول لدينا الأمر إلى “مادة كلامية” هائلة  تختبيء خلف جمل تفتتح بقولها "الأبحاث بتقول، العلم بيقول، الدراسات بتقول...، بينما لا شيء من ذلك سوى نفخ فقاعة الوهم.

يمكننا تمييز الكتب التي تتناول العلاج النفسي عن كتب المساعدة الذاتية، أن الأخيرة يمكن أن يطلق عليها المثل الإنجليزي الدارج: too much candy, fewer carrots أي إغراق في سرد “عبارات وجمل تشعرك بالشبع المؤقت،ثم تتركك جائعًا”.

كيف يحدث ذلك؟

في علم النفس ما يسمى بعلاج الإيحاء placebo، وهي تجربة شهيرة تمّ ملاحظة مدى تعافي بعض المرضى إثر منحهم بعض الأقراص بعد أن تمّ إخبارهم أن هذا دواء معملي جديد وفي حقيقة الأمر لم يكن سوى بعض الفيتامينات. وفقًا للتجربة، لقد شهد المرض لدى هؤلاء الأشخاص تحسنًا “وهميًا”. يمكن القياس على ذلك في خطورة تبسيط الكتابة وتسطيحها في علم النفس والعلاج النفسي إذ أنها تمنح القاريء “قوة” لحظية، شفاءًا “وهميًا”، ماء مخلوط بسكر ليسد جوع قد يتطلب سنوات ممتدة لمعرفة أصوله وجدوره، وليس من السهولة على الإطلاق الإشارة إليه عبر سرد عدد من “الحكايات المسلية” باللغة البسيطة.

إن الدعوات التي تؤسس لها تلك الكتابات نحو “تنوير/ تثقيف” القارئ أراها مراوغة لأنك ببساطة حين تذهب عنك سكرة القراءة لا تجد شيئًا متأصل بجذور ولا معول في أيدينا نتحرك به لتكسير “حوائط” حجبت عنا الرؤية أو الوعي أو التنوير، مجرد كلمات مرصوصة بجانب بعضها البعض لتبدو امتدادًا لثقافة مجتمعنا في الكتابة على حوائط المدرسة  “مدرستنا جميلة نظيفة متطورة” بينما هناك عالم مهول متشابك وغاية في التعقيد، لا يكن السبيل إليه هو طمأنة العابر أن كل شيء على ما يرام، المهم أنت “تقرا الكتاب ده وهتبقى زي الفل”، بل ويزيد على ذلك أن من يقوم بذلك التسطيح هو “من يقع على عاتقهم الاصلاح” أو يرُجى منهم، أو هكذا نظن.

الخطورة التالية، قد تكون على عكس التسطيح وهي رغبة بعض المعالجين/ الأطباء في “نكأ” الجراح الدفينة. الجرح النفسي لا يختلف عن الجرح الجسدي في احتياجه لوجود بيئة آمنة “معقمة” لفتحه واستكمال مسيرة تعافيه الكاملة وإلا ستصبح العاقبة وخيمة.

كيف يحدث ذلك؟ يتم ذلك باستعراض العديد من المعلومات أو ممارسة فعل التعرية أو إغراق القارئ بتوصيفات قد يشعر بعضها أنه حتمًا ولا بد يتقاطع مع أحدها. يكتب إليك الطبيب منتصرًا "أنا أراك الآن وأنت تقرأ تلك السطور، لقد وجدت نفسك في ذلك الوصف". إن استعراض الشطارة  في تشخيص من لا تراه سوى عبر سرد حكايات تصلح لمشاهد درامية، ليس هو دور الطبيب الكاتب، إلا إذا أدرك المعالج أنه يريد أن “ينكش ويجري”. خطورة ذلك، أن لحظة تفتح الوعى هى لحظة غاية في الإيلام والقسوة يصفها البعض كمن يفتح عينيه في ضوء غامر، قد تصيب البعض بدرجات متفاوتة أو قد لا تصيبهم غير أن حضور لحظة الكشف في حياة القاريء دون وجود تساؤل حول مدى استعداديته للتلقي، مدى جهوزيته لاستكمال الحياة بعد أن "يعرف"، هل كان لديه “اختيارًا بالفعل لأن “يعرف” كل ذلك أمر شديد الهشاشة. لا يكفي ان أخبرك أنك طيلة حياتك “تعرضت لإساءة من أحد الوالدين” على سبيل المثال، أُغرقك بالتشخيص، أُشير إليك ب “اسم” المرض كما تذكره الكتب المتخصصة، أتركك وحيدًا تتخبط كيف ستتعايش مع من تراهم ألحقوا بك الأذى من ناحية، وكيف ستخطو خطوة واحدة أبعد، أو لربما كيف تتخلص من المعرفة وألمها بالكلية. لا يجب أن يُفهم من ذلك الدعوة للتجهيل أو ممارسة التجريف المعرفي، أو تحميلًا للكتب- كأحد مسارات بناء المعرفة الذاتية- في ذلك المجال فوق ما تحتمل، احتمالية واردة، غير أني أود هنا إلى أن أشير أن هناك خلطًا شديدًا يستوجب التوقف بين ما يريد العاملون في مجال العلاج النفسي من تقديمه من خلال وسيط الكتابة، وبين ما يقومون به بالفعل في نطاق “أكل عيشهم” في عياداتهم أو مستشفياتهم التي تخضع للمراجعة والمراقبة.

ويمكن طرح المسألة من زاوية أخرى، أي دور يلعبه "المعالج النفسي" حين يكتب. لا نجيب بل نتركه مفتوحًا للكشف بما يحفظ للقارئ حقه بالوقوف على  مسافة كافية للحفاظ على سلامه وأمانه النفسي في المقام الأول. سنتناول ذلك بالتفصيل عند التحدث عن سلطة الطبيب الكاتب.

هل الكتابة عن علم النفس/ العلاج النفسي تعني فقط تبسيط اللغة؟

دائمًا ما يكن لدينا أصواتًا تطالب بتبسيط العلم، وفي حقيقة الأمر أتشكك كثيرًا في مثل تلك الأصوات لأن العلم في جوهره متعة خالصة مؤلمة في بعض الأوقات من الركض خلف الأسئلة كما فعلت أليس حين ركضت خلف أرنبها في مغامراتها الشهيرة، لكنه يظل ممتعًا وقادمًا من ديناميكية الفهم والكشف التي تضع الباحث في تساؤل دائم بل وتواضع يجعله دائمًا في حالة تشكك من كل ما يمكن أن يصل إليه بالرغم من تفرغه للبحث والملاحظة سنوات ممتدة. أتصو ر- وقد أكون خاطئة- أن الرغبة في “تبسيط العلم” بالرغم من نواياها الطيبة هى امتداد أيضًا لثقافة "حطلي أي حاجة في الرغيف علشان جعان". خطورة تلك المسألة من جهة المتلقي/ القارئ أنه حين ينصاع لدعوات تبسيط العلم فإنه يحرم نفسه من جرعة حقيقية، يستحقها تحترم عقله وتصعد بمستويات وعيه إلى عتبة أعلى، كما أنها تشير بشكل ضمني أنه لا مسؤولية على الكاتب على الإطلاق يمكنه أن يتقمص دور “الشعراوي” أو “مصطفى محمود” طالما حافظ على إيقاع مناسب في الاحتفاظ بانتباه القارئ وسط “بهارات القصص المشطشطة” وبين تضمين "نص ديني" كلما استلزم الأمرليقطع الطريق على أية ذرة شك من القاريء وإلا سيتم نعته بعدم الإيمان. لا ينكر أحدنا ما للاسمين (الشعراوي ومحمود) من شعبية طاغية في الثقافة المصرية تحديداً  وضعتهم في مرتبة فوق المساءلة، لكنها تظل شعبوية تنتمي لجيل لم يكن لديه نفس مصادراللحظة الراهنة أو القدرة على الإطلاع و تفنيد كل ما يمر به، وتمييز فقاعات الوهم اللذيذ.

إن استخدام اللغة العامية أو اللغة الفصحى – من وجهة نظري- ليس العائق نحو فهم علم النفس إجمالًا أو العلاج النفسي تحديدًا، هناك تجارب شديدة التخصص يتم عرضها من خلال الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية وتطرح قدرًا يحترم عقل القاريء بل ويشده شدًا لكي ينمو تصاعديًا مع الكتاب. إن اللغة كأداة ليست هي محور العراك حول أهمية الكتابة من داخل علم النفس وطبيعتها، في حقيقة الأمرلا يؤخذ على من يستخدم اللغة العامية أو الشفاهية  ذلك. لكنه من ناحية أخرى، لا يجب الزج باللغة العامية في محاولات تبسيط العلم، في تلك النقطة تحديدًا يجب أن ينصب اهتمامنا حول المحتوى المقدم وهل هناك إنتاج لمعرفة أصيلة متجذرة في أسس العلم ونابعة من مختبر علم النفس الإكلينكي الذي يقدمه الباحث/ المدون/ الكاتب/ الطبيب وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر طالما تمّ الترويج له، القاريء العادي والقاريء الغير عادي؟

ما طبيعة القارئ؟

كثيرا ما يتم الإشارة إلى القراء كجمهور غير مرئي وتصنيفهم قارئ عادي أو قارئ متخصص، في حقيقة الأمر لا يهمني على الإطلاق ذلك التصنيف الضيق.من ناحية أخرى، أود طرح إشكالية تمس العاملين في مجال العلاج النفسي تحديدًا، ألا وهى: طبيعة الآخر. الآخر هنا هو ذلك التراث الشعبوي المتأصل في رغبة البعض في معالجة “نفسك بنفسك”، وإن امتلكت بعض مهارات البحث على الانترنت، تمنحك القراءة والإطلاع “وهم” المعرفة غير المجربة التي تحيلك إلى إغراء “الفتى” بل ما هو أكثر من ذلك، لا تعد زيارة الطبيب النفسي على قائمة أولويات شريحة كبيرة من مجتمعنا لأسباب عدة لربما تستحق الدراسة لاحقًا. فكيف إذن وهناك محتوى يشبع تلك الرغبة في “معالجة” الجروح النفسية دون الرجوع لأهل الاختصاص والثقة لمجرد أن ذلك المحتوى لم يتم فرزه جيدًا.

لا زلتُ أُثمّن محاولات الاجتهاد والتعلم والتوثيق الفردي، لكني أجدها – من وجهة نظري- تضر أكثر ما تفيد الصورة الكلية للعلاج النفسي بأبعاده المتشابكة المعقدة، بل ضررها يقع على المعالج النفسي على عكس ما يظن.

سلطة الطبيب أم دور الكاتب؟

إن تقديم الكاتب نفسه كطبيب نفسي يجعلني كقارئ أرتبك أمام المحتوى وأساءله. هل حين يذكر الطبيب الكاتب مؤهلاته يريد أن يمارس سلطة ما أنه “يعرف” وأنه “يكتب” لأنه يعرف، أم هو بصدد تقديم إنتاجه الأصيل المعرفي في مجاله عن طريق الكتابة ولا يهم أي لغة يختارها أو أي وسيط، فلربما يلجأ للأدب على سبيل المثال. ولكى أخطو خطوة عبر هذا التشوش، قمت بقراءة شخصية لأربع كتب ل “أطباء نفسيين” يدلفون عالم الكتابة بدافع الفضول والنهم الشخصي المحض: الكتاب الأحمر لكارل يونغ، كتاب “دراما الطفل الموهوب” للطبيبة أليس ميللر، كتاب “التعافي من الصدمة”: بيتر لافين، كتاب: الجسد يتذكر الندبة للطبيب باسل فان دي كوك. إذا ما سيتم تصنيفي قبل القراءة، فأنا لست “قارئة متخصصة”، يمكن بكل أريحية ان يتم لصق “قاريء عادي” على مقدمة جبهتي. إن ما دفعني للبحث والنبش خلف تلك الكتب، ما وجدته في قراءة تلك الكتب الأربع السمات التالية:

  • يقوم الكاتب الطبيب بتقديم نفسه كطبيب ذاكرًا المدرسة العلاجية التي يختبرها في كتابه الحالي في أول صفحة من كتابه بما يساعدك على تأطير كل ما ستقرأه لاحقًا في ضوء “تجربته” و”سياقه”. هذا ليس تشوشًا أو حشوًا غير ضروري للقاريء “العادي”، في حقيقة الأمر إذا ارتضى الطبيب أن يقدم نفسه كطبيب وليس ككاتب، فأرى أنه من حقي كقاريء أن تخبرني أكثر “ما مدرستك العلاجية؟”. إن الاكتفاء باخبارنا أننا أمام طبيب نفسي، ليس بكافٍ، لأنه قد يثير لدى القاريء تساؤلًا، هل لأنك طبيب نفسي “انت تكتب لأنك تعرف وتخبرنا أنك تعرف”. العاملون ومتلقي الخدمة العلاجية يعلمون بضرورة التعريف بذلك. قد تكون تلك الخطوة التعريفية أحد أخلاقيات الجلسة العلاجية، لكنها تصبح ضرورة لا يمكن التغاضي عنها في الكتابة من داخل علم النفس. إذا كان الطبيب النفسي في الجلسة العلاجية يرى “حالته” أمامه، فهو حين يكتب مطالب بأن يرى أبعد من “حالته” ومن خلالها أيًضًا. لا يتعارض ذلك مع ما يطلق عليها “القاريء العادي”. حين يصبح الكتاب في متناول الجميع، فلا مكان للتمييز بين القراء لكن هناك إمكانية للتمييز في جودة العمل بين يديك.
  • تتسم تلك الكتابات بحضور إنساني، الطبيب يخبرنا بتجربته الشخصية مع “العلاج النفسي”، أليس ميللر تقدم نفسها كمريضة ثم كطبيبة درست سنوات وفق مدرسة التحليل النفسي لفرويد، ثم تمردت عليها. كقاريء أرى بوضوح حينئذ أين يقف الكاتب من مسرح التجربة. الكتاب الحمر لكارل يونغ، بالرغم من كونه كتاب يوميات وتمّ نشره بعد وفاته، إلا أنه يكشف لك جانبًا إنسانيًا ل”يونغ” أبعد من كونه طبيبًا نفسيًا لامعًا في تخصصه، حتى انك لتهوي شفقة من هول ما دوّنه في مذكراته ورحلته الذاتية. بيتر لافين ودي كوك يتشاركون معنا لحظات الارتباك والتشويش في عملهم الذي امتد لسنوات دون أن يلجأوا لمنح كبسولات “علاجية” مباشرة بالرغم من أن وقت كتابتهم الكتب المذكورة استكملوا تجربتهم بعدة سنوات.
  • يمتد الجانب الإنساني في الكتابة ليشمل كيف نتناول “الحالات”، فالأمر ليس استعراضًا جافًا لمعلومات متخصصة، بقدر ما ستحمله بكل مهنية وصدق وعدالة لقصة أصبحتُ ترويها الآن ليس بصوت من كان منذ بضعة ساعات/ أيام/ سنوات معالجًا بقدر ما ستمنحها تدفقًا محميًا بمعايير المهنية والخصوصية، ويمنح القاريء أيضًا صورة ذهنية قريبة لا استسهال فيها، لا إضفاء دراما لا تنميط لقالب جاهز بإطلاق صورة كاريكتورية لا سبيل لمعرفة حدوثها أم لا، لا استعجال لختم القصة كمن يروي حدوتة قبل النوم بالقفز على “حكمة العدد”. فيصبح لدينا الفرصة لأن نكتشف بمفردنا الثغرة، لأن نرى التطور في المرض النفسي سلوكًا ولغة وديناميكية ليس بين المعالج وحالته ولكن تتعدى ذلك لتشمل ما يضيفه متغير التعلم عبر الزمن أيضَا وتراكم المعرفة.
  • لا تشير أي من الكتب المذكورة و لا تخبر القاريء بما يتوجب عليه فعله، لا تنصحه أو تحلله أو تملي عليه تصرفات بعينها. تأتي الكتابة لتجعلك تتسائل، تلاحظ، تتمهل، تبطىء إيقاع الفعل لتمنح إمكانية للتأمل وتفتح الوعى وتجذره.

خاتمة..

هل يتوقف العاملون في مجال العلاج النفسي عن الكتابة؟ بالطبع لا .

دون محاولتهم واجتهاداتهم لم يكن لدينا النسيج الحالي من اللغة أو المحتوى أو خلق حالة جدلية حول ما نحب أو ما نود أن نحب قراءته، غير أنه كعلاقة ديالكتية بين قارئ نهم مهتم وبين ما يطرحه السوق من كتابات ك”منتج معرفي”، لا أملك سوى الرصد والملاحظة ثم المساءلة مع الاحتفاظ بمسافة آمنة لأن ينبت بداخلي وعيًا نقديًا لكل ما يُطرح.